جدل كبير في المغرب ... ما القصة؟
هل تحلّ اللغة "الدارجة" في المغرب مكان العربية الفصحى؟ وما هو مستقبل اللغة العربية هناك؟ جدل كبير في المغرب بعد إدراج كلمات من "الدارِجة" المغربية في المُقرّر الدراسي للمرحلة الإبتدائية. الصفحة الثقافية في الميادين نت أجرت تحقيقاً عن الموضوع، وحاولت تقصي حيثيات هذا الجدل.
الجدل حول اللغات في المغرب قديم ومتعدّد المستويات، فهو من جهةٍ علمي يتناول قضايا اللغات من حيث معجمها ونسقها اللساني وتداولها وكيفية تطويرها، ومن جهةٍ أخرى يتّخذ طابعاً قانونياً يناقش وضعيّة اللغات في المؤسّسات العمومية، وهو أيضا جدلٌ سياسي يناقش وضعيّة اللغة في الممارسة السياسية للدولة، كما يمكن أن يكون اجتماعياً وثقافياً إيديولوجياً مرتبطاً بالتركيبة الطبقيّة والتنوّع الثقافي والعِرقي في البلاد.
وقد طغى الجانب الإيديولوجي على هذا الجدَل عشرات السنين خصوصاً بين المُدافعين عن اللغة العربية والمروِّجين للفرنكوفونية ، والداعين إلى الاهتمام باللغة الأمازيغية واعتمادها لغة رسمية إلى جانب اللغة العربية.
وبالرغم من أن الدستور المغربي صريحٌ في مسألة اللغات ، إذ ينصّ على أنّ "العربية هي اللغة الرسمية للدولة" (......) و"الأمازيغية تعدّ أيضاً لغة رسمية للدولة"، فإن الصراع اللغوي مازال قائماً في المغرب بين ثلاثة محاور أساسية: الفركفونية والأمازيغية والدعوة إلى التعريب.
يعزو عددٌ من الدارسين هذا الصراع إلى الاستعمار الفرنسي وما خلّفه من اضطرابات في النسيج الاجتماعي المغربي. إذ يقول عبد العالي مجدوب، أستاذ اللغويات في جامعة مراكش إن:" الاستعمار الفرنسي خلّف في المواطنين تشوّهات وانحرافات حضارية وثقافية، ومنها التشوّه اللغوي الذي يطبع مختلف نواحي حياة المغاربة"، في حين يرى الباحِث اللساني ورئيس الائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية فؤاد بوعلي إنّ "التراجُع عن مسار التعريب، ودعوات ترسيم اللهجة العامية في المدارس، واحتضانها من قِبَل الدوائر الثقافية الفرنسية، ورعاية التيارات الأمازيغية، إضافة إلى التدخُل الفرنسي المباشر في الشأنين الثقافي والتعليمي في البلاد، يؤكّد حقيقة قوّة اللوبي الفرنكوفوني في البلاد".
"قاموس عيّوش"
مؤخّراً، أثار إدراج كلمات من "الدارِجة" المغربية في المُقرّر الدراسي للمرحلة الإبتدائية كثيراً من الجدَل والاستنكار خاصة في مواقع التواصل الاجتماعي، التي تداول نشطاؤها صوَراً لصفحاتٍ من مقرّرات العام الدراسي الجديد تُظهر إدراج كلمات من العامية المغربية مثل "البريوات" و"البغرير" و"الغريبة" وهي حلويات ومعجّنات تقليدية مغربية، و"الشربيل" وهو حذاء تقليدي. بالإضافة إلى عبارات بالعاميّة مثل "تذهب لَلاّ نمّولة إلى الحمام، تُسَخِّنُ عظيماتها" (لَلَّا تعني سيّدتي). كما تمَّ تداولُ صورة لصفحةٍ من كتابٍ مدرسي لمادة اللغة الفرنسية يتضمّن ترجمة جُمَل فرنسية إلى الدارِجة المغربية باستعمال الحرف العربي واللاتيني في الترجمة.
هذه الصوَر المتداولة أثارت غضباً وسخرية كبيرين بين نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، وكان وراءها مثقّفون وفاعلون جمعويون وآباء وأمّهات التلاميذ. وكان لهذا الجدَل الاجتماعي أثره في التحرّك الكبير وعلى مستويات عدّة في المغرب.
نور الدين عيّوش، عضو المجلس الأعلى للتعليم (هيئة دستورية مستقلّة ذات طبيعة استشارية للتفكير الاستراتيجي في قضايا التربية والتكوين والبحث) وحامل لواء إدراج الدارِجة في المنظومة التربوية، أبدى استغرابَه من الضجّة الكبيرة التي أثيرت حول "كلمات بسيطة بالدارِجة المغربية"، مُعبّراً عن سعادته لقرار وزارة التربية الوطنية توظيف بعض الكلمات الدارِجة في المُقرّر الدراسي للمستوى الإبتدائي، مُستطرداً "نطمح لأكثر من هذا، لأننا إن أردنا أن يُتقن التلاميذ اللغة العربية الفصحى عليهم أن يدرسوا الدرِاجة أسوة بالعديد من الدول في إفريقيا وآسيا وأوروبا"، مؤكّداً "نريد للدارِجة أن تكون لغة المستقبل". كما أشار إلى أنه بصدَد التفكير في تنظيم مؤتمر يجمع مختّصين من المغرب وتونس والجزائر لمناقشة "كيفية إخراج قواعد اللغة العربية والقاموس اللغوي بالدارِجة".
وكان "مركز تنمية الدارِجة" بزاكورة الذي أسّسه عيّوش قد أصدر عام 2016 قاموساً للدارِجة المغربية "بعد أربع سنوات من الاشتغال عليه من قِبَل باحثين في مجال اللغات واللسانيات"، وأعلن المركز أن "هذا القاموس فرضه واقع تطوّر الدارِجة وتوسّعها في مجالات كثيرة ودخولها في ميدان الكتابة في الصحافة والآداب والإشهار والأنترنت". وقد اشتهر هذا القاموس في الإعلام المحلي المغربي بــ "قاموس عيّوش"، ولم يسلَم من النقد بل السخرية من قِبَل مُهتمين بالشأن اللغوي والتربوي في المغرب؛ فقد وصف رئيس فيدرالية ناشري الصحف في المغرب، نور الدين مفتاح "قاموس عيّوش" بـ"المسخ اللساني"، و"السوقيّة"، مُعتبراً أنه يتضمّن مُصطلحات "سوقيّة وكلاماً ساقطاً لا يستطيع المغربي أن يقوله أمام والدته أو أخيه أو أبيه أو في اجتماع أو في المدرسة لما تضمّنه من ألفاظ نابية".
هذا في حين رأى آخرون أن إصدار ذلك القاموس كان تمهيداً للخطوة التي فوجئ بها الرأي العام المغربي، وهي إدراج الدارِجة في المُقرّر الدراسي.
كيف كانت ردود أفعال النُخَب المغربية؟
وفي حين امتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بعددٍ هائلٍ من المواد الساخرة تمثلت في كتابة "تقارير" و"رسائل إدارية " و" قصائد " وإنجاز سكيتشات بلغةٍ هجينة اعتُمد فيها المزج بين العاميّة والفُصحى، وقُدّمت على أنها تعتمد "لغة عيوش" التي يُراد للمغاربة اعتمادُها مستقبلاً، فإن عدداً من المثقّفين والفُقهاء واللسانيين شاركوا في الجدَل الدائر متّفقين على رفض تلك الخطوة واعتبارها "أمراً مغرضاً يجب التصدّي له".
ولعلّ أبرز ما أفرزه هذا الحدث إعادة تداول مناظرة تلفزيونية سابقة باهتمامٍ كبيرٍ بين المؤرّخ والمفكّر عبد الله العروي ونور الدين عيّوش شدّت إليها أنظار المغاربة. وقد تبنّى العروي في تلك المناظرة الدعوة إلى لغة عربية مبسّطة ، بينما اقترح عيوش لغة وسطاً بين الدارِجة والعربية الفُصحى داعياً إلى استعمال اللغة الأمّ في المراحل التعليمية الأولى بدلاً من الفُصحى، عازياً الغاية إلى أن الطفل يجد صعوبة في التواصل مع معلّمه الذي يستعمل لغة مختلفة عن لغة البيت.
وهذا - في نظره - سبب في ارتفاع نسبة التسرّب المدرسي. عيّوش استعان لتدعيم رأيه حينها بتأكيد اليونيسكو على أهمية استعمال لغة الأمّ في التعليم الأوليّ. هذا استدعى ردّاً من العروي الذي أكّد رفضه لأن تصبح الدارِجة "لغتنا الوطنية"، لأن ذلك "سيفصلنا عن ثقافتنا العليا ومحيطنا الثقافي العام"، مُضيفاً "أرى أن العاميّة المغربية لا تستطيع أن تكون لغة الثقافة الرفيعة ومتقدّمة في مستوى اللغات الأجنبية، فأنا غير مستعدّ لأن أفرّط في لغة دولية (العربية) يتحدّث بها 300 أو 400 مليون من الأشخاص وكلّهم يشتغلون عليها، وستكون في يومٍ من الأيام في المدى القريب أو البعيد في مستوى اللغات الأخرى". كما أشار العروي إلى أن أزمة التعليم غير مرتبطة باللغة العربية الفصحى أو الدارِجة، فكل دول العالم تعيش أزمة في قطاع التعليم، موضحاً أن الدارجة مجرّد لغة فلكلورية شفوية، من الصعب كتابتها، وهي غير عملية، موضحاً أن "الناس حينما يذهبون إلى المدرسة فبغرض تعلّم الكتابة".
أما المُقرئ الإدريسي أبو زيد وهو برلماني وأستاذ اللسانيات، انتقد خطوة نور الدين عيّوش ودعاه إلى "الذهاب إلى الفرنسية التي يعشقها"، متّهماً عيّوش بأنه "فقير إلى العِلمية وكلامه لا يعدو كونه غزلاً في الدارِجة".
أبو زيد عزا "غرام" عيّوش بالدارِجة إلى كونها "مغزوّة بالألفاظ الفرنسية"، وأن اقتراح الدارِجة "وضعه المستعمرون ومستشاروهم لضرب العربية". كما اعتبر هذه الخطوة "ردّة وانتكاسة وانحطاطاً ومسخاً يخالف إجماع النُخَب المغربية"، في حين أن العربية الفصحى "هي لغة التدريس".
من جانبه، علّق رئيس المجلس العلمي في مدينة وجدة الشيخ مصطفى بنحمزة، في مقال مطوّل له نُشِرَ في موقع حركة التوحيد والإصلاح أكّد فيه إن "الدعوة إلى اعتماد العامية تتأسّس على خطأ معرفي كبير هو توهّم تكافؤ العامية مع الفصحى". الشيخ بنحمزة وصف الدعوة بأنها "غير بريئة وهي محاولة لاقتلاع الإنسان المسلم من ثقافة أمّته وعزله ثقافياً وشعورياً ليسهل تشكيله وإلحاقه بأي نموذج ثقافي آخر".
في حديثه للصفحة الثقافية في الميادين نت قال الباحث التربوي في أكاديمية الشرق عبد الرحيـم كلموني "لا ندافع هنا عن التدريس بالدارِجة لأن ذلك غير ممكن أصلاً لأسبابٍ لغوية وثقافية، ولكن تدريس العربية في العالم العربي يعاني أكثر فأكثر لأسبابٍ كثيرة منها تدني جودة التعليم وشيوع التكنولوجيا والوسائط الحديثة وتخلّف الإعلام وتسارُع التحوّلات الثقافية والقِيَمية، وهذا أمر يستدعي تطوير اللغة العربية وتأهيلها والتخلّي عن الأوهام الإيديولوجية المرتبطة بها عن طريق تيسير النحو وتبسيط القواعد ، ودعم القرائية وتحسين تدريس اللغة عن طريق البحث والاستفادة من الدراسات والأبحاث الحديثة، والمراجعة الدائمة للمقرّرات الدراسية".
كلموني أضاف "لا يعقل أن تظلّ المقرّرات تفبرك في مُدَدٍ قياسية ولا تخضع لأي تجريب أو تجويد، ثم تترجم في كتب تُسوَّى على عَجَل في عملية سباق ضد الساعة لتصادق عليها لجان شبحية مجهولة الإسم والعنوان وبالسرعة ذاتها لتُعمِّر بعد ذلك العمرَ المديد من دون متابعة ولا تقويم ولا مواءمة ضداً على ما هو مدبّج في الوثائق الرسمية (.......) والنظام التعليمي المغربي يعاني تردياً شديداً بفعل أمراض حادّة ومزمنة جرّبت معها الكثير من الوصفات، والأدوية غير المناسبة ، إلا أن المعاناة لم تتوقّف ليس فقط من شدّة الداء، بل كذلك من الآثار الجانبية للدواء. ولقد عمّت الفوضى هذا القطاع العليل المُسمّى من دون وجه حق منظومة (........) وتوالت عليه النكبات و"محاولات الإصلاح" الفاشلة التي رغم التكلفة المادية لم تهتد لعلاجٍ شافٍ لقطاعٍ نخرته الأدواء ولا حتى لتشخيصٍ سليمٍ لأن حسن التشخيص هو نصف العلاج. وهذا الوضع الكارثي يستدعي نقاشاً حقيقياً يساهم فيه المُهتمّون والنُخَب الفكرية والخبراء من لسانيين ومخطّطي برامج وبيداغوجيين لأنه، مع الأسف الشديد، تُرِكَ الشأن التعليمي للسياسيين والذين تشغلهم الحسابات السياسوية والأزمات الداخلية لتنظيماتهم أكثر مما تشغلها الأسئلة الكبرى التي تهم حال الأمّة ومآلها، وفي مقدّمها التعليم".
من جانبه، اعتبر موسى الشامي، وهو أستاذ اللسانيات ورئيس جمعية حماية اللغة العربية سابقاً، اعتبر في حديثه للصفحة الثقافية في الميادين نت أن "لغة التداول والتخاطب اليومي ليست هي لغة القراءة والكتابة التي تحتاج إلى تفكير وروية وإلى لغة قوية، عالمة ودقيقة"، مؤكداً أن "الذين ينادون بالتدريس بالدارجة، هم أناس لا يفقهون شيئاً في اللغة العربية العالمة، ولا في تراثها الهائل لأنهم ببساطة تخرجوا من مدارس فرنسية ولن يبعثوا فلذات أكبادهم إلى المدرسة العمومية حيث يريدون لهذه الدارجة أن تسود".
يُذكَر أن وزارة التربية المغربية أصدرت بلاغاً توضيحياً قالت فيه إن اعتماد مفردات مُستقاة من الثقافة المغربية "يجد تبريره في المنطلقات البيداغوجية الخاصة بالنصّ موضوع النقاش، الذي يصف حفل عقيقة يفرض الاحتفال به ارتداء أعضاء الأسرة لباساً مغربياً أصيلاً وتناول حلويات مغربية، وكان ذلك مبرّراً لتوظيف كلمات تستعمل في جميع اللغات من دون أن تُترجَم، مضيفة أن الأمر يتعلّق فقط بثماني كلمات في كتاب مدرسي من 150 صفحة يحتوي على أزيد من 8000 كلمة".
ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]