في ضيافة القاعدة ـ الجزء الخامس

يروي الزميل أبي ولد زيدان رحلته إلى الشمال المالي حيث تسيطر حركات إسلامية مسلحة علي ذلك الإمتداد الصحراوي من الحدود الموريتانية حتى الجزائر. الرحلة لا تخلو من مفارقات ومواقف يرويها على حلقات.

مراسل الميادين في تمبكتو

... على عكس الشوارع الرئيسية في المدينة يعج السوق الرئيسي بالحياة... باعة متجولون، ونظراؤهم يفترشون الأرض على غير هدى، وآخرون في حوانيتهم يبيعون ويشترون...الحركة التجارية لم تتأثر بالوضع السياسي الجديد، لا بل شجّعها أكثر من خلال تزايد عمليات التهريب عبر الحدود الجزائرية بعدما أسقط الإسلاميون التعامل بقوانين الجمركة.فقط "الشرطة الإسلامية" حلّت محلّ الشرطة المالية، بزيّهم الخاص تعرفهم عن باقي أفراد تنظيم القاعدة. كلمة "الشرطة الإسلامية" مكتوبة بخط عربي أبيض على ظهور قمصانهم الزرقاء...يحملون مدافع رشاشة ويتجولون في الأسواق، بالنسبة لسنده بوعمامه هي "تجربة جديرة بالإهتمام، حيث إن إدارة المدن هي آخر ما كنّا نفكر فيه" يقول.

سنده يواجه متاعب جمّة، فهو الناطق الرسمي باسم الجماعة، لكنه في الحقيقة كلّ شيء، أو هذا على الأقل ما يتبدّى للوهلة الأولى...أينما ذهبتَ تجده، مشغول بالمولدات الكهربائية المتعطلة في غالبها، والمستشفى الوحيد المفتقد لكلّ المستلزمات الرئيسة - وإن حصل بعض التحسن في الفترة الأخيرة - ومهتم كذلك بـ"ضيوف من نوع خاص في زيارة للمدينة هذه الأيام".. من هم؟ وماهي مهمتهم؟ ذاك واحد من أسرار سنده التي يصعب فك طلاسمها... ربما، هم بعض قادة التنظيم، الذي يحاول سنده جاهداً أن يقيم مسافة معه، على الأقلّ في ما يتعلق بالتسمية في وسائل الإعلام. بحسبه تنظيم أنصار الدين هو تنظيم مستقل عن تنظيم القاعدة. لكن ميدانياً الحقيقة تبدو عكس ذلك.

أبو بكر الجلاّد.. والمرح

"جليبيب" مجرد واحد منهم، عرّفني بنفسه، قائلاً: "أنا موريتاني الجنسية والمسؤول الإعلامي لتنظيم القاعدة"... شاب نحيف الجسم طيب الروح ذو أخلاق عالية، يتكلم بشكل دائم وحتى من دون حذر في بعض الأحيان، ولحديثه سحر خاص... حين يتكلم عن رفاقه تشعر أنه يخرجهم من دائرة البشر العاديين.

جليبيب ليس الشخص الوحيد الذي جمعتني به علاقة طيبة، خلال هذه الرحلة ففضلاً عن صديقي آدم وأبو ذر هناك أبو بكر.. "الجلاد". موريتاني الجنسية هو الآخر.. له تحليله الخاص للأمور... بالنسبة له المستقبل في المنطقة لتنظيم القاعدة، حتى موريتانيا "سيأتي قريباً اليوم الذي تصبح فيه إمارة تابعة للتنظيم"."لقد صار بيدنا السلاح الجيد ولدينا الإرادة الصلبة، وقد لقنّا الجيش الموريتاني درساً لن ينساه... "كانت معركة "وقادو" فتحاً مبيناً لنا، مع أن وسائلنا كانت متواضعة جداً آنذاك، سيارة واحدة ودراجة نارية وحمار... فقط" يقول.

يقضي أبو بكر معظم وقته في إجبار سيدات وفتيات تمبكتو على تغطية رؤوسهن في الشوارع... يحمل في يده سوطاً صغيراً لضرب من تتلكأ في تنفيذ أوامره... ومع صرامته الزائدة التي جعلت البعض يلقبه بـ"الجلاّد"، فهو شخص مرح في بعض الاحيان، ويحفظ الكثير من الغناء الشعبي الحساني.

الحديث مع أبو بكر وزملائه، يكسر رتابة الحياة الجديدة في تمبكتو، حديث لا يقف عند أي حدود، وأحياناً كثيرة يأخذ طابع حديث الأصدقاء...فهم طيبون لدرجة عالية، ومن دون أن تحس بأي مجاملات مصطنعة، يحاولون جعلك تعيش الحياة معهم بكل عفوية وصدق، رغم الحساسية المفرطة تجاه الموريتانيين المفترض هنا أنهم كلهم جواسيس، حتى يثبت العكس.

مرة كان معنا جليبيب، كان الحديث متشعباً وشيّقاً، وفجأة توقفت سيارة على الجانب الآخر من الشارع.. نادوه فذهب اليهم، ولما عاد سألني: أتعرف من في السيارة؟ قلت لا.

قال: عبد الحميد أبو زيد... راقبت السيارة التي ذهبت، وفي طريق عودتها كانت خالية إلاّ من سائقها... لقد ضاعت الفرصة.

كنت أعرف مسبقاً أن لقاء القيادات من الصف الأول في التنظيم لن يكون أمراً سهلاً، لكني أدركت الحقيقة كاملة بعد يومين فقط ... كنا نصوّر مشهد هدم ما يعتبره بعض سكان تمبكتو "أضرحة ومزارات تاريخية" بجوار مسجد "جنكر أبير"، فيما يعتبره حكّام تمبكتو الجدد مجرد "زوائد إضافية في المسجد عظمها بعض الجهلة فصارت لها قداسة مزيفة ينبغي إجتثاثها قبل أن تتطور إلى معبود من دون الله".

كان مشهد الهدم احتفالياً لدى القادة الجدد.. عبارات التكبير ترافق كلّ انطلاقة للفأس إلى أعلى قبل أن تتنزل إلى قطع الطين الذي بدا ضعيفاً أمام الإرادة الجديدة..

فجأة إتخذ قرار على عجل.. أغلقت الطرق المؤدية لمسجد "جنكر ابير"، وصودرت الكاميرا، وطلبوا منّا المغادرة إلى الفندق بانتظار التعليمات اللاحقة.

العودة إلى الفندق هي أشبه بالعودة الى السجن. وكثيراً ما نقضي معظم الوقت تحت الأشجار الظليلة أمامه في مقابل الشارع الرئيسي، هنا على الأقل نحس بنبض الحياة في المدينة، بدل الغرف المغلقة في غياب الكهرباء.ربما لهذا السبب توطدت علاقاتي بأغلب "الأصدقاء الجدد"، فكلّما مر أحدهم مع الشارع جلس معنا لبعض الوقت وأحياناً نشرب الشاي على طريقة سكان المنطقة...ثلاث كؤوس متتالية هي فرصة جيدة للحديث مع أشخاص كل كلمة تصدر منهم لها قيمتها الخاصة.. من خلال هذه الجلسة، عرفت أن مجلساً عالي المستوى إنعقد على عجل، ومازالت المداولات جارية لحسم موضوع الكاميرا المصادرة.

هدم مسجد "جنكر أبير"

مقابلة القيادات الكبار.. حكرٌ على "الإعلام النزيه"

في تمبكتو لقاء القادة الكبار ممنوع إلا على "الإعلام النزيه"

في اليوم التالي جاء الخبر. إجتماع آخر سيعقد مع "الزملاء الصحفيين" داخل الفندق.

بدأ الإجتماع.. كان المتدخل الأول "رضوان" رئيس الجلسة، وعضو المجلس القضائي الجديد في تمبكتو... كان بجواره أبو تراب، العضو الثاني في المجلس القضائي.

بدأ رضوان حديثه بحمد الله وشكره ثم خلص إلى موضوع الحريات الإعلامية، فقال إنهم في تمبكتو يرحبون بأي وسيلة إعلامية تدخل الإقليم من دون مراقبة ولا تقييد، لكنه ما يلبث أن يضيف "من خلال تجاربنا السابقة خصوصاً مع بعض وسائل الإعلام الفرنسية والجزائرية، إتضح أن هناك حملة تشويهية تستهدف مشروعنا السياسي والثقافي، ولذلك فمصادرتنا للكاميرا اليوم ليست مصادرة إنّما توقيفاً مؤقتاً عن العمل في انتظار رسم خطة مستقبلية للتعامل مع وسائل الإعلام... وبعد نهاية الإجتماع يمكنكم استلام الكاميرا والشريط".

كانت كلمات السيد رضوان منتقاة بشكل جيد، أبو تراب يهز رأسه موافقاً ومستحسناً كلّ ما يقوله رفيقه... من الواضح أنّها مقدمة لموضوع آخر لم يفصح عنه بعد...

"نحن نعرف أن الإعلام سلاح ذو حدين... ولكن للأسف هناك من تفرش له الورود وتعطيه كل التسهيلات وفي النهاية يحرف الواقع لمصلحة خاصة به كما فعل معنا قبل أسبوع مراسل إذاعة فرنسا الدولية الذي تحمّلنا كل تكاليف إقامته وضيافته، وطعننا من الخلف".

بدأت الحكاية تتضح شيئاً فشيئاً، كانت تلك مجرد البداية، إنتهت فقرة التلميح وبدأت فقرة التصريح: "أولا لا تحلموا بمقابلة قيادات الصف الأول على الأقل في المرحلة الراهنة، كل المدينة مفتوحة أمامكم صوروا كما تشاؤون لكن لا تنسوا أن لدينا امتيازات خاصة سنعطيها لمن كان نزيهاً في التعامل معنا".

نطق الرجل جملته وهو يحرّك أصابعه كمن يحركها وهو يحسب رزمة نقود!

"حتى الآن وسيلتان إعلاميتان فقط أثبتتا أنهما موضوعيتان في هذا الملف وبالتالي هما وحدهما من يستحق هذا الإمتياز الخاص: الجزيرة ومؤسسة صحراء ميديا".

يتبع...

اخترنا لك