وداعاً..."جبل الفنّ الصافي"
الموت يغيّب الفنان وديع الصافي الذي كان له الدور الكبير في ترسيخ قواعد الغناء ونشر الأغنية اللبنانية، و"الصافي" يحمل أيضاً ثلاث جنسيات المصرية والفرنسية والبرازيلية، إلاّ أنه يفتخر بلبنانيته، ويردد أنّ "الأيام علمته بأن ما أعزّ من الولد إلا البلد".
طوى الفن صفحة من أبهى صفحاته في تاريخِ الغناءِ العربي، من صوت صدح قائلا "لبنان يا قطعة سما"، حاملاً إلى سماءاتِنا العربية صدقِ فنِّه، وقضايا أمته، من دونِ تفرقة، فكان وطنياً في لحنه، موحِّداً في كلمتِه، ووصياً للاجيال في رسالتِه، بحفظ الارض والوطن والانسان.
هوى وديع الصافي الذي يعدّ "جبلاً " من جبالِ لبنانَ الشامخة، بفعل المرض عن عمرٍ يناهز الاثنين والتسعين عاماً ليبقى صوتُهُ على مدى الأزمان.
ولد الفنان وديع فرنسيس، المعروف باسم وديع الصافي، في 24 تموز/ يوليو عام 1921 في قرية نيحا الشوف اللبنانية، وهو الإبن الثاني في ترتيب العائلة المكونة من ثمانية أولاد.
عاش طفولة متواضعة يغلب عليها طابع الفقر والحرمان، وفي عام 1930، نزحت عائلته إلى بيروت ودخل وديع الصافي إلى مدرسة دير المخلص الكاثوليكية، وبعدها بثلاث سنوات، اضطر للتوقّف عن الدراسة، لأن جوّ الموسيقى هو الذي كان يطغى على حياته من جهة، ولكي يساعد والده من جهة أخرى في إعالة العائلة.
بدأت مسيرته الفنية عام 1938، حين فاز بالمرتبة الأولى لحنًا وغناءً وعزفًا، من بين أربعين متباريًا، في مباراة للإذاعة اللبنانية، أيام الانتداب الفرنسي. واختارت اللجنة الفاحصة آنذاك، اسم "وديع الصافي" إسماً فنياً له، نظرًا لـ"صفاء صوته". كما طلبت إليه الانتساب رسمياً إلى الإذاعة.
بدأت مسيرته الفنية بشقّ طريق للأغنية اللبنانية، التي كانت ترتسم ملامحها مع بعض المحاولات الخجولة قبل الصافي، عن طريق إبراز هويتها وتركيزها على مواضيع لبنانية وحياتية ومعيشية. وذاع صيته عام 1950 وأصبح أول مطرب عربي يغني الكلمة البسيطة وباللهجة اللبنانية، بعد أن أضاف إلى أغانيه موّال الـ"عتابا" الذي أظهر قدراته الفنية.
في خمسينيات القرن الماضي، قال عنه الفنان محمد عبد الوهاب، حين سمعه يغني: "من غير المعقول أن يملك أحد هكذا صوت". ولُقب بـ"صاحب الحنجرة الذهبية"، وقيل عنه في مصر إنّه "مبتكر المدرسة الصافية (نسبة إلى اسمه وديع الصافي)، في الأغنية الشرقية."
وفي أواخر الخمسينات شارك مع عدد كبير من الموسيقيين اللبنانيين في عمل لنهضة الأغنية اللبنانية انطلاقًاً من أصولها الفولكلورية، من خلال مهرجانات "بعلبك".
وفي عام 1975 اندلعت الحرب الأهلية في لبنان، فغادر الصافي بلده إلى مصر بعد عام، ثمّ انتقل إلى بريطانيا، ليستقرّ عام 1978 في باريس. وكان سفره "اعتراضًا على الحرب الدائرة في لبنان"، ودافع في تلك الفترة عن لبنان الفن والثقافة والحضارة من خلال موهبته.
يحمل الصافي ثلاث جنسيات المصرية والفرنسية والبرازيلية، إلى جانب جنسيته اللبنانية، إلاّ أنه يفتخر بلبنانيته، ويردد أنّ "الأيام علمته بأن ما أعزّ من الولد إلا البلد".
كرّمه أكثر من بلد ومؤسسة وجمعية، وحمل أكثر من وسام استحقاق منها ستة أوسمة لبنانية منها وسام الأرز برتبة فارس. كما منحته جامعة "الروح القدس" دكتوراه فخرية في الموسيقى في 30 حزيران/يونيو 1991. كما أحيا الحفلات في شتّى البلدان العربية والأجنبية.
كان له الدور الرائد بترسيخ قواعد الغناء اللبناني وفنه، وفي نشر الأغنية اللبنانية في أكثر من بلد. حيث أصبح مدرسة في الغناء والتلحين، ليس في لبنان فقط، بل في العالم العربي أيضًا.