العقوبات على روسيا تربك الاقتصاد الأوروبي.. أين تكمن نقاط الضعف؟
العقوبات التي فرضها الغرب على روسيا، في أعقاب إعلان بدء الأخيرة عمليتها العسكرية في أوكرانيا، تجاهلت حجم التأثيرات السلبية في دول الاتحاد الأوروبي.
على خلفية انطلاق العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، شرعت الدول الأوروبية في تنفيذ تهديداتها بفرض عقوبات اقتصادية على روسيا، كورقة ضغط للتضييق عليها وإجبارها على الانسحاب من أوكرانيا.
تقارير تحدثت عن حجم الآثار السلبية التي ستخلّفها العقوبات الأوروبية على الاقتصاد الروسي، بينما هدد البعض بـ"عزلة روسيا" في المرحلة المقبلة. لكن في المقابل، إذا ما رأينا الجانب الآخر من أثر العقوبات السلبي على العالم، فستشاطر أوروبا روسيا هذه العزلة.
اعترف بذلك رئيس المجلس الأوروبي، شارل ميشيل، حين قال إنّ العقوبات التي فُرضت على روسيا ستؤثر في أوروبا أيضاً، مشدداً على ضرورة الاستعداد لذلك.
وقال ميشيل، في كلمة له أمام البرلمان الأوروبي: "تداعيات العقوبات ستؤثر بصورة كبيرة في روسيا. لقد حشدنا جهودنا لمنع استخدام احتياطات البنك المركزي الروسي. العقوبات ستؤثر فينا أيضاً، وعلينا أن نكون مستعدين لذلك".
النفط والغاز... أكبر مخاوف أوروبا
ما زالت أوروبا تعتمد على النفط والغاز الروسيين، وخصوصاً أنّ البدائل الأخرى لا تزال بعيدة المنال وأكثر تكلفة.
ويمثّل الغاز الروسي أكثر من 40% من واردات الغاز الأوروبية. وقد يؤدي نضوب الغاز، جراء عقوبات غربية أو إجراءات مضادة روسية، إلى زيادة أكبر في تعرفة الطاقة لملايين الأُسر، كما سيؤدي قطع موسكو عن أنظمة الدفع الدولية إلى تعقيد مدفوعات أوروبا في مقابل وارداتها من الغاز التي يأتي أكثر من ثلثها من روسيا.
ويرى محللون أن معاقبة خصم في الجهة الأخرى من العالم أسهل دائماً من معاقبة جار، مشيرين إلى أنّ ما يمكن أن تخسره أوروبا عبر فرض عقوبات على روسيا أكبر من خسارة حليفها الأميركي.
ويقول مدير معهد "بروغل"، غونترام وولف، لوكالة "فرانس برس"، إنّ "من الواضح أنّ أوروبا تعرّض نفسها لخسائر أكثر من الولايات المتحدة، لأنّ القرب الجغرافي يقترن بروابط اقتصادية وأمنية وثيقة".
انعكاسات على أسعار الأغذية العالمية
ظهر جلياً، في أعقاب الأزمة الأوكرانية، ارتفاع واضح في أسعار الأغذية العالمية، بحسب تقرير نشرته منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة، حتى وصل إلى أعلى مستوى له على الإطلاق، حيث تصدّرت الزيوت النباتية ومنتوجات الألبان هذا الارتفاع.
وبحسب مؤشر منظمة الأغذية والزراعة، زادت أسعار الأغذية بنسبة 3.9% عن مستواها في كانون الثاني/يناير، وأعلى بنسبة 20.71% من مستواها في العام الماضي، وقاد مؤشر منظمة الأغذية والزراعة لأسعار الزيوت النباتية هذه الزيادة، إذ ارتفع بنسبة 8.5% عن الشهر الماضي ليصل إلى مستوى قياسي جديد.
وكان متوسط مؤشر منظمة الأغذية والزراعة لأسعار منتوجات الألبان أعلى بنسبة 6.4% في شباط/فبراير مقارنة بكانون الثاني/يناير. وارتفع مؤشر منظمة الأغذية والزراعة لأسعار الحبوب بنسبة 3.0% عن الشهر الماضي، مدفوعاً بارتفاع عروض أسعار الحبوب الخشنة، مع ارتفاع الأسعار الدولية للذرة بنسبة 5.1%، وذلك بسبب التوترات الموجودة في أوكرانيا وعدم ضمان وصول صادرات الذرة منها، وارتفاع أسعار تصدير القمح.
وارتفعت الأسعار العالمية للقمح بنسبة 2.1%، وهو ما يعكس إلى حد كبير حالة عدم اليقين بشأن تدفقات الإمدادات العالمية من موانئ البحر الأسود. وارتفعت الأسعار الدولية للأرزّ بنسبة 1.1%، كما ارتفع مؤشر منظمة الأغذية والزراعة لأسعار اللحوم بنسبة 1.1%.
وقال خبير اقتصادي في المنظمة "إن المخاوف بشأن ظروف المحاصيل وتوافر الكميات الملائمة المتاحة للتصدير لا تفسّر إلّا جزءاً من الزيادات الحالية في الأسعار العالمية للأغذية، ويأتي الحافز الأكبر لتضخم أسعار الأغذية من قطاعات خارج الإنتاج الغذائي، ولاسيما قطاعات الطاقة والأسمدة والأعلاف. وتميل كل هذه العوامل إلى تضييق هوامش ربح منتجي الأغذية، الأمر الذي يثنيهم عن الاستثمار وتوسيع نطاق الإنتاج".
ويقيس مؤشر منظمة الأغذية والزراعة لأسعار الأغذية متوسط الأسعار على مدار الشهر. ولهذا، فإنّ أرقام شهر شباط/فبراير تتضمن على نحو جزئي فقط تأثيرات السوق الناجمة عن الصراع القائم في أوكرانيا.
مصالح الشركات الأوروبية في مرمى التأثيرات السلبية للعقوبات
قد يكون من السهل بمكان على الولايات المتحدة تصعيد عقوباتها الاقتصادية على روسيا بسبب ضآلة حجم التبادل التجاري والتبادل الاستثماري بين البلدين، لكن الوضع في الاتحاد الأوروبي مغاير، إذ إنّ الروابط الاستثمارية والمصالح الاقتصادية المتبادلة أعمق، فهناك شركات أوروبية متعددة تعمل في السوق الروسية، بحيث تنشط فيها 6000 شركة ألمانية، كما قدرت الوظائف المرتبطة بعلاقات ألمانيا بروسيا اقتصادياً بنحو 400 ألف وظيفة.
والأمر نفسه ينسحب على دول أوروبية أخرى، لكن ليست كل الدول في قوة الاقتصاد الألماني، الذي يمكنه التأقلم مع الظروف المستجدة. فمن الصعب على دول مثل اليونان أن توقف تعاملاتها الاقتصادية مع روسيا، إن لم تكن هناك سياسات تعويضية تتبناها أوروبا تجاه هذه البلدان.
والتساؤل الأساسي في هذا المجال هو: هل اقتصاد أوروبا، الذي لم يتعافَ بعدُ من تأثيرات جائحة كورونا، على استعداد لمواجهة مشكلة جديدة قد تساعد ولو بشكل ضعيف في استمرار ضعف التعافي؟
اعتبرت صحيفة "فاينانشيال تايمز" البريطانية أنّ فرض عقوبات أميركية أو غربية ضد روسيا يمكن أن يُلحق أضراراً كبيرة بالاقتصادات الأوروبية، ولاسيما في قطاعات الطاقة والتجارة والتصنيع والبنوك والأسواق.
واستهلت الصحيفة تقريراً لها في هذا الشأن، بالقول: "منع تدفق الغاز إلى أوروبا لا يزال الورقةَ الاقتصادية الرابحة لموسكو، إذا فرض الغرب عقوبات أكثر صرامة ضدها، غير أن ضعف الاتحاد الأوروبي أمام الإجراءات المضادة من جانب الكرملين قد يمتد إلى ما هو أبعد من الطاقة".
وأضافت أنّ صانعي السياسة في أوروبا يخشون من أن الكتلة تبدو أقل استعداداً من موسكو، إذ تهدف استراتيجية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تحت اسم "حصن روسيا"، إلى مساعدة البلاد على تجاوز أي عقوبات أعمق وأكثر صرامة.
الصحيفة رأت أنّ "أضرار الاقتصادات الأوروبية قد تشمل موردي التكنولوجيا والمقرضين لمصدري السلع، والمصنعين المعتمدين على المواد الخام، الأمر الذي قد يزيد في تعقيدات الروابط التجارية والضغوط التضخمية، ويحدّ نشاط مجموعة واسعة من الشركات الأوروبية".
أوروبا تخشى الضرر الاقتصادي إذا تم فرض عقوبات شديدة على روسيا
نشرت وكالة "بلومبيرغ" مقالاً تحت عنوان "أوروبا تخشى أن تتضرر اقتصادياً إذا تم فرض عقوبات شديدة على روسيا"، جاء فيه أنّ بعض الدول الأوروبية الكبرى قلقة بشأن التداعيات الاقتصادية، إذ أعرب أعضاء رئيسيون في الاتحاد الأوروبي عن مخاوفهم بشأن احتمال إلحاق الضرر باقتصاداتهم.
ولفت المقال إلى أنّ الدول الأوروبية تشعر بالقلق أيضاً من أنّ روسيا قد ترد على الأرجح، وربما تقطع إمدادات الغاز المهمة عن قارة تعاني بالفعل ارتفاعاً قياسياً في أسعار الطاقة، وقال: "سيتعين الموافقة على الجزء الأكبر من أي استجابة على مستوى الاتحاد الأوروبي بالإجماع من جانب جميع الدول الأعضاء البالغ عددها 27، وهي مجموعة لها وجهات نظر متباينة بشأن روسيا بشكل عام".
وبحسب الموقع، يُعَدّ الاتحاد الأوروبي أكبر شريك تجاري لروسيا، إذ مثل نحوالى 37% من إجمالي تجارة البلاد مع العالم في أوائل عام 2020، وفقاً للمفوضية الأوروبية، وكانت روسيا أيضاً مصدر نحو 25% من واردات الكتلة النفطية.
روسيا في مأمن من التأثير القاتل للعقوبات
كتب سيرغي مانوكوف، الباحث في معهد الصين للدراسات الدولية المعاصرة، في "إكسبرت رو"، قائلاً إنّ روسيا في مأمن من التأثير القاتل الذي يريده الغرب لعقوباته.
وأشار في مقاله إلى أنّ روسيا تمكنت عموماً من التكيف مع الحياة في ظل العقوبات التي فرضها عليها الغرب بعد استعادة شبه جزيرة القرم في عام 2014.
ويرى أنّ فرص نجاح الغرب في العقوبات قد تظهر فقط في حال توجيه ضربة إلى صادرات الطاقة الروسية. ومع ذلك، لا تستطيع الولايات المتحدة القيام بذلك في ظل ظروف النقص العالمي في موارد الطاقة، فضلاً عن ارتفاع الأسعار الناجم عن التضخم غير المسبوق في الأعوام الأخيرة، والوضع مع موارد الطاقة على هذه الحال في أوروبا، التي لا يمكنها التخلي عن الغاز الروسي على الرغم من الخطاب العدائي.
لا تعمل هذه الاعتبارات فقط في حالة الرفض الصريح للنفط والغاز والفحم الروسي، إنما عند فصلها عن نظام "سويفت" المصرفي أيضاً، ولهذا تم فصل روسيا عن هذا النظام جزئياً وليس بصورة كاملة.
إن اندماج الاقتصاد الروسي في الاقتصاد العالمي ليس كبيراً مثل اقتصاد عدد من البلدان الأخرى، وهذا يقلل أيضاً فعالية العقوبات، تماماً مثل البنية التحتية المالية غير الدولارية الموجودة في روسيا منذ عام 2015ـ.