"إسرائيل" وحرب أكتوبر 73.. الحسابات الخاطئة ونقص الوعي
لماذا تجاهلت حكومة الاحتلال رسائل جهاز الموساد التحذيرية بشأن احتمالية أن تشنّ سوريا ومصر حرباً في أكتوبر 73؟ وهل أن الفشل الإسرائيلي كان فعلاً في عنصر المفاجأة والمباغتة، أم في نقص الوعي أو في الاثنين معاً؟
-
"إسرائيل" في حرب أكتوبر 73.. صدمة المفاجأة ونقص الوعي
"حرب الغفران عام 1973، درس حيّ حول خطر الغطرسة وصدمة المفاجأة الاستراتيجية".
رئيس أركان "الجيش" الإسرائيلي، هرتسي هاليفي 12 أيلول/سبتمبر 2023
مع مرور 50 عاماً على ذكرى حرب أكتوبر 1973، والتي شكّلت جرحاً عميقاً في ذاكرة المؤسستين الأمنية والعسكرية في "إسرائيل"، تحاول حكومات الاحتلال الإسرائيلي المتعاقبة تبرير فشلها بالحديث عن عنصر المفاجأة والمباغتة، ورغم أهمية هذا العنصر في تحقيق الانتصار، لكن القراءة في ما يكشفه الإسرائيليون أنفسهم والتحذيرات التي تلقّوها من جهاز الموساد قبل أشهر من اندلاع الحرب ، تؤكد أن سبب الفشل الرئيسي لم يكن في نقص المعرفة وإنما في الوعي. وهو ما تحدّث عنه رئيس أركان "جيش" الاحتلال هرتسي هاليفي قبل مدة قصيرة.
حسابات خاطئة
قبل شهر من حلول الذكرى الـ50 لحرب أكتوبر، رفعت "إسرائيل" السرية عن جميع ملفات الحرب، وأقرّت بسوء تقديرها حينها فيما يتعلق بحجم الضرر الذي يمكن أن تلحقه سوريا ومصر خلال الهجوم. فـ "إسرائيل" التي كانت تحيي أهم أعيادها "عيد الغفران"، لم تكن تتوقّع هجوماً بهذا الحجم، انطلاقاً من عقيدتها القائمة على الغطرسة والتقليل من قدرات الطرف الآخر.
-
صورة لجنود إسرائيليين يحملون قارباً يقل زميلهم وفتاة للاحتفال بزواجهما قبل لحظات من بدء حرب أكتوبر
وقبل يوم واحد فقط من بدء الهجوم، استبعد رئيس المخابرات العسكرية حينها إيلي زعيرا قيام كل من مصر وسوريا بهذه الخطوة، زاعماً أن الدولتين تخافان "إسرائيل". وهي رواية كانت منتشرة في معظم أجهزة "إسرائيل" العسكرية والأمنية، والتي كانت نابعة من انتكاسة يونيو 1967، فالدخول في "انتكاسة" جديدة، يعد ضرباً من الجنون في الفكر الإسرائيلي، الذي كان مقتنعاً بقصور العرب على المستويات كافة وعجزهم عن تحقيق نصر. وعليه كان الحديث هنا عن احتمالية بروز حوادث إطلاق نار محلية في قناة السويس والجولان وليس حرباً شاملة.
واستناداً إلى آلاف الوثائق والمستندات وبروتوكولات جلسات الحكومة برئاسة غولدا مائير المتعلقة بالحرب، والتي تمّ نشرها مؤخراً، يظهر جيداً كيف قلّلت "إسرائيل" برئاسة حكومة غولدا مائير من أهمية التحذيرات والتقارير التي تلقّتها، وضعفها في قراءة الموقف. وهو ما أقرّت به مائير أمام أعضاء لجنة التحقيق بالحرب (لجنة إجرانات) بقولها: "لقد كرّسنا أموالاً طائلة بالاستخبارات لهذا الغرض ومع ذلك فشلنا".
" إسرائيل تلقت ما يفوق 400 رسالة ومعلومة عن توقيت وتفاصيل الهجوم المصري السوري. وفي واشنطن، قامت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، يوم 4 تشرن الأول/أكتوبر 1973، بتحذيرها من الهجوم المصري السوري الوشيك".
من كتاب "الموساد"، الذي نشره عام 1979 ثلاثة صحافيين يهود مزدوجي الجنسية
ووصل حد الإنكار إلى عقد الجنرال إيلى زعيرا، قائد الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، مؤتمراً صحافياً في "تل أبيب"، في اليوم نفسه، وهو يوم اندلاع الحرب، وقال موجّهاً حديثه إلى جمع حاشد من الصحافيين المحليين والأجانب، القلقين من الأخبار المتناثرة بشأن التصعيد المرتقب، إنه "لن تكون هناك حرب". وقبل أن ينتهي من حديثه كانت القوات الجوية المصرية قد بدأت بعبور قناة السويس لتضرب في عمق سيناء، وفق صحيفة "الأهرام" المصرية، بينما كانت القوات السورية تتحرك في اتجاه الأراضي السورية المحتلة.
وبعد ساعة ونصف الساعة من بدء الحرب، ظلت الرواية الإسرائيلية مشوّشة. تقول صحيفة "هآرتس"، "في يوم 6 تشرين الأول/أكتوبر 1973 في الساعة 12:30، نشرت شعبة الاستخبارات التابعة للجيش (أمان)، عدة أنباء إشكالية وغريبة، حظيت بالرقم المتسلسل 433. فمن جهة كُتب فيها بأنه تم تشخيص ميل لشن حرب على المدى الفوري، في مصر وسوريا، ومن جهة أخرى، قدّروا أنه حتى الآن لم يتم اتخاذ قرار حول شن الحرب، وأشاروا إلى أن المصريين والسوريين يدركون عدم وجود احتمالية للانتصار في الحرب.
وفي هذا السياق، يقول رئيس أركان "جيش" الاحتلال الحالي، "قبل الحرب لم يكن هناك نقص في المعلومات عن العدو وقدراته ونواياه، لكن الشيء الذي كنا نفتقر إليه كان الفهم العميق لآثار المعلومات، مما يرجع أساساً إلى الثقة المفرطة والاستخفاف بالعدو".
تمدد الفشل
وعلى الرغم من إدراك "إسرائيل" لأهم أسباب فشلها في حرب أكتوبر، إلا أنها ظلت تروّج لأسطورة " الجيش الذي لا يقهر"، وبسوء تقدير وحسابات خاطئة، شنّت عدوانها على لبنان عام 2006.
تقرير لجنة " فينوغراد"، تضمن إشارات واضحة إلى الفشل الاستخباراتي الإسرائيلي، والإدارة الخاطئة للحرب. فالسقف العالي الذي وضعه الاحتلال في بدايتها وهو "سحق" حزب الله، سرعان ما بدأ بالتراجع عنه مع أولى أيامها، وهو ما عبرت عنه تسيبي ليفني، وزيرة الخارجية في حكومة إيهود أولمرت آنذاك، بقولها إن "أي جيش في العالم لا يمكنه القضاء على منظمة كمنظمة حزب الله".
وقد كشفت عملية "الوزن النوعي" التي أطلقها الاحتلال أولى أيام عدوان تموز لتدمير مخازن أسلحة ومنصات صواريخ حزب الله، كيف أن الاحتلال وقع في فخ أكبر عملية تضليل استخباراتية أعدّتها المقاومة الإسلامية، وهو ما تحدّث عنه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله بعد 6 سنوات من انتهاء حرب تموز.
تمّ إيهام العدو بحقيقة المعلومات التي بحوزته، وهو ما دفعه إلى الإغارة على 44 هدفاً في لبنان في 34 دقيقة، معتقداً أنه حقق النصر، ووصل الأمر بأحد أعضاء هيئة أركان الجيش إلى القول: "ما جرى يعكس قدرات أجهزتنا الاستخباراتية، ويدل كم أن قادة حزب الله لا يعرفون كم تغلغلنا فيهم"! لكن في الطرف المقابل، كانت المقاومة قد نجحت في تبديل أماكن المنصات وإخلاء مراكزها، وبالتالي فإن "إسرائيل بلعت الطعم"، بتعبير الشهيد القائد عماد مغنية.
وفي هذا السياق يرى الباحث الإسرائيلي رون طيرا أن "جذور فشل إسرائيل في حرب لبنان الثانية إنما تكمن في عدم فهمها واستيعابها جيداً لطبيعة هذه الحرب، وأيضاً في العفن الذي حدث لمفهوم إسرائيل في بناء القوة العسكرية واستخدامها". ويمتد الفشل الاستخباراتي أيضاً في ارتكاب القيادتين العسكرية والسياسية أخطاء فادحة في تقويمهما لقدرة المقاومة الفلسطينية، سواء في غزة أو الضفة، واستعدادها لإدارة معركة واسعة النطاق.
تقول صحيفة "معاريف" الإسرائيلية إن الأوساط الأمنية تستشعر الفشل الاستخباراتي المتزايد في قطاع غزة بعد الانسحاب منه في العام 2005. ويتجلى هذا الفشل بشكل بارز في عملية أسر الجندي جلعاد شاليط في العام 2006 ،مروراً بعملية "العصف المأكول" 2014 ، وليس انتهاء بـ"سيف القدس" 2021. كما تشكّل قضية الأنفاق والصواريخ بعيدة المدى أبرز تجليات الإخفاق الإسرائيلي.
ويقول المحلل العسكري أري شافيط، إن الفشل في اكتشاف خطورة الأنفاق في غزة يذكّر بجوانب من الفشل الاستخباراتي في حرب 1973. وينسحب الأمر في ذلك على الضفة الغربية، التي عجز فيها الاحتلال عن إخماد العمليات البطولية، التي كانت بدايتها إلقاء الحجارة، لتتطور فيما بعد إلى الطعن والدهس وإطلاق النار، ومن ثم العبوات الناسفة محلية الصنع، والتي شكلت تطوراً لافتاً في إدارة المعركة.
وعلى الرغم من سعي الاحتلال لتنفيذ عمليات اغتيال سريعة وقاسية لمنفّذي العمليات بهدف كيّ الوعي وتعزيز قوة الردع الإسرائيلية.لكن بقاء منفذ العملية أطول مدة ممكنة أعطى المقاومين الآخرين دافعية أكبر لتنفيذ عمليات لإدراكهم أن هناك فرصة للنجاة والمضي بتنفيذ عمليات أخرى.
ومع تكرار إخفاقاته، بات الاحتلال الإسرائيلي يدرك اليوم جيداً، أن أي حرب مقبلة لن تكون "نزهة"، وأن أي تقدير خاطئ، قد ينهي وجود "إسرائيل"، خاصة أننا أصبحنا نتحدث عن حرب متعددة الجبهات ، تذكّر الإسرائيلي بالشعور السائد قبل حرب أكتوبر.
وعليه، كانت الدعوة التي أطلقها رئيس أركان "الجيش" الإسرائيلي قبل أيام إلى قادة "إسرائيل" قائلاً: " عليكم التعامل بجدية مع كل تصريح يدلي به الأعداء، سواء بالأقوال أو الأفعال.. لا يجوز أن نقلل من شأنهم، أو أن نمجّد أنفسنا".