"إرفع الراية البيضاء"
"إرفع الرايةَ البيضاءَ"، قلتُ للسائقِ بصوت مضطرب، جهدت أن يتخذ نبرة جهورية وضخمة تختزن رجولة مبكرة لمراهق لم يكمل العشرين.
-
"إرفع الرايةَ البيضاءَ"، قلتُ للسائقِ بصوت مضطرب، جهدت أن يتخذ نبرة جهورية وضخمة تختزن رجولة.
لم أخلع حذائي ثلاثة أيام مُتواصلة بقيتُ أتنقّل فيها بين الكرسيّ والسلالم. قرّرنا الصعود إلى المنزل في الطابق الثالث للاستحمام وتناول ما تيسّر من طعام.
خلعتُ حذائي. دخلتُ الحمامَ سعياً إلى الشروع ِفي استحمام ٍسريع ٍخوفاً من أن أموتَ وأنا عريان. تناهت إليّ أصوات تشبهُ التذمّر.
"ما هذه الرائحة؟" جاء صوتُ أمي مُرتفِعاً وأنا أمسحُ رذاذَ الماء ِعن جسدي المُبلّل. تطلّعتُ إليها. لم أنبُس بكلمةٍ. رمَقَتني أمي بنظرة ٍغاضبة ٍثم زَفَرت كلَ ما أوتيت من أنفاسٍ، قبلَ أن تهرعَ إلى الشُرفةِ وترمي حذائي بعيداً. ظلّت رائحةُ قدميّ مُقزّزة رغم أني افتعلتُ غسلهما بكل ما وقع تحت يديّ من أنواع الشامبو والصابون.
تناولنا الطعامَ وكان القصفُ على حالِه. لا أعرفُ كيفَ مرّ الطعامُ من بلاعيمِنا، ونحن أسرى قَدر يسير من الخوف والتوتّر. على أيةِ حال. لم نبقَ فوق. قرّرنا أننا سنعودُ إلى تلكَ الجَمهرَة ِالتي تشبهُ الحضنَ. هذا الذي يجعل الموتَ أقل غُربةٍ من أيةِ ميتةٍ أخرى.
حطّ المساءُ مُسرعاً. إنسللتُ إلى غرفةِ النومِ في البيتِ المُحاذي لِما كنّا نعتبرهُ ملجأ أيضاً. توجّهتُ إلى بيتِ رجل يدعى "الزغلول"، والذي لم تكفّ إمرأتُه عن دعوتي كأني ولدها. كانت على قَدر ٍكبير ٍمن الحنوّ والطيبة. هناك تجمّعُ شبانٍ على السرير. كنتُ واحداً منهم، لكنّي على عكسِهم، لم يكن لديّ ما أقولُه لهم. ولذلك وجدتني أصيخُ السمعِ لكلِ ما يتلونه من نُتَف ِأخبارٍ وحكايات كانت أقرب إلى حكايا مُفتعلة لا تُشبه الحقيقة، ولا وظيفة لها سوى أن ترفعَ من شأن ِصاحبها. أذكرُ أن أحدَهم أفصح َبعينين مُتّسعتين كأنه وقع على الحقيقة في سطوعها، أنه رأى "السيّد" مُتنكّراً وجالساً داخل سيارة ببلّورٍ أسود، مرّت في العباسية وتكلّم معه.
كنتُ أسمعُ وقرّرتُ أن أرفعَ قدميّ طارحاً إياهما على السرير. هكذا لأريحهما من ثلاثة أيامٍ كانتا تحملانني فيها وأنا على السلالم. رفعتُ قدميّ وفاحت الرائحةُ النتنة. بدأ الجميعُ يتلفّتون والأسئلةُ في عيونهم. بأنوفٍ شبه مزكومة، كانوا يتطلّعون إلى بعضهم بعضاً. سحبتُ قدميّ ببطء ٍوأنزلتهما إلى الأرض. زمطت. كان السبابُ والتقريعُ من نصيبِ ابن "الزغلول" الذي اكتشفتُ معه حينها، أن هناك مَن له رائحة قدمين سيئة جداً، وأن ذلك قد يصبح ملازماً لسيرته.
إنفرطَ عقد مَن كانوا على السرير. القصفُ توقّف. تمدّدتُ. رنوتُ بعينين نعِستين إلى السقف. تخيّلتُ كيف أني سأموت إن هبطَ عليّ. تحسّستُ عظام َوجهي ورأسي. لا تزالُ في مكانها. يجب أن أنام. نمتُ لا ألوي على شيء. نمتُ 18 ساعة. ولجتُ بقاطبتي في النوم. فعلتُ هذا كالأمواتِ. لا ينتشلكَ من الموتِ إلا الدنوّ منه. نمتُ ولم أحلم بشيء. لم أسمع غارات الطائرات التي كانت تقتلُ أناساً على بعد مئات الأمتار مني.
الخوف يُطهّرُ النفوسَ. تصبحُ هذه على شاكلةِ ماءٍ بكرٍ منذورٍ لله. الخوفُ يفعلُ ذلكَ بمِراس ٍحكيم. يعتقُ الناسَ من أحقادِهم وتنافسِهم الذي يشعرون به سخيفاً، وهم ملتصقون بالموت. هكذا يصبحون طيّبين ومؤثرين فجأة. هذا ما شعرتُ به عندما دَنَت مني إمرأة، لتزوّدني بساندويشٍ بعدما تيسّرَ لها الحصول على بعض الخبز واللبنة. وضعتُ الساندويشَ في يدي وهصرتها قليلاً.
"كُل يا تقبرني، أنتَ حتماً جائع"، طلبت تلك المرأةُ مني وهي على هيئتها من الحنوّ. رنوتُ بطرفي إلى أمّي التي كانت تبتسمُ وتحثّني على الأكل. لم آكل. بقيتُ قابضاً على الساندويش عندما قرّرتُ الصعودَ إلى الطابقِ الثالثِ لإجراءِ اتصالٍ هاتفي بصاحبِ الباصِ الوحيدِ في العباسية، الذي كان يُغامرُ في نقلِ الناسِ إلى بيروت هرباً من جحيمِ القصفِ الذي شهدنا جنونه صباحاً.
لم أُجرِ اتصالاً من فوق. قرّرتُ أن أمسكَ الهاتفَ وأخطو عائداً إلى أهلي. أرتجتُ البابَ خلفي، ثم دوّى انفجار ضخم. كنتُ في حمأةِ الصوت. الجدران اهتزّت اهتزازاً شديداً شعرتُ معه أنها تتساقطُ فوقَ رأسي. كان الجميعُ يقفزون، فيما أيديهم فوق رؤوسهم المحنية. كنتُ منهم. كنت مثلهم. كأن الموتَ يعدو خلفنا ويفتحُ يديه هامّاً بالتقاطنا. وصلتُ إلى الطابقِ الأول. الكراسي الثلاثة حيث كانت أمّي وأختاي فارغة. جلتُ بنظري. لم أجدهنّ. هل مُتنَ؟ أين اختفينَ؟ هل قذفَ بهنّ الصاروخ خارجاً؟ صرتُ أهرولُ سعياً للعثور عليهنّ.
بحثتُ عنهنّ في كلِ ما وقعَ تحت نظري من أماكن. لم يعد أمامي إلا منزل الناطور الزغلول. ولجتُ المطبخَ. هنّ أمامي. يرتجفنَ. ارتجافهنّ شديد. جالِسات في زاويةِ المطبخِ وأجسادهنّ متلاصقة. أمّي أكثر من يرتعش بينهنّ. إرتعاشُها كان مُخيفاً. ربما الآن قلبُها يُشارفُ على التوقّف. أمسكتُها بيدها. "هيّا قومي، سنخرج من هنا". قلتُ لها.
كادت أمي تبكي.
"لا. لن نخرج. القصفُ سيخفّ. يومان وسينتهي كل شيء. في مروحين قالوا لهم أخرجوا ثم قتلوهم. لا أريدُ أن يُصيبنا ما أصابَهم"، أبدت أمّي اعتراضها وأنا أتحسّسُ ارتعاشَ يديها في راحتي.
جاءت السيّارة ونحن في حَمأَةِ هذا النقاش الذي كان لا بدّ فيه من قرارٍ سريع ٍوحاسمٍ. كانت أول مرة كتب لي فيها أن اتخذت قراراً حددت فيه مصيري ومصير غيري مجتمعين. الأمر صعب جداً. الشعور بالذنب يتلبس حنجرتك حتى قبل أن يصاب غيرك بمكروه. إتّخذتُ قراري. سنخرجُ من جهنّم هذه. لم تتوقّف أمّي عن كيل اللعنات. بدت لي حينها وكأنها جُنّت. كانت تنتشلُ ما بقيَ من طعامٍ في البرّاد وتنهالُ عليّ بالسُباب. كنتُ أستمعُ إليها وبصري مُثبّت إلى الشرفةِ أمامي. تهيّأ لي حينها أن الله سيعاقبنا جميعاً. إن المروحيةَ التي على مرأى منّي ستقذفنا بصاروخٍ يُحيلنا رماداً. لكن الله كان معنا. هو الذي استعنا ونستعين به على جنون هذه الحياة.
السيّارة تعبرُ بنا طريقاً تُرابية مبقورة بفجواتٍ واسعةٍ وعميقةٍ من آثارِ الصواريخ. تروزني أمّي بنظرةٍ حائرة بين الغضب والخوف والعتاب. أشيحُ بوجهي عنها إلى النافذة. لعينا أمي سطوة سيف في يد آخر جندي يقارع الموت. مرَرَنا في الطريقِ الساحلية. الإسرائيليون قُبالتنا. إبتعلت رضابي بصعوبة. هذه الأجسام الحديدية البعيدة التي تلمع تحت سنا الشمس، في مقدمتها فوهات كبيرة. ستقتلنا. ستحيلنا رماداً.
"إرفع الرايةَ البيضاءَ"، قلتُ للسائقِ بصوت مضطرب، جهدت أن يتخذ نبرة جهورية وضخمة تختزن رجولة مبكرة لمراهق لم يكمل العشرين.
لم يلتفت إليّ. بقي على حاله. هكذا في وضعية أقرب إلى نصف جلوس بين المقعد والمقود، مسدلاً ذراعه خارج النافذة.
"لا، لن نرفعَ شيئاً، كلها موتة"، أجابني بلكنةٍ فلسطينيةٍ واضحة، فيما السيارةُ تُصدِرُ هديراً مُتتابعاً. تلك السيارةُ الملعونة. تلك المُتهالِكة التي لا أدري كيف حملتنا كل تلك المسافة. وصلنا إلى نهرِ الأوّلي. الرُكامُ أمامنا. الرُكامُ على بعدِ أمتارٍ مني.
"إرجع، إرجع، قلتُ لك إني أعرف الطريقَ، وإنكَ سلكتَ الطريقَ الخطأ. إرجع، ها هم قُبالتنا. إرجع"، صحتُ بالسائق الذي التفّ وعادَ.
نَفَدَ وقودُ السيارة ِبعد أمتارٍ. بدأت تتوقف رويداً رويداً. مثل جسد كان يضج بالحياة وهو الآن يلفظ آخر أنفاسه. لماذا؟ لماذا الآن؟ هل كُتِبَ لنا الموتُ هنا؟ حدّثتُ نفسي. جلت ببصري سريعاً على السائق وأمي وأختاي. قلبي ينبض بسرعة. فتحتُ بابَ السيارةِ وصرتُ أركض. هربتُ وتركتُ أهلي خلفي. كنتُ أبحثُ عن وقود؟ ربما. لكني كنت مدفوعاً أكثر إلى التشبث بحياة ظننت أنها تهربُ مني. كنت ألحق بها لاهثاً. رئتاي ترتفعان وتنقبضان بسرعة. توقفت مكاني. التفت يمنة ويسرة. أهلي في مدى نظري. أجسام بعيدة وصغيرة. جَبِنتُ. كنتُ جباناً حينما فعلتُ هذا وكانت أمّي وأختاي ينتظرنَ منّي أن أنقذهنّ.
أنقذنا عابرا سبيل. زودانا بالوقود. إنطلقت السيارة من جديد. "هيا، هيا، أرجوك هيا. إلى بيروت. بسرعة"، طلبت إلى السائق في خَلَدي.
بيروت أماننا من الخوف. بيروت حضن كبير. في بيروت، ضحكت سارة عليّ كثيراً.