"اقتصاد الكرتونة".. ومأزق التنمية في مصر(2-2)
تحت مظلة مفهوم شبكات الأمان الاجتماعي، فإن الدولة في مصر - وفي غيرها من الدول التي انتهجت السياسات الليبرالية المتوحشة تلك، وانصاعت بالتالي لأوامر صندوق النقد والبنك الدوليين وأجنداتهما - حاولت توسيع إطار دعمها المالي لهذه الفئات الاجتماعية المتضررة.
-
"اقتصاد الكرتونة".. ومأزق التنمية في مصر(2-2)
التمييز بين العمل الخيري.. و"اقتصاد الكرتونة"
قد يتشابه العمل الخيري - والمساعدات التي يقدمها بعض الجمعيات الأهلية والأفراد والمؤسسات – مع "اقتصاد الكرتونة" في بعض الجوانب، لكنهما يتباينان في جوانب أخرى متعدّدة. ومن أبرز نقاط الاختلاف والتمييز بين المفهومين الآتي:
1- إذا كان العمل الخيري والتطوعي في مصر يتفق مع "اقتصاد الكرتونة" في أنهما يحملان طابع المساعدات العينية والمالية لبعض الفئات الفقيرة والمحرومة في المجتمع، فإنهما يختلفان في أن المساعدات التي تقدم من خلال العمل الخيري والتطوعي لا تستهدف بصورة مباشرة أو غير مباشرة تحقيق غاية سياسية، سواء في الأجل القصير، أو الأجلين المتوسط والطويل، بينما "اقتصاد الكرتونة" - منذ بداية بروز هذه الظاهرة في الحياة المصرية الحديثة على يد تنظيم "الإخوان المسلمين" وسائر الجماعات السلفية الإسلامية، ثم المسيحية - يتجه إلى تحقيق هدف سياسي، وخلق ركائز أنصار ومؤيدين في المديين القصير والطويل، استغلالاً لفقر المستهدَفين به ولحرمانهم من ناحية، واقتناصاً لأصواتهم الانتخابية من ناحية أخرى، وتوسيعاً لتجنيد المؤيدين والمتعاطفين مع هذه التنظيمات والجماعات من ناحية ثالثة.
2- إن تنظيم "الإخوان المسلمين" وسائر الجماعات السلفية تدير شبكات الدعم تلك في صورة موازية ومستقلة تماماً عن العمل الخيري الذي تديره الجمعيات غير المنتمية إليها، حتى لو كان بعض جوانب الدعم والمساعدة المقدَّمة من هذا التنظيم وهذه الجماعات السلفية يستخدم أحياناً بعض الأشكال والكيانات القانونية والشكلية والنقاط الارتكازية، التي تستخدمها جمعيات العمل الخيري (مثل المساجد أو الجمعيات الأهلية). فالتقاطع هنا لا يعني أبداً الاندماج أو الامتزاج بين القطاعين.
3- إن "اقتصاد الكرتونة" امتدّ بعد الانتفاضتين الشعبية والعسكرية في 30 حزيران/يونيو 2013 ضد حكم تنظيم "الإخوان المسلمين" لمصر، ليشمل مشاركة عدد كبير من مؤسسات الدولة الرسمية (مثل القوات المسلحة والشرطة ووزارة الأوقاف وبيت الزكاة ووزارة التضامن الاجتماعي، وغيرها الكثير)، بهدف ملء الفراغ الذي خلفته "كرتونة" "الإخوان المسلمين" والمجموعات السلفية، حتى بلغ عدد هذه الكراتين المقدَّمة إلى الفئات الفقيرة، في شهر رمضان عام 2018، أكثر من خمسة ملايين كرتونة. وإذا أضفنا ما قُدِّم في الفترة السابقة لشهر رمضان (من جانب القوات المسلحة وغيرها من المؤسسات لمعالجة حالات الحرمان الناتجة من بعض الكوارث والسيول، أو العمليات العسكرية في سيناء) لَوجدناه يربو على سبعة ملايين كرتونة، تُقَدَّر تكاليفها بأكثر من مليار جنيه مصري، وبعضها مدعوم من رجال الأعمال، وإن كان قليلاً.
دعونا، إذاً، نطلّ على ما تقدمه الجمعيات الأهلية وغيرها من منظمات المجتمع المدني والتطوعي في مصر، لنتعرّف أكثر إلى سمات هذا النشاط، ومدى تمايزه عما أطلقنا عليه "اقتصاد الكرتونة".
إذا كان العمل الخيري في البلاد ينقسم بين العمل الخيري والعمل التطوعي، فمن خلال واقع المسح المعلوماتي الذي قام به مركز معلومات مجلس الوزراء المصري عام 2010 (اعتماداً على بيانات مسح النشء والشباب، والذي قام بتنفيذه مجلس السكان العالمي بالتعاون مع مركز معلومات مجلس الوزراء عام 2009، وكذلك مرصد أحوال الأسرة المصرية، الذي ينفذه المركز بصورة دورية، والذي شمل 10 آلاف أسرة موزعة على كل محافظات البلاد، باستثناء محافظات الحدود الأربع)، تتبيَّن الحقائق التالية:
1- إن حجم المبالغ المنفَقة على العمل الخيري والتطوعي في مصر عام 2010 يتراوح بين 18.0 مليار جنيه و22.0 مليار جنيه. وتتوزع هذه الأموال بين عدة صور وأشكال، منها: الزكاة التي قُدِّرت بنحو 12.0 مليار جنيه في ذلك العام، والتبرعات لأنشطة معينة أو لأُسر محددة، وإقامة الولائم والذبائح، وتقديم الملابس في المناسبات إلى الأيتام والأرامل والمطلقات، وغيرها من الصور والأنواع.
2- إن 17.5% من إجمالي الأسر المصرية (التي كان عددها في ذلك العام 18 مليون أسرة) تعتمد في دخلها على مساعدات الأهل، ويعتمد نحو 3.0% على مساعدات أهل الخير (1). وعلينا أن نلاحظ هنا أن 3.3 ملايين أسرة (بمتوسط 16.6 مليون فرد) تحصل على مساعدات، سواء كانت مالية أو عينية، من الأهل غالباً، ثم من أهل الخير بنسبة أقل، وهذا يتباين عن "اقتصاد الكرتونة"، الذي غالباً لا يميز بين الأهل وغير الأهل.
3- إن إجمالي ما أنفقته الأسر المصرية، التي شاركت، عبر أموالها ومجهوداتها، في أعمال الخير عام 2009، بلغ نحو 4.5 مليارات جنيه (2).
4- إن 97.9% من الأسر المصرية، التي تقوم بأعمال خيرية، تدفع أموالاً بغرض الزكاة الإسلامية أو العشور المسيحية، والتي قُدِّرت بنحو 1.8 مليار جنيه (بمتوسط 120 جنيهاً للأسرة الواحدة)، تتفاوت بين أسر الحضر (155 جنيهاً) والريف (93 جنيهاً).
5- كما أن هناك نحو 45.5% من هذه الأسر تقوم بأعمالها الخيرية من خلال أداء الصدقات، أو تقديم المساعدات والهبات، بينما 21.6% من هذه الأسر تقوم بدفع تبرعات.
6- بلغ حجم هذه التبرعات والصدقات نحو 2.5 مليار جنيه سنوياً، بمتوسط 271 جنيهاً للأسرة (تزداد في الحضر إلى 343 جنيهاً للأسرة، وتنخفض في الريف إلى 195 جنيهاً للأسرة).
6- تبين أيضاً أن دُور العبادة (سواء أكانت المساجد أم الكنائس) تأتى في الترتيب الثاني من حيث أوجه إنفاق التبرعات بنسبة 23%، وأن معظم هذه التبرعات (75.3% منها) تكون في صورة نقدية (3).
7- برز، في تجارب العمل الخيري والتطوعي في مصر، بنك الطعام، الذي يقدّم خدماته إلى نحو 150 ألف أسرة سنوياً، عبر موارد مالية بلغت عام 2010 نحو 240 مليون جنيه، وكذلك جمعية رسالة الخيرية التي بدأت كنشاط طلابي في كلية الهندسة في جامعة القاهرة، عام 1999، وامتدت فروعها لتصل إلى 50 فرعاً عام 2009 في معظم محافظات مصر، ومؤسسة "مصر الخير"، التي أُنشئت عام 2007، مقدِّمة خدماتها إلى نحو 100 ألف أسرة، وبالمثل مستشفى سرطان الأطفال (57357)، وجمعية كاريتاس القبطية، التي تأسست عام 1967، وجمعية الهلال الأحمر المصري، التي تأسست عام 1941، وغيرها من الجمعيات الخيرية (4).
8- من مظاهر العمل الخيري والتطوعي في مصر - والتي انتشرت بصورة كبيرة جداً خلال الأعوام العشرين الأخيرة - موائد الرحمن في شهر رمضان، والتي قُدِّر عددها في رمضان عام 2008 بنحو 13555 مائدة، يتراوح عدد المتردّدين إليها بين 1.8 مليون شخص و1.9 مليون شخص. وتبيّن أن 87% من هذه الموائد يقيمها أفراد وأُسر، بينما تقيم 13% فقط جمعيات خيرية وشرعية (5).
ويكشف تحليل التطور الكمي في عدد الجمعيات الأهلية في مصر، طوال الأعوام المئة الماضية، مفارقات مدهشة تعكس درجة الغفلة التي ميزت أداء الدولة المصرية في التعامل مع هذه الظاهرة.
فالجمعيات الأهلية، التي لم يزد عددها عام 1976 على 7592 جمعية، والكثير منها لا يعمل فعلياً، ازداد عددها عاماً بعد عام، حتى بلغ عام 1985 نحو 11471 جمعية، من جميع الأنواع والأنشطة. وحينما بدأ تدفق التمويل الأجنبي لبعض تلك الجمعيات، وخصوصا الإسلامية والمسيحية، اندفع الكثيرون إلى إنشاء جمعيات أهلية، فبلغ عددها عام 2016 نحو 48600 جمعية. وشهدت الفترة، التي أعقبت ثورة 25 يناير عام 2011، موجة هائلة لإنشاء تلك الجمعيات، وخصوصاً من كوادر تنظيم "الإخوان المسلمين" والمجموعات السلفية الأخرى (6). ومع غياب الشفافية والنزاهة، تحول هذا النشاط إلى "حنفية" مالية ومصدر للتربح لدى الكثيرين، بدلاً من كونه عملاً تطوعياً.
ووفقاً للبيانات الرسمية، التي صدرت عن جهات التحقيقات القضائية (فيما عُرف بقضية "التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني"، القضية رقم 110، عام 2011)، بلغ إجمالي التمويل الأجنبي للجمعيات والمؤسسات الأهلية في مصر، خلال ثلاثة أعوام فقط (تموز/يوليو 2013 حتى حزيران/يونيو 2016) نحو 3.02 مليارات جنيه (7)، وإن كنا، من جانبنا، نشكّ كثيراً في دقة هذه الأرقام، نظراً إلى معرفتنا السابقة وسائلَ إخفاء كثير من مصادر التمويل الأجنبي لدى هذه الجمعيات والمنظمات الأهلية.
مفهوم شبكات الأمان الاجتماعي.. و"اقتصاد الكرتونة"
تقدم المؤسسات الاقتصادية والتمويلية الدولية (كالبنك الدولي IB، والبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة UNDP، وصندوق النقد الدولي IMF، ومنظمة العمل الدولية ILO) كل فترة زمنية مجموعة من المصطلحات والتعابير والمفاهيم، والتي تجد رواجاً وانتشاراً لدى الكتّاب والخبراء الاقتصاديين في كثير من دول العالم، مثل مفهوم "الاحتياجات الأساسية"، Basic Needs، ومفهوم BOOT، وشبكات الأمان الاجتماعي Social Security Networks، وأخيراً ما يسمى النمو الاحتوائي Contained Growth، سواء أكان ذلك بهدف التعامل مع ظواهر اقتصادية واجتماعية معينة، كالفقر والحرمان مثلاً، أم من أجل وضع أطر نظرية جديدة تستظل بها المقولات والكتابات، التي يرددها وينشرها في الحقل الاقتصادي في البلدان النامية العاملون متواضعو الموهبة، والمسحوقون نظرياً أمام تلك المنظمات الرأسمالية الغربية.
وتُعرّف هذه الأدبيات الغربية شبكات الأمان أو الحماية الاجتماعية بأنها "نظام قانوني ووسيلة إلزامية، وتأخذ بها الدولة لتحقيق الحماية الاجتماعية لمواطنيها من المخاطر الاجتماعية".
كما يعرّفها البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة بأنها "حزمة متكاملة من التدابير المؤسسية للفئات المتأثرة، أو غير المستفيدة من سياسات الإصلاح الاقتصادي". وبالطبع، فإن المقصود بسياسات "الإصلاح الاقتصادي" هو السياسات التي يوصي بها صندوق النقد الدولي، أو البنك الدولي للتنمية والتعمير، أو كلاهما.
وتتخذ الدولة عدة وسائل عادةً لتحقيق ذلك، إمّا من خلال المساعدات الاجتماعية، وإمّا عبر نظم التأمينات الاجتماعية، في كل أشكالها وأنواعها، مثل: التأمين ضد الشيخوخة، والتأمين الاجتماعي ضد الوفاة والترمل واليتم، والتأمين الاجتماعي ضد البطالة، والتأمين الاجتماعي ضد إصابات العمل وضد المرض.
ومن وسائلها كذلك المساعدات الفردية كالتبرعات، أو التعاون والدعم العائليَّين، أو التعاون الجماعي الخيري. كما أنها تشمل سياسة الإقراض للمشاريع الصغيرة، وتشجيع الادّخار الفردي، وغيرهما من صور الدعم الجماعي.
وهكذا، فإن سياسات الأمان الاجتماعي هي مجموعة من الآليات والأنشطة المترابطة والمستخدمة لتحقيق الاستقرار للأفراد والجماعات، وتحرير الإنسان من الحاجة والعَوَز والحرمان (8).
وزاد الاهتمام بشبكات الأمان الاجتماعي خلال العقود الأربعة الأخيرة بسبب اتساع نطاق تطبيق السياسات الليبرالية المتوحشة في كثير من دول العالم الثالث، والانقلاب على سياسات التخطيط والتنمية، وخصوصاً منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، كوسيلة تعويضية لتخفيف حدة الآثار الضارة لهذه السياسات الليبرالية بالنسبة إلى الفقراء وأبناء الطبقة الوسطى، وكاسبي الأجور والمرتبات عموماً، والعمالة غير المنظمة Informal.
وتحت مظلة مفهوم شبكات الأمان الاجتماعي، فإن الدولة في مصر - وفي غيرها من الدول التي انتهجت السياسات الليبرالية المتوحشة تلك، وانصاعت بالتالي لأوامر صندوق النقد والبنك الدوليين وأجنداتهما - حاولت توسيع إطار دعمها المالي لهذه الفئات الاجتماعية المتضررة، من خلال تشجيع آلاف الجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني على العمل في هذا الإطار الاقتصادي والخيري، تعويضاً من تنفيذ سياسات جادة للتنميتين الاقتصادية والاجتماعية، القائمتين على التخطيط من أجل تعبئة الموارد وتوجيهها، والدور النشط والفعال للدولة كمنتج مرجّح وتاجر مرجّح، ثم توفير مئات الآلاف من فرص العمل سنوياً، والتي يعجز القطاع الخاص وحده عن توفيرها لأبناء الفقراء في المجتمع المصري.
وهكذا، نستطيع أن نميز بين ملامح سياسات الرعاية الاجتماعية وشبكات الأمان الاجتماعي و"اقتصاد الكرتونة"، من خلال النقاط التالية:
1 - سياسات الرعاية الاجتماعية، ومنها شبكات الأمان الاجتماعي، تمثّل منظومة وآليات عمل تتكامل مع سياسات التنمية، اقتصادياً واجتماعياً، بينما يقوم "اقتصاد الكرتونة" فقط على تقديم المساعدات المباشرة والعينية إلى قطاع من الفقراء، والتي غالباً ما تتخذ شكل كرتونة تحتوي على بعض السلع الأساسية، والتي تكاد لا تكفي استهلاك أسرة عدةَ أيام قليلة.
2- سياسات الرعاية الاجتماعية وشبكات الأمان الاجتماعي ذات ديمومة نسبية في السياسات العامة للدولة، بينما يتخذ "اقتصاد الكرتونة" غالباً طابعاً موسمياً، حتى لو تجاوز عدد المستفيدين منه سبعة ملايين أسرة، كما هي الحال في شهر رمضان، وأيام الأعياد الدينية (عيدَي الفطر والأضحى لدى المسلمين، وأعياد الميلاد وعيد القيامة لدى المسيحيين).
3- سياسات الرعاية الاجتماعية وشبكات الأمان الاجتماعي تضم آليات لتقديم القروض من أجل إقامة المشاريع الصغيرة والمتناهية الصِّغَر، وتوسيع نطاق شبكات التأمين الاجتماعي للشيخوخة والعجز والوفاة والبطالة، والتأمين الصحي ضد المرض، بينما "اقتصاد الكرتونة" (الذي اتَّسع ليشمل ملايين الأسر الفقيرة في مصر) يقتصر فقط على تقديم سلع عينية، نقيضاً للمثل الصيني الشهير "لا تُعطِني سمكة.. بل علِّمني كيف أصطاد".
4- "اقتصاد الكرتونة" يعتمد بصورة أساسية على التبرعات والصدقات من أهل الخير، تُضاف إليها تبرعات مقدمة من مؤسسات رسمية (مثل الجيش والشرطة ووزارات الأوقاف والتضامن الاجتماعي وبيت الزكاة التابع للأزهر وغيرها). ولا يؤدي ذلك، في المدى القصير أو المتوسط أو الطويل، إلى تغيير جوهري في مستوى معيشة هذه الفئات الفقيرة، بينما تمثل سياسات الرعاية الاجتماعية وشبكات الأمان الاجتماعي خطوة أولى في تغيير العلاقات الاجتماعية، وتحسين مستوى معيشة هذه الفئات، من خلال رفع مستوى دخلها وتوفير فرص العمل لها ولأبنائها.
5- أخذ "اقتصاد الكرتونة أشكالاً جديدة، من خلال التوسع الكبير في دعوة المواطنين إلى التبرّع من أجل بناء المستشفيات العامة، والمستشفيات المتخصصة، وملاجئ الأيتام، وغيرها من الخدمات الحيوية، التي هي جزء من صميم عمل الدولة، وأُنشئت في هذا السياق صناديق وحسابات خاصة لجمع الأموال والإنفاق على تلك الأنشطة، وكان من أبرزها "صندوق تحيا مصر" برعاية رئيس الجمهورية الجديد مباشرة بعد 30 تموز/يوليو 2014، من دون أن يكون هناك إعلان للرأي العام المصري يقدَّم بصورة دورية بشأن حجم الإيرادات والمصاريف لهذا الصندوق، ومراجعة الجهاز المركزي للمحاسبات، أو حتى البرلمان المصري
6- على رغم التشابه القائم بين فضيلة "التكافل الاجتماعي"، الذي هو سمة مميزة للمجتمعات الإنسانية، الإسلامية والمسيحية في الشرق أو الغرب، وبين "اقتصاد الكرتونة" (الذي يُعَدّ شكلاً من التكافل الاجتماعي)، فإن أخطر ما يصاحب عادة "اقتصاد الكرتونة" في الحالة المصرية والحالات المشابهة هو غياب خطط التنمية الاقتصادية ـ الاجتماعية، والتي تستهدف توفير فرص العمل ورفع مستوى معيشة الطبقات الفقيرة، ووجود سياسات لمحاربة الفقر وتخفيض نِسَب الأسر والفئات الفقيرة في المجتمع، تماماً كما نجحت البرازيل في تخفيض نِسَب الفقر، خلال ثمانية أعوام فقط من حكم الرئيس الاشتراكي، لولا دي سيلفيا. فنحن هنا إزاء اقتصاد يقوم على الصدقات والتبرعات، وتقديم "الكرتونة" إلى فئات واسعة من الفقراء، بدلاً من التزام الدولة سياسات جادة لمحاربة الفقر في المجتمع المصري.
7- كذلك، فإن العمل الخيري والتطوعي في الدول الرأسمالية المتقدمة، مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، يشكل نسبة لا تقل أبدا عن 5.0% إلى 10% من الدخل القومي في هاتين الدولتين، ويضم بين صفوفه عشرات الآلاف من العاملين التطوعيين، ومن غير المتطوعين، لكنه يظلّ عملاً أهلياً ومجتمعياً، يخفف غلواء الفقر لدى الفئات الفقيرة، لكنه أبداً لا يحلّ محل الدور التنموي للدولة وأجهزتها وسياستها الاقتصادية وسياستها في مجال الرعايتين الاجتماعية والصحية ((9. وإن كان يُحظَر على منظمات العمل الخيري في تلك البلاد العمل في السياسة، بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
كلمة ختامية:
نستطيع أن نؤكد أن "اقتصاد الكرتونة" هو نمط جديد في إدارة الشأن الاقتصادي وسياسات الرعاية الاجتماعية في الدولة المصرية، خلال الأعوام الخمسة الماضية. لقد اكتشفت الدولة وأجهزتها الأمنية والعسكرية أن الفراغ الذي نشأ عن مصادرة نشاط الجماعات السلفية وتنظيم "الإخوان المسلمين"، وسط الفقراء والفئات المحرومة في الأحياء الفقيرة وفي القرى المصرية (والذي استمرّ نحو أربعة عقود، وأسس لهذه الجماعات مرتكزات اجتماعية من المتعاطفين والمتحلقين حولها) يحتاج، بعد 30 حزيران/يونيو 2013، إلى من يملأه.
وهنا، نزلت الدولة بكل قوتها وأجهزتها لتقوم بالدور الذي كانت تقدمه منظمات أهلية ذات أهداف سياسية بعيدة المدى، بدلاً من وضع الخطط التنموية الحقيقية لمحاربة الفقر، وتنمية قطاعات الانتاج، وتنشيط دور الدولة في هذه المجالات الحيوية، نقيضاً لما كان يجري طوال أربعين عاماً من دور المنظم الفاشل، والمقاول لمشاريع البنية الأساسية، تسهيلاً للاستثمار والمستثمرين.
وفي محاولة القيام بهذا الدور، حثّت الدولة وقياداتها الجديدة، بعد 30 حزيران/يونيو 2013، رجال المال والأعمال، وأبناء الطبقات المتوسطة، على التبرع "ولو بجنيه"، و"صبّح على مصر ولو بجنيه"، و"اترك الفكّة"، وتمويل الحملات الإعلانية المنظمة، سواء لتوفير كرتونة المساعدات الغذائية، أو لتمويل إقامة المستشفيات، وعلاج المرضى من الفقراء والأطفال. ولم تتنبه الدولة إلى أن هذه السياسة، قصيرة الأجل وقصيرة النَّفَس، لا يمكنها أن تغير توازنات القوى الاجتماعية، ولا مستويات تركُّز الثروات في جانب، واستمرار اتساع الفقر في جانب آخر.
ولم يكن الحصاد بقدر الثراء والأرباح التي تحققت لرجال المال والأعمال طوال الأعوام الأربعين السابقة، الأمر الذي اضطر الدولة إلى السحب من رصيد حسابات بعض الأجهزة الأمنية والعسكرية لتغطية الموقف وملء الفراغ.
والحقيقة أنه ما لم تتنبّه الدولة والقائمون عليها لخطورة استمرار هذه السياسة، وأهمية بناء استراتيجية اقتصادية جديدة تقوم على التخطيط وتعبئة الموارد، ونزول الدولة إلى سوق الإنتاج والتوزيع، فلن تفلح كل هذه المسكّنات في وقف موجات الغضب المتصاعد، وأصوات الرياح القادمة من بعيد.
اقرأ أيضاً: اقتصاد "الكرتونة".. ومأزق نموذج التنمية في مصر (1-2)
الهوامش
(1) مركز معلومات ودعم اتخاذ القرار في مجلس الوزراء المصري "العمل الخيري للأسر المصرية"، القاهرة، تقارير معلوماتية، السنة الرابعة، العدد (44)، آب/أغسطس 2010.
(2) مركز معلومات مجلس الوزراء، المرجع السابق.
(3) مركز معلومات مجلس الوزراء، المرجع السابق.
(4) مركز معلومات مجلس الوزراء، المرجع السابق.
(5) مركز معلومات مجلس الوزراء، المرجع السابق.
(6) د. أماني قنديل، "الجمعيات الأهلية في مصر وسنوات المخاطرة 2011-2017"، القاهرة، موقع الدكتورة أماني قنديل.
(7) د. أماني قنديل، "الجمعيات الأهلية في مصر وسنوات المخاطرة 2011-2017"، القاهرة، موقع الدكتورة أماني قنديل.
(8) حفلت تقارير البنك الدولي والبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة بكثير من الفصول بشأن مفهوم شبكات الأمان الاجتماعي، انظر مثلا:
- World Social Protection Report 2014/15
- World Social Protection Report 2017–19 Universal social protection to achieve the Sustainable Development Goals
(9) القطاع الخيري في إنكلترا وويلز عام 2006.