سوريا وإيران.. من المقاومة إلى البناء
زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى سوريا جاءت بعد أجواء المصالحات التي شهدتها المنطقة، والتي لعبت المصالحة الإيرانية السعودية دور القاطرة فيها، لذلك بيّنت الزيارة أهمية سوريا بالنسبة إلى إيران.
-
سوريا وإيران.. من المقاومة إلى البناء
لم تكن زيارة السيد إبراهيم رئيسي، رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، إلى سوريا حدثاً اعتيادياً، كغيرها من الزيارات بين رؤساء الدول، فهي جاءت لتعلن الانتقال إلى مراحل جديدة من التعاون والتنسيق بين البلدين، عنوانها البناء والإعمار.
ولعلّ وصف العلاقات "الاستراتيجية" لسوريا، لا ينطبق من وجهة نظري إلا على علاقتها بإيران، فهي العلاقات الوحيدة التي ثبتت ديمومتها واستمراريتها، رغم كل التغيرات التي حصلت في الأوضاع الداخلية لكلتا الدولتين، أو بتغيرات البيئتين الإقليمية والدولية لهما.
جاءت الزيارة بعد أكثر من 13 عاماً على آخر زيارة قام بها رئيس إيراني إلى دمشق، إذ كانت زيارة الرئيس أحمدي نجاد في العام 2010 آخر زيارة قبل اندلاع الأحداث في سوريا في العام 2011.
بعد أن شاءت الأقدار ربما، وأتيحت لي الفرصة عام 2012 في اللقاء مع الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد في طهران، أقول: لو استمع "سنّة" سوريا لما قاله أحمدي نجاد، لأقاموا له تمثالاً في دمشق.
مع الاعتذار لاستخدام مصطلحات لا أحبّذها، ولا أعتقد أنها تعبّر عن الحالة الوطنية لأي مواطن يعتقد أنه سوري أولاً وقبل كل شيء.
لقد كانت طهران مع سوريا حكومة وشعباً، ولم تراهن إلا على وعي المواطن السوري ومصلحته، وقدرته على التعاون مع قيادته، وقدرة تلك القيادة على توضيح رؤيتها وتوجهاتها، سعياً للحصول على الالتفاف الشعبي حولها.
لقد تعرض الموقف الإيراني لكثير من التشويه والافتراء، من قبل الدول العربية الفاعلة والمؤثرة في الأزمة السورية، لكن الزمن كفيل بكشف تلك الافتراءات وفضحها.
وفي ظل الانفتاح العربي على دمشق، والزيارات التي قام بها الرئيس السوري بشار الأسد إلى كل من مسقط والإمارات العربية المتحدة وموسكو، جاءت زيارة رئيسي لتكون أول زيارة لرئيس دولة بعد انتهاء الحرب في سوريا.
لم تكن الزيارة خاطفة، بل استمرت يومين وشملت عدة لقاءات سياسية واقتصادية، وفعاليات دينية وشعبية، لتعلن عن عودة الأمن والأمان إلى سوريا بعد "عشرية النار" التي عاشتها.
لقد بيّنت تلك الزيارة أهمية سوريا بالنسبة إلى إيران، ليس على الصعيد السياسي والاستراتيجي والأمني فقط، بل على الصعيدين الديني والاجتماعي أيضاً.
جاءت الزيارة بعد أجواء المصالحات التي شهدتها المنطقة، والتي لعبت المصالحة الإيرانية -السعودية دور القاطرة فيها، نظراً إلى أهمية الدولتين وحجم علاقاتهما الإقليمية، ودرجة التشابك والتعقيد فيها.
تاريخية العلاقات بين البلدين
شهدت العلاقات السورية-الإيرانية تطوراً كبيراً بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران في شباط/فبراير 1979، انطلاقاً من المواقف المعلنة للثورة وعدائها اللامحدود لـ"إسرائيل"، ودعمها المطلق للقضية الفلسطينية، وهي القضية التي شكلت البوصلة الأساسية للسياسة الخارجية السورية، وما زالت حتى اليوم هي المحدد الأول للسياسة الخارجية السورية وتوجهاتها.
كان قيام الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988) اختباراً حقيقياً لعمق العلاقة بين البلدين، فوقوف سوريا إلى جانب إيران في تلك الحرب جعلها في مواجهة مع جميع الدول العربية التي كانت تدعم العراق في حينه.
تلك الحرب استنزفت قوة الدولتين وأخرجتهما من معادلة الصراع العربي- الصهيوني، فكانت "إسرائيل" هي الرابح الأوحد منها، وثبت دور الولايات المتحدة في تفعيل تلك الحرب وتأجيجها، وجعل الدول العربية الخليجية تزج بكل مقدراتها وتضعها في خدمة النظام العراقي كي يستمر في حربه ضد إيران.
ثم جاء الاحتلال العراقي للكويت في ٢ آب/أغسطس 1990ليعيد العرب إلى سوريا، بعد أن تبيّن لهم صوابية موقفها، وبعد موافقة سوريا على الانضمام إلى التحالف الدولي لتحرير الكويت.
تطور العلاقات السورية مع الدول العربية، ومشاركة سوريا في مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، خلقا تحدياً كبيراً للعلاقات السورية-الإيرانية، انطلاقاً من الموقف الإيراني المنادي بحتمية زوال "إسرائيل"، ورفض أي معاهدة للسلام معها.
دخلت سوريا بعد تلك الفترة بتنسيق وتعاون كبيرين مع كل من المملكة العربية السعودية ومصر، وتجسد ذلك في القمم الثلاثية التي كانت تعقد بين قادة الدول الثلاث. ومع ذلك، استطاعت سوريا الحفاظ على علاقتها بطهران، رغم كل التحفظات العربية عليها.
وكانت الجرائم الإسرائيلية ضد الفلسطينيين أو حزب الله في لبنان، تشكل دافعاً للتقارب أكثر وأكثر بين البلدين، كما حدث في عملية "عناقيد الغضب" في لبنان في العام 1996.
وكانت الفترة الأكثر تعقيداً في تاريخ العلاقة بين البلدين هي فترة الاحتلال الأميركي للعراق في العام 2003، وإسقاط نظام الرئيس الأسبق صدام حسين.
لقد كان لكل من سوريا وإيران ظروفهما ومواقفهما المختلفة من الاحتلال الأميركي للعراق، خاصة وأن سوريا كانت قد بدأت بتطوير علاقاتها مع العراق انطلاقاً من مصالحها الاقتصادية، وبسبب التهديدات الأميركية المعلنة ضدها، حتى إن المسؤولين الأميركيين صرّحوا أن الهدف القادم هو سوريا.
بينما رأت إيران في ذلك فرصة للتخلص من عدوّها اللدود، الذي تسبّب بأكبر خسائر لها طوال تاريخها الحديث، كما أن ذلك سيزيد من حاجة الولايات المتحدة لإيران، وسيجعلها تسعى للتعاون والتنسيق معها، خاصة وأن طهران بحاجة إلى الإفراج عن أموالها المحتجزة في الولايات المتحدة، في ظل ما تعانيه من أوضاع اقتصادية صعبة فرضتها تبعات الحرب مع العراق في ذلك الوقت.
لقد كان الموقف من الاحتلال الأميركي للعراق، هو الموقف الأول الذي وضع توجهات البلدين (سوريا وإيران) في دائرة الاختلاف، بل ربما المواجهة أيضاً.
فسوريا كانت ترى أن هزيمة العراق ستنقل المعركة إلى أراضيها، وخاصة في ظل الحديث عن "اجتثاث البعث"، وهو الحزب الذي حكم كلا البلدين منذ العام 1963.
رغم كل تلك التحديات، التي تعطي انطباعاً ظاهرياً أن البلدين أصبحا في خانة الخصوم، نتيجة للاختلاف في المصالح والتوجهات التي وصلت إلى حد التناقض، دون أن يؤدي ذلك إلى قطع العلاقات بينهما، وإن كان قد تسبب بنوع من الفتور، وربما "المناكفات السياسية الناعمة" على أبعد تقدير.
ثم جاءت حرب تموز/يوليو في العام 2006 لتعيد للعلاقة بين البلدين ألقها، فإن فرّقتهما المصالح، فقد جمعتهما الملمات بكل تأكيد.
الموقف الإيراني من الحرب على سوريا
شكل الموقف الإيراني من الحرب على سوريا عامل توازن هاماً وفاعلاً على الأراضي السورية. فعند بدء الأحداث، التي ظهرت بصيغة الاحتجاجات والمطالبات المحقة، كان الدور الإيراني يقتصر على تقديم النصح والمشورة للحكومة السورية في طريقة معالجة تلك المطالب.
لكن، وبعد تكشف دور العامل الخارجي الفاعل والمحرك لما يحدث في سوريا، لم تتردد إيران في تقديم المساعدة والدعم للحكومة السورية، والتي تمثلت في الحث على تلبية المطالب ما أمكن، سعياً لتفويت الفرصة على المؤامرة.
وبعد ظهور ما كان مخططاً لسوريا، والذي استهدف وجود الدولة السورية وبقاءها واستمراريتها، وسعى لتقسيمها إلى دويلات طائفية صغيرة، إرضاء لـ "عقدة الصغير" التي تعاني منها أكثر الدول الداعمة لما حدث في سوريا.
لم تتردد طهران في الانخراط في الحرب في سوريا، انطلاقاً من قراءتها الناجحة لما يحصل هناك، وبأن سوريا باتت ساحة للدفاع المتقدم عن طهران، فلو سقطت سوريا، فإن المعركة القادمة ستكون في طهران بكل تأكيد.
وكانت طهران هنا قد استفادت من الدرس السوري في لبنان، فعندما كانت سوريا حاضرة وفاعلة على الساحة اللبنانية كانت سوريا مستقرة.
لكن، وبعد خروج الجيش السوري من لبنان تطبيقاً للقرار الدولي 1559، كان واضحاً أن المعركة القادمة ستكون على الساحة السورية، وهو ما حدث بالفعل.
لقد كانت الحرب في سوريا فرصة لتقوية التحالف السوري-الإيراني، كيف لا وقد تعمّد بدماء الشهداء الإيرانيين على الأراضي السورية.
فبعد أن قدمت طهران الدماء على الأراضي السورية، باتت العلاقة بين البلدين "فوق استراتيجية" و"فوق مصلحية" بكل تأكيد، وسيصعب فهمها على أي باحث غربي سيطرت المنفعة والمادة والمصلحة على نشأته وتكوينه.
المتضررون من تلك العلاقة
لم تخف الولايات المتحدة الأميركية قلقها وامتعاضها من زيارة الرئيس الإيراني إلى دمشق، ووافقتها "إسرائيل" تلك المخاوف والشكوك.
وكذلك فعل صغار قادة المعارضة السورية، الذين تحولوا إلى مجرد ذباب إلكتروني هدفه التشويش على تلك العلاقات، والاصطياد بالماء العكر، وتفسير كل تصرف ودي وفوق بروتوكولي على أنه تحد وتبعية، لكن ذلك لن يغير من الواقع شيئاً.
نعم، لقد انتصرت سوريا ومن خلفها إيران، وبات من حق المنتصرين إعلان فرحتهم في النصر، ومن واجب العقلاء السعي لترميم مواقفهم وعلاقاتهم معهم، أما الحمقى فلا عزاء لهم وسيجدون أنفسهم قفازات تم رميها، بعد أن استخدمت في كل ما هو لا وطني.