كيف يتابع الجمهور العربي الانتخابات التركية؟
خلال الانتخابات، تنبّه العرب للساسة الأتراك الذين ينافسون إردوغان على كرسي الرئاسة منافسة أوشكت، وفق بعض التوقعات، أن تزيحه بالفعل عن موقعه كرئيس للبلاد.
-
كيف يتابع الجمهور العربي الانتخابات التركية؟
لعقدين من الزمن، ارتبط حضور تركيا في أذهان كثير من العرب برجب طيب إردوغان؛ الرجل الذي يحكم بلاده -كرئيس للحكومة ثم رئيس للدولة - منذ نحو 21 عاماً. خلال تلك الفترة، وقعت أحداثٌ محورية في تاريخ الأقطار العربية، كان أبرزها زلزال "الربيع العربي"، الذي ضرب العرب في تونس، فأسقط قصر رئاستها، ثم امتدت توابعه إلى البحرين، باختلاف النتائج بين بلدٍ وأخرى.
سمح "الربيع العربي"، وما ترتب عليه من ضعفٍ عام لأدوات السلطة في الأقطار العربية، بنمو معدّلات التأثير الخارجية. وبالتحالف مع جماعة الإخوان المسلمين، كانت تركيا صاحبة نصيب وافر من تلك التأثيرات، فالجماعة التي تحمل حنيناً جارفاً إلى الحقبة العثمانية وجدت ضالتها في "الزعيم الإسلامي" الذي يطمح لتأسيس نموذجه الإمبراطوري في القرن الحادي والعشرين انطلاقاً من أنقرة، وباتجاه الدوائر الثلاث المحيطة به (العربية، والغرب آسيوية، والشرق أوروبية).
إزاء الطموح التركي للتوسع على حساب الأراضي والسيادة العربية، انقسم الرأي العام الداخلي انقساماً حاداً وصل في بعض مراحله إلى الصراع "وربما الاقتتال"، بين القوميين العرب الذين رأوا في تركيا نموذجاً للدولة المستعمرة التي تنهش أراضي العرب في شمال سوريا، ولاحقاً في غرب ليبيا، ثم تبرم اتفاقية هنا أو هناك تسمح لها بغرس قاعدة بحرية أو الدفع ببعض الجنود، وبين ذوي الهوى الإسلامي الذين رأوا فيها نموذجاً لدولة قوية وناهضة يمكن أن تؤدي دور "الشقيقة الكبرى ضمن العائلة المسلمة الواحدة"، وأن "توسّعها أجدى من التوسع الغربي"، متجاهلين في الآن ذاته عضوية تركيا في حلف الناتو منذ زمن القائد التركي، صاحب الأيديولوجية الإسلامية أيضاً، عدنان مندريس.
صحيح أن الانقسام حول تقييم دور تركيا/إردوغان في المنطقة كان من أشد الموضوعات الخلافية خلال العقد الماضي، والتي لا ريب في أنها ستؤثر في نظرة متابعي الانتخابات التركية من المواطنين العرب، لكن من اللازم أيضاً الانتباه إلى أن الأمور تغيرت كثيراً في السنوات الثلاث أو الأربع الأخيرة، وكانت أنقرة شديدة المرونة إزاء تلك المتغيرات.
استطاع إردوغان ورجاله بمهارة تكييف سياستهم مع المتغيرات التي طرأت على خريطة "الربيع العربي". وبعدما وجّه "العدالة والتنمية" سهام العداوة تجاه الأنظمة التي أطاحت حُكم حلفائه من جماعة الإخوان أو عطلتهم عن امتطاء كرسي الحكم، عاد ومدّ الأيادي للمصافحة وبسط السجاد التركي الفخم لاستقبال الوفود الرسمية في القصر الأبيض.
على المستوى الدولي، وعوضاً عن التناحر مع موسكو والصدام معها في سوريا والبحر الأسود وآسيا الوسطى، صارت أنقرة -بين طرفة عين وانتباهتها- حليفة لفلاديمير بوتين، وأقرب إلى معسكر المناوئين للبيت الأبيض، أو على الأقل، خارج بيت الطاعة الأميركي.
تركيا ليست إردوغان وحده
"تركيا ليست إردوغان وحده". هذا ما اكتشفه كثيرٌ من الشباب العربي الذين جذبت أنظارهم الانتخابات التركية، بما تتمتع به من حيوية عالية وقدرة تنافسية وحضور شعبي لافت، وهي أمورٌ، على الأغلب، ليست مألوفة لكثير من مواطني الدول الشرق أوسطية.
غطّت الفضائيات العربية الانتخابات التركية بدرجة فائقة من الاهتمام، بحيث لم يكن أمام المتابعين العرب سبيلٌ للإفلات من مشاهدة طوابير الناخبين الأتراك، والاستماع إلى تقارير المراسلين الذين أوفدوا إلى هناك لتغطية العملية الانتخابية. هذا الأمر كشف، من زاوية أخرى، عمق الروابط الحضارية والثقافية بين العرب وجيرانهم الأتراك بشكل عام، وهي حقائق لا مفر من أخذها بالحسبان عند أي محاولة لرسم مستقبل المنطقة.
خلال الانتخابات، تنبّه العرب للساسة الأتراك الذين ينافسون إردوغان على كرسي الرئاسة منافسة أوشكت، وفق بعض التوقعات، أن تزيحه بالفعل عن موقعه كرئيس للبلاد.
تعرّف العرب إلى كمال كليجدار أوغلو، السياسي التركي المعارض ورئيس حزب الشعب الجمهوري، الذي حصل على 44.8% من أصوات الناخبين في المرحلة الأولى، ووصل إلى الجولة الثانية، وذلك لفشل أي من المرشحين في الحصول على نسبة 50% + صوت واحد، إذ حصل إردوغان على 49.52%، فيما حصل المرشح الثالث القومي المتشدد سنان أوغان على نحو 5.1% من الأصوات.
بالنسبة إلى أنصاره في تركيا، فإن السياسي المعارض كليجدار أوغلو البالغ 74 عاماً هو "منقذ الديمقراطية التركية" الذي يمكن أن يمحو آثار "الاستبداد والسلطوية" التي سادت البلاد على مدار عقدين، ويعود بتركيا إلى القيم الأتاتوركية، كما أنه يعد مؤيديه بمكافحة الفساد وترميم الأوضاع الاقتصادية والعودة إلى قصر كانكايا الرئاسي التاريخي، مفضّلاً إياه على القصر الفخم المكون من 1100 غرفة، الذي بناه إردوغان خلال عامي 2014 و2015، وطالته حينها اتهامات بهدر المال العام والتعدي على البيئة.
أما بالنسبة إلى العرب، فإن أشد ما لفتهم في خطاب كليجدار أوغلو الذي تطلق عليه الصحافة لفظ "غاندي – كمال" بسبب تشابهه في المظهر مع الزعيم الهندي الراحل المهاتما غاندي، هو حديثه عن العلاقات مع سوريا، إذ من المتوقع أن تشهد العلاقات التركية السورية تطورات إيجابية في حال نجاحه. وقد أشار كليجدار أوغلو في أكثر من تصريح إلى نياته بالتصالح العاجل مع الرئيس بشار الأسد وإعادة فتح السفارة التركية في دمشق.
حتى حديث كليجدار أوغلو عن إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم "خلال عامين"، الذي أثار جدلاً واسعاً، جاء في سياق حديثه عن التصالح مع الحكومة الشرعية في دمشق وتبادل العلاقات الدبلوماسية مع السلطات السورية، كاشفاً عن نياته للمساعدة في بناء الجسور والمدارس في سوريا، والتوسع بالاستثمارات التركية لضمان فرص عمل جديدة للسوريين بعد عودتهم إلى بلادهم، لافتاً إلى أن السوريين يعملون من دون تأمين في تركيا، وبالتالي ستزداد معاناتهم مع تقدمهم في السن وعدم حصولهم على رواتب.
توتر الأجواء بين المرشح الرئاسي كليجدار أوغلو وموسكو، التي اتهمها في تغريدة في موقع "تويتر" بأنها تتدخل في الانتخابات لمصلحة إردوغان، داعياً إياها للكفّ عن تلك المحاولات، يثير العديد من التساؤلات حول مستقبل أنقرة في علاقاتها الخارجية: هل تكون أقرب إلى واشنطن أم أقرب إلى خصومها؟
أما مسألة التوجهات العلمانية لكليجدار أوغلو، التي تركز عليها المنصات الإعلامية العربية المناصرة لإردوغان، فإن الرجل ليس بعيداً كثيراً من خصمه في هذا السياق، فقد قام، منذ أن تولى قيادة حزب الشعب الذي أنشأه مصطفى كمال أتاتورك، بتغيير رؤية الحزب عبر التخفيف من صورته العلمانية المتشددة. كذلك، في عام 2022 اقترح مشروع قانون لضمان حق التركيات في وضع الحجاب، سعياً منه لاستمالة القاعدة المحافظة.
المشاركة الواسعة عامل قوة في الانتخابات التركية
عندما بدأت حالة انتعاشة سياسية في الدول العربية، وازداد الحديث عن أهمية الاحتكام إلى الشعب عبر الصندوق الانتخابي، لفت خبراء سياسيون الأنظار إلى أن نزاهة الانتخابات ليست المعيار الوحيد لتقييم العملية الانتخابية، بل هناك عامل آخر شديد الأهمية، هو "نسبة المشاركة الشعبية في الانتخابات".
الإقبال على صندوق الانتخاب هو، بحد ذاته، دليل على إيمان الناس بجدوى التصويت ومؤشر على مدى تغلغل السياسة العامة في حيواتهم الخاصة. وبالمثل، فإن تدني نسبة المشاركة يعد موقفاً سياسياً ورسالة شعبية بأن العملية الانتخابية مرفوضة بالكامل أو غير مقنعة بدرجة كافية.
لذا، إن أهم العوامل التي ميّزت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية الأخيرة هو ارتفاع معدّل المشاركة الشعبية التي تخطت حاجز 90%، بحسب ما رصده مراقبون للعملية الانتخابية، سواء من أنصار كليجدار أوغلو أو إردوغان، وبلغت قرابة 88% بحسب البيانات الرسمية للهيئة العليا للانتخابات.
يُرجع البعض المشاركة الواسعة في العملية الانتخابية إلى أنها تشمل المنافسة على كرسي الرئاسة ومقاعد البرلمان في الآن ذاته، بيد أن هذا التفسير لا يطعن في حقيقة إيمان الشعب التركي بجدوى المنافسة الديمقراطية، بل يؤكده.
وقد ركزت بعض الأقلام العربية على مسألة ارتفاع نسبة المشاركة في الانتخابات التركية، وخصوصاً إذا ما قورنت بانخفاض نسب المشاركة في الانتخابات التي تجري في الأقطار العربية، سواء الرئاسية أو البرلمانية، مؤكدين أنَّ العملية الديمقراطية في الوطن العربي تحتاج إلى دفعة قوية إلى الأمام، وأن الوضع السياسي برمته يحتاج إلى إعادة بلورة، بحيث يشعر المواطن العربي بأن مصالحه الخاصة مرتبطة بالسياسة العامة لدولته. وبناءً عليه، يكون مهتماً بالتصويت وإعلان موقفه السياسي.
ماذا يريد العرب من النظام التركي الجديد؟
يؤكد الاهتمام العربي الواسع بالانتخابات التركية مدى انعكاس الوضع السياسي في أنقرة على مختلف العواصم العربية، فلم يعد بإمكان أحد الجدال في الحقائق الجيوسياسية المتعلقة بارتباط مصير دول الشرق الأوسط، ومدى تأثّر البلدان بعضها ببعض، سلباً كان أم إيجاباً.
وبرصد التغطيات الإخبارية التي حرص عليها معظم الفضائيات العربية، وبمتابعة عدد من المقالات التي حررها كتاب الرأي في الصحف العربية، يمكن تبيّن ملامح النظام التركي الجديد الذي يأمله قطاع واسع من الأنتليجنسيا العرب:
أولاً، بعد تجربة "الربيع العربي"، ثمة آمال بأن يركز النظام التركي الجديد على شؤونه الداخلية، ويحسّن أوضاع البلاد الاقتصادية، ويتراجع عن كثير من "السياسات التوسعية" التي سادت طوال العقد الأخير.
ثانياً، اتزان السياسة الخارجية التركية في الكثير من الملفات الدولية والإقليمية، إذ اتسمت سياسة أنقرة طوال الفترة الأخيرة بالتقلبات الحادة، بالشكل الذي أزعج كثيراً من العواصم الإقليمية التي تتعامل مع تركيا، وسبّب لها شعوراً بالقلق حيال الاتفاقات والمعاهدات التي يتم إبرامها.
ثالثاً، تحاشي افتعال الخصومات المتكررة مع الدول الجارة واللجوء إلى لغة الحوار والعمل الدبلوماسي عوضاً عن التصعيد والمبادرة بالهجوم اللفظي.
رابعاً، الوعي بالتغيرات العالمية التي أدت إلى نشوء أقطاب عالمية جديدة مثل الصين وروسيا، وأقطاب إقليمية مثل إيران والهند، والسعي للانضمام بشكل واضح إلى هذا المحور لإضعاف الحضور الأميركي في منطقة الشرق الأوسط.
خامساً، التوسع في مجالات التعاون الاقتصادي بين تركيا والعواصم العربية، بما يضمن مصالح جميع الأطراف المتعاونة، ويؤسس لسوق مستقلة يكون لديها مستقبلاً القدرة على تحقيق نوع من الاكتفاء الذاتي.
سادساً، التعامل مع العواصم العربية على أساس من الندّية والمصالح المشتركة، والتوقف عن النظر إلى الساحة العربية باعتبارها مجالاً خصباً يمكن من خلاله تحصيل عوامل القوة عبر التوسع والهيمنة وقضم الأراضي.