ماذا قدّمت مصر للمملكة السعودية؟
تماهَى الموقف السياسي المصري بصورة كبيرة مع السياسات والرغبات السعودية منذ عام 1974 حتى يومنا بصورة أفقدت مصر دورها القيادي.
-
ماذا قدّمت مصر للمملكة السعودية؟
الدارس لتاريخ العلاقات المصرية السعودية سوف يكتشف أنها بقدر ما اتسمت بالتقلب من النقيض إلى النقيض، إلا أنها قد استقرت إلى حد كبير بعد عام 1974، حينما انتقل مركز النفوذ المالي والسياسي من مصر وسوريا والعراق إلى دول الخليج النفطية وخصوصاً المملكة السعودية، وتسليم القيادات المصرية-منذ تولّي أنور السادات الحكم، ومن بعده حسني مبارك، وحتى يومنا-بضرورة التماهي مع السياسات الخليجية عموماً والمملكة السعودية على وجه الخصوص.
وحينما تكرّرت الأزمات-المكبوتة أحياناً، والمعلنة أحياناً أخرى-بين قيادات الدولة في البلدين، كان المناصرون والمتعاونون مع المملكة يلجأون عادة إلى الصيغ الإعلامية نفسها من خلال الحديث حول مساعدات المملكة لمصر، وأفضالها على مصر!.
بيد أنه ظلت هناك مساحة من البحث والتحقيق لم يتناولها أحد بالدقة العلمية والتاريخية المطلوبة وهي:
ماذا قدّمت مصر للملكة السعودية تحديداً؟
نستطيع أن نشير إلى جانبين أساسيين قدّمت فيهما مصر خدمات هائلة للمملكة السعودية وقياداتها منذ عام 1974 حتى يومنا الراهن (2022) وهي:
أولاً: تقديم الموقف السياسي المصري الملتزم تماماً بالمواقف السعودية على المستويين: الإقليمي والدولي.
ثانياً: في مجال إنفاق المليارات في الاقتصاد السعودي في صور متعددة، أهمها على الإطلاق رحلات الحج والعمرة لملايين المصريين سنوياً.
فلنتأمّل كل واحد من هذه المكاسب.
أولاً: الموقف السياسي المصري رهين المملكة السعودية
لقد تماهَى الموقف السياسي المصري بصورة كبيرة مع السياسات والرغبات السعودية منذ عام 1974 حتى يومنا بصورة أفقدت مصر دورها القيادي، وأدخلت المنطقة العربية كلها إلى حالة من التيه السياسي وفقدان التوازن والبوصلة على المستويات كافة.
ونتيجة لهذه السياسة المصرية-والابتعاد عن دول الثقل التاريخي في المنطقة مثل سوريا والعراق والجزائر-تعزّز الدور السعودي في الإقليم بصورة كبيرة، فأدخل المنطقة العربية في حالة من النزاعات الطائفية والمذهبية، لم تتخلص منها شعوبنا حتى يومنا هذا.
ويدرك المتخصصون في العلوم الاستراتيجية أن غياب مصر بهذا المعنى-حتى قبل أن تنخرط في تسوية غير عادلة مع الكيان الإسرائيلي بزيارة السادات المشؤمة للقدس المحتلة في تشرين الثاني/نوفمبر عام 1977، ومن بعدها توقيع اتفاقيتَي كامب ديفيد عام 1978 و"السلام" في آذار/مارس عام 1979 مع الكيان الإسرائيلي، وتبعيّتها للمحور الخليجي الممالئ تماماً للولايات المتحدة-قد أفقد الإقليم توازنه.
ومن دون هذا الانحياز المصري الرسمي لهذا المحور المحافظ والتقليدي ما كان للمملكة السعودية أن تؤدي دور القيادة في الإقليم وتأخذه إلى مرحلة التشتت والتيه الاستراتيجي.
ثانياً: نفقات الحج والعمرة لملايين المصريين
تثير قضية مصروفات المصريين– أو غير المصريين– على رحلات الحج والعمرة مشكلات متعددة، سواء على المستوى العلمي والأكاديمي، أو على المستوى السياسي والاجتماعي، بقدر ما تثير مخاوف وهواجس جماعات وفئات اجتماعية وثقافية معينة. ذلك أن هذا الموضوع برغم طابعة الديني والعقائدي المرتبط بوجدان ومشاعر المصريين عموماً والمتدينين منهم على وجه الخصوص فإن له أبعاداً وجوانب اقتصادية ومالية مسكوتاً عنها منذ سنوات طويلة.
وبقدر عمق العلاقة بين أداء فريضة الحج وشعيرة العمرة بقدر ارتباطها بحركة أوسع نطاقاً من الناحية المالية والاقتصادية على الصعيدين الإقليمي والدولي يطلق عليها "إعادة التدوير"، ذلك أن مئات الملايين من الدولارات التي حصل عليها المصريون العاملون في منطقة الخليج والمملكة السعودية وغيرهم من غير العاملين من الجنسيات الأخرى في المملكة قد عاد جزءٌ كبير منها إلى اقتصاد المملكة نفسها في صورة نفقات لزيارات الحج والعمرة التي قام بها عشرات الملايين من المصريين طوال الحقبة النفطية نفسها (1974- 2020).
ومن ثم فإن الحركة المالية والاقتصادية بين مصر والسعودية لم تكن ذات اتجاه واحد (من السعودية إلى مصر)، وإنما كانت في اتجاهين متوازيين ومتعاكسين. ولذا كان من الممكن للدارسين والباحثين التمييز بين 4 مراحل تاريخية لأداء فريضة الحج والعمرة هي:
المرحلة الأولى: الممتدة منذ ظهور الدعوة المحمدية وحتى ما قبل عام 1911
المرحلة الثانية: من عام 1918 وحتى عام 1973
المرحلة الثالثة: من عام 1974 حتى عام 1991
المرحلة الرابعة: من عام 1992 حتى اليوم.
معاييرنا في التمييز بين هذه المراحل المختلفة 4 عناصر متكاملة هي:
المعيار الأول: مدى توافر وتطوّر وسائل النقل والمواصلات.
المعيار الثاني: مقدار التكاليف المالية والأعباء المادية لأداء الفريضة الدينية.
المعيار الثالث: مدى توافر الاستقرار السياسي في الأراضي الحجازية بما توفره من التجهيزات الإدارية والبنية اللوجيستية في الأماكن المقدسة وخدمة زوار بيت الله الحرام.
المعيار الرابع: نظم التسجيل ورسوم دخول الأماكن الحجازية من حيث الإقامة أو القيود الكمية والنوعية والمالية.
إن بعض المصادر التاريخية تشير إلى أن دخل الحكومة السعودية من الضرائب والرسوم على الحجاج المصريين عام 1938 قد بلغ نحو 5 ملايين جنيه مصري(1)، وهو مبلغ ضخم في ذلك الزمان، هذا علاوة على النفقات المباشرة التي ينفقها الحجاج في الأراضي المقدسة (المأكل والمشرب والسكن والأضحية وشراء الهدايا للأقرباء.. إلخ)، والتي تزيد بدورها عن 3 إلى 5 أضعاف هذا المبلغ، أي نحو 15 مليوناً إلى 20 مليون جنيه بأسعار ذلك الزمان.
وهذه الضرائب والرسوم على الحجاج المصريين كانت تعني أن عدد هؤلاء الحجاج ذلك العام (1938) يزيد على 25 ألف حاج مصري (بمتوسط 200 جنيه للحاج الواحد)، أي إن نفقات الحجاج المصريين سنوياً كانت تتراوح من 20 مليون جنيه إلى 25 مليون جنيه (بما يعادل 60 مليون دولار إلى 75 مليون دولار).
ولعل التطور الأبرز في هذه المرحلة هو اكتشاف آبار النفط في شبه الجزيرة العربية بكميات هائلة بعد عام 1913، وبداية الحفر المكثف في المملكة السعودية منذ عام 1933، مما أدى إلى تراجع مداخيل مواسم الحج والعمرة إلى المرتبة الثانية في الاقتصاد السعودي.
ويشير أحد الباحثين السعوديين إلى هذه الحقيقة بقوله: "إنه بعد أن كان الاعتماد يقوم على رسوم الحجيج وما ينفقونه أثناء مواسم الحج والعمرة أصبح النفط أهم مصدر للدخل خاصة بعد عام 1973"(2).
إذاً حتى عشية اندلاع حرب أكتوبر عام 1973 كانت عائدات النفط في المملكة السعودية تكاد تعادل تقريباً عائدات المملكة من النفقات التي يؤديها الحجيج والمعتمرون القادمون من بقاع العالم الإسلامي كافة -ومن بينها مصر-وتعتبر مسؤولة عن تحريك القطاع الشعبي الأكبر في الاقتصاد السعودي.
بيد أنه بعد عام (1974 حتى عام 1991) حدثت 4 تحوّلات اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية كبرى عكست نفسها على حركة الحج والعمرة، ليس في مصر وحدها وإنما في ربوع العالم الإسلامي كله، وقد تمثلت هذه التحولات الكبرى في الآتي:
الأول: التطور السريع والمذهل، ليس في استحداث وسائل النقل والمواصلات فحسب، وإنما في امتلاك الدول العربية والإسلامية (خاصة المملكة السعودية وبقية دول الخليج) لأساطيل بحرية للنقل، وكذا أساطيل من طائرات الركاب الحديثة.
الثاني: تحركات العمال والمهنيين العرب عموماً والمصريين خصوصاً بأكثر من 20 مليون عامل ومهني من المستويات العلمية والمهنية كافة خلال هذه الحقبة النفطية (1974 – 1991) من بلدانهم إلى مراكز "علاء الدين النفطي" ومعهم تحركت مليارات الدولارات في صورة تحويلات نقدية أو عينية من هؤلاء العمال والمهنيين إلى بلدانهم وإلى أسرهم؛ مما جعل مئات الآلاف من الفقراء ومتوسطي الحال قادرين على أداء فريضة الحج(3) وتكرار رحلات الاعتمار.
الثالث: تنامي النفوذ الفكري والثقافي والسياسي للتيارات الوهابية عموماً في المنطقة العربية والإسلامية، بدءاً من إندونيسيا وباكستان انتهاءً بمصر والجزائر وبلاد المغرب العربي، وصعود ما يسمّى "الصحوة الإسلامية"، وانتقال هذا النفوذ الفكري والثقافي من إطاره العقائدي والوجداني إلى الإطار السياسي الحركي (الجماعات الإسلامية بكل أنواعها)، وانضمام عشرات الآلاف من الشباب إلى هذه الجماعات بتياراتها كافة.
بدءاً من الإخوان المسلمين، مروراً بجماعتَي "الجهاد والجماعة الإسلامية"، وانتهاءً بجماعة (التبليغ والدعوة، وجماعة التكفير والهجرة وغيرهم)، حتى الجماعات ذات الطبيعة السلفية والصوفية، والمقدّر عددها بأكثر من مليون شاب خلال هذه الفترة (1971-2006).
كل هذا قد عزز من نفوذ هذه الجماعات وزاد من تأجيج المشاعر الدينية لدى ملايين المصريين، ومنها تأججت مشاعر دينية تعرضت للقنص من جانب جماعات وجمعيات وجدت في هذه المشاعر الدينية فرصة سانحة للكسب؛ فتشكّلت آلاف الجمعيات التي جعلت من تنظيم رحلات الحج والعمرة سوقاً للكسب والتربّح.
الرابع: اكتساح رياح العولمة الرأسمالية وآليات السوق بكل وحشيتها للأنشطة والمجالات كافة، ونزولها العاصف إلى حركة الحج والاعتمار فحوّلتها إلى سوق بكل مشكلات السوق وجشع العاملين فيه.
وسط هذه الظروف والمتغيرات، تأججت مشاعر الشوق لملايين المصريين لأداء فريضة الحج وأحد أركان الإسلام الخمسة، خاصة وأن تدفقات وتحركات ملايين المصريين في سوق العمل بالخليج والبلاد العربية النفطية قد ساعد على توفير عنصر "الاستطاعة" المالية، وزادها الشوق والوجدان الديني التلقائي لدى المصريين البسطاء لهيباً واندفاعاً.
سوف نركّز في تحليلنا الراهن على المرحلتين الأخيرتين: الثالثة والرابعة، أي من عام 1974 حتى عام 2021 نظراً لارتباطهما المباشر بموضوع بحثنا، حيث أظهرت الإحصاءات المتاحة أن من أكبر الشعوب حضوراً وإنفاقاً في مواسم الحج والعمرة في الأراضي المقدسة هم المصريون والأتراك طوال الخمسين عاماً الماضية(4)، وبين هذا وذاك تحركت مئات الملايين من الدولارات الأميركية والريالات السعودية في شرايين الحياة الاقتصادية لتنقل نبضات الحياة من هنا إلى هناك.
وقد ترتّب على القفزة في أسعار برميل النفط أن قفزت عوائد صادرات النفط العربي خلال الفترة (1971-1983) إلى 1.2 تريليون دولار أميركي، نالت السعودية فيها حصة الأسد (بقيمة 552.8 مليار دولار) تليها الإمارات المتحدة (117.0 مليار دولار) فالكويت (108.4 مليارات دولار) وبقية الدول العربية مثل ليبيا والعراق والجزائر وغيرها (5).
وقد قدّر حجم تحويلات وتعويضات العاملين على مستوى العالم خلال السنوات العشر من 1975 حتى عام 1985 بحوالي 80 مليار دولار سنوياً، ثم زادت عام 2000 إلى حوالي 131.5 مليار دولار، ثم إلى 336.9 مليار دولار عام 2007 (6)، وكانت حصة البلدان العربية منها حوالي 20% تقريباً، ولم تزد حصة مصر منها ذلك العام عن 8.5 مليارات دولار(7).
ووفقاً لدراسة قام بها الباحث الاقتصادي السعودي عبد الحميد العمري، عضو جمعية الاقتصاد السعودية، ونقلاً عن مؤسسة النقد السعودي، فإن إجمالي ما قام بتحويله الأجانب العاملون في المملكة السعودية (وعددهم يقارب 7 ملايين، معظمهم من شرق آسيا) إلى بلدانهم خلال السنوات العشر (1998-2007) قد بلغ 164.3 مليار دولار، أي بمتوسط 16.4 مليار دولار سنوياً تتفاوت من سنة إلى أخرى، وقدر لها أن تتجاوز 24 مليار دولار أميركي في السنة خلال الأعوام العشرة اللاحقة (8).
ومن جانب آخر فإن البيانات الصادرة عن النشرة الشهرية من البنك المركزي المصري في آب/أغسطس عام 2009 تكشف عن جانب آخر من الصورة، حيث تراوحت تحويلات العمالة المصرية في المملكة السعودية بين 640 مليون دولار أميركي عام (2003/2004) إلى 959.0 مليون دولار أميركي عام (2007/2008) شاملة التحويلات النقدية والعينية معاً.
والأخيرة هي تلك المصاحبة للعامل المصري أثناء عودته أو التي قام بشرائها ونقلها إلى ذويه في مصر، مثل السيارات أو السلع الكهربائية المعمرة، أي إنها تشمل جزءاً جرى إنفاقه داخل أراضي المملكة السعودية وفي شرايين اقتصادها.
وبهذا فإن مجموع تحويلات العاملين المصريين في السعودية إلى مصر خلال السنوات الخمس الممتدة من 2003/2004 حتى عام 2007/2008 قد بلغت 3959.7 مليون دولار في صورها النقدية أو العينية (9).
ولم يكن هناك من فرصة متاحة للمملكة السعودية لإعادة تدوير هذه الأموال التي حصل عليها العاملون الأجانب لديها سوى من خلال توظيف المشاعر الدينية، وتأجيج ما يسمى "الصحوة الإسلامية"، فتدفقت مئات الملايين من الدولارات مرة أخرى من خارج المملكة إلى داخلها مصاحبة لعشرات الملايين من الحجيج والمعتمرين المسلمين من مصر وبقية ربوع العالم الإسلامي.
وهكذا تقرّر في السعودية اتّباع سياسة "التدوير" ذاتها التي اتبعتها الدول الأوروبية والولايات المتحدة في مواجهة فوائض الأموال المتحققة لدى دول النفط العربية بعد عام 1974، وذلك بإعادة إدخال وتدوير هذه الفوائض المالية داخل الاقتصاديات الغربية، سواء في الأسواق المالية، أو أسهم الشركات الصناعية وغير الصناعية، أو أذون الخزانة الأميركية والأوروبية.
فما هي حصة المصريين من هذه التدفقات المالية العائدة إلى المملكة السعودية؟
هنا ينبغي التوقّف عند عنصرين أساسيين في التحليل والتقدير هما:
الأول: ما هي عناصر الإنفاق في مواسم الحج والعمرة؟
الثاني: ما هو العدد التقديري للحجاج والمعتمرين المصريين سنوياً؟
ومنهما نستطيع تقدير حجم إنفاق الحجاج والمعتمرين المصريين داخل المملكة؟ وكيف نقارنه بتحويلات العمالة المصرية من المملكة إلى مصر؟
فلنتوقّف عند كل واحد منهما بشيء من التفصيل:
عناصر إنفاق الحجيج والمعتمرين
يمكن تحديد عناصر الإنفاق سواء في فريضة الحج، أو العمرة في العناصر السبعة التالية:
1-تكاليف الحصول على تأشيرة السفر والحصول على وثيقة السفر (هيئة مخاع – القنصليات السعودية).
2-تكاليف السفر ذهاباً وإياباً بحراً وجواً أو براً.
3-تكاليف التنقلات داخل الأراضي الحجازية وزيارة الأماكن المقدسة والمزارات الدينية.
4-تكاليف الإقامة والمبيت في الفنادق.
5-تكاليف المأكل والمشرب داخل المملكة السعودية، والتي يتولاها مئات من المطوفين وأصحاب أماكن الإقامة والضيافة.
6-تكاليف الفدو (الأضحية) في موسم الحج التي وفرت سوقاً كبيرة لتجارة اللحوم.
7-تكاليف شراء الهدايا من الأراضي المقدسة، والتي تحمل نفحات وبركات الأماكن المقدسة.
8-هذا بخلاف حركة التجارة الفردية عبر ما يسمى (تجارة الشنطة) خاصة في رعاية الدول ذات القيود الاستيرادية(10).
وتتفاوت تكاليف كل عنصر من هذه العناصر بحسب القدرات المالية للحاج أو المعتمر، ومستوى ونوع الخدمة المقدّمة له.
برغم أن الحجاج المصريين لم يكونوا هم الأكثر عدداً خلال العقود السابقة على عام 1974-مقارنة بحجيج دول إسلامية أخرى مثل إندونيسيا أو دول جنوب آسيا المسلمة - فإنهم (أي المصريين) كانوا الأفضل من حيث التجارة والشراء بحكم كونهم من الطبقة الوسطى وفوق الوسطى، ومن ثم القادرين مادياً على تحمل أعباء وتكاليف الحج في تلك السنوات، وساهم وجود "التكية المصرية" في مكة والمدينة في إضافة مظهر مميز لمصر لدى الحجيج عموماً ولدى السعوديين على وجه الخصوص.
وإذا كانت المملكة قد بدأت منذ عام 1993 نظاماً جديداً لاستقدام الحجيج من خلال نظام الحصة لكل دولة منسوبة لعدد السكان (واحد لكل ألف)، فأصبحت حصة مصر من الحجيج تتراوح بين 70 ألفاً إلى 100 ألف سنوياً، هذا بخلاف المصريين المقيمين في المملكة.
أما رحلات العمرة فقد تميزت بأربعة مواسم على مدار العام وهي:
الموسم الأول: رحلات عمرة المولد النبوي الشريف خلال الشهور الأربعة (ربيع أول – ربيع ثانٍ – جماد أول – جماد ثانٍ)، ويقدر الخبراء والعاملون في هذا الحقل السياحي والديني عدد المعتمرين المصريين ومرافقيهم في هذا الموسم بما يتراوح بين 250 ألفاً كحد أدنى و400 ألف شخص كحد أقصى، وهي الرحلة الأقل سعراً على أي حال، حيث يتراوح فيها سعر الرحلة ما بين 3266 إلى 3500 جنيه تقريباً، تزيد قليلاً بالنسبة للمرافق وذلك بسبب انخفاض أسعار تذاكر الطائرات وفقاً لأسعار عام 2008.
الموسم الثاني: عمرة شهر رجب حتى النصف الأول من شهر شعبان، ويُقدّر المعتمرون المصريون مع مرافقيهم بحوالي 80 ألفاً إلى 100 ألف شخص، ويزيد سعر هذه الرحلة عن عمرة المولد النبوي بحوالي 1000 جنيه مصري تقريباً.
الموسم الثالث: عمرة النصف الثاني من شهر شعبان حتى الخامس من شهر رمضان، ويكاد يتراوح عدد المعتمرين ومرافقيهم في هذا الموسم بين 100 ألف إلى 150 ألف شخص، ويزيد سعرها كذلك عن عمرة المولد النبوي بحوالي 700 جنيهٍ مصري.
أما الموسم الرابع: فهو موسم عمرة شهر رمضان، ويقدر عدد المعتمرين المصريين ومرافقيهم فيها بحوالي 250 ألف شخص إلى 300 ألف شخص(11)، وهي بدورها تنقسم من حيث أسعارها بين ثلاثة أنواع:
- إما شهر رمضان كاملاً بسعر (6000 جنيه بالطائرات).
-أو العشرة الأوائل من شهر رمضان (4800 جنيه بالطائرات).
-أو العشرة الأواخر من الشهر الكريم (11 ألف جنيه، شاملة الوجبات الغذائية).
ووفقاً لنتائج الدراسة الوحيدة الرائدة التي صدرت حول هذا الموضوع فقد تبينت الحقائق التالية:
1-قبل عام 1955 كان أداء فريضة الحج وسنة العمرة يكاد يكون محصوراً على الطبقات الثرية في مصر من طبقة ملاك الأراضي الزراعية والتجار ورجال المال والأعمال، وفئة قليلة من متوسطي الدخول من كبار الموظفين ومن على شاكلتهم، نظراً للتكاليف الباهظة التي كان يتحمّلها المسافر لأداء فريضة الحج، والتي كانت تتراوح بين 200 إلى 500 جنيه مصري (الجنيه المصري يعادل 2.89 دولار أميركي خلال هذه الفترة، وكان يعادل نحو 25 ريالاً سعودياً في تلك الفترة) هو مبلغ باهظ لا يتوافر للكثيرين من غالبية الشعب المصري.
ورغبة من نظام الرئيس عبد الناصر في إتاحة الفرصة لأداء هذه الفريضة للفئات الوسطى ومحدودي الدخل بدأ عام 1955 بإعادة تنظيم هذا القطاع، حيث جرى التعاقد بيـن وزارة الداخلية المصرية من جهة وكل من الشركة المصرية للملاحة البحرية وشركة مصر للطيران من جهة أخرى لمدة 10سنوات، يتم بمقتضاه حصول الوزارة على تأشيرات زيارة الأماكن المقدسة وإصدار وثائق السفر الخاصة بها مع تنظيم أفواج الحجيج.
ولم تتجاوز تكاليف السفر ذهاباً وعودة والإقامة والتنقلات بين مكة والمدينة وميناء جدة أو ضبـه نحو 120 جنيهاً (في حالة السفر بحراً) تزيد إلى 150 جنيهاً (في حالة السفر جواً)، إضافة بالطبع إلى رسوم وضرائب زيارة الأراضي المقدسة، ولم تشمل هذه التكلفة بالطبع نفقات المأكل والمشرب وشراء الهدايا من جانب الحجاج المصريين في الأماكن الحجازية.
ومن جهة أخرى فقد بدأ منذ ذلك التاريخ " نظام القُرعَة " الذي كانت تنظّمه سنوياً وزارة الداخلية المصرية، بسبب تزايد الإقبال على هذا الحج الشعبي – إذا جاز التعبير – في ظل وجود تأشيرات محددة للسفر إلى الأراضي الحجازية قد لا تزيد عن 40 ألف تأشيرة سنوياً، إضافة إلى الاعتبارات المالية التي أخذت بها الحكومة المصرية – وما زالت–بشأن تأثير هذه المسحوبات من العملة الأجنبية (الدولار الأميركي أو الريال السعودي أو الجنيه الإسترليني) على احتياطياتها المتاحة من النقد الأجنبي.
وحتى ذلك التاريخ لم تكن قد برزت أدوار أطراف أخرى فاعلة في عمليات تنظيم رحلات الحج والعمرة مثل شركات السياحة التجارية أو الجمعيات الأهلية، فظلت أفواج الحجيج في معظمها تتولاها أجهزة وزارة الداخلية بالتعاون مع السلطات السعودية من الجانب الآخر. ووفقاً لنتائج المعادلات الرياضية التي قدّمتها هذه الدراسة الفريدة فإن:
مجموع ما تحمّلته مصر من اقتصادها في رحلات "الحج" لهذه الفترة (1955-1973) قد بلغ 360 مليون جنيه، أي ما يعادل 1044 مليون دولار أميركي يحصل الاقتصاد السعودي على نصفها تقريباً (522 مليون دولار أميركي).
وحتى نتعرّف على مدى ما تمثله هذه المبالغ من قيمة في الاقتصاد المصري في ذلك الحين، ينبغي مقارنتها بالدخل القومي المصري الذي تراوح بين 800 مليون جنيه عامي 1952-1953 و2692 مليون جنيه عامي 1970-1971 (12)، وبالتالي فإن نفقات المصريين على رحلات الحج خلال هذه الفترة كانت تتراوح بين 2.5% إلى 3.0% من الدخل القومي المصري.
أما بعد عام 1974 حتى اليوم، وما صاحبها من انتعاش هذه الحركة الواسعة وتحرك ما يزيد عن1.5 مليون مصري سنوياً في قوافل الحج والعمرة، وبروز دور الشركات السياحية العاملة في هذه السوق المصرية ولدى الوكلاء السعوديين، فقد زادت هذه النفقات طبقاً لعناصر الإنفاق السبعة التي سبق وأشرنا إليها من قبل.
فقد تجاوزت عام 2008 نحو 2584.9 مليون دولار أميركي نصفها أنفق تقريباً داخل شرايين الاقتصاد السعودي، أي نحو 1292.5 مليون دولار، وهو ما يتجاوز حجم تحويلات العاملين المصريين في المملكة إلى مصر ذلك العام والمسجّل بنحو 959.4 مليون دولار، أي إن إنفاق الحجاج والمعتمرين المصريين في ذلك العام وحده قد تجاوز تحويلات العاملين المصريين في المملكة بأكثر من 333.1 مليون دولار.
وهنا نسأل: من يساعد من؟
وإذا كانت هذه هي النتيجة في عام 2008، فالمقدّر أنها قد زادت سنة بعد أخرى لأسباب مفهومة ومرتبطة بمعدلات التضخم وارتفاع الأسعار، ومن المقدر أنها كانت تزيد بنسبة 10 إلى 20% سنوياً، بحيث تضاعفت التكاليف والنفقات بحلول عام 2019 إلى حوالي 5.0 مليارات دولار مع بقاء أعداد من الحجاج والمعتمرين المصريين على مستواها، أي حوالي 1.5 مليون شخص.
وفي الختام إذا حاولنا جمع شتات الصورة، طوال السنوات الممتدة من عام 2009 حتى العام 2019 فإن مجموع تكاليف الحجاج والمعتمرين المصريين في المتوسط تقدّر بحوالي 35.0 مليار دولار، ذهب نصفها على الأقل داخل شرايين الاقتصاد السعودي (أي حوالي 17.5 مليار دولار).
وهنا نسأل من جديد: من كان يساعد من.. مصر أم السعودية؟
الهوامش والمصادر
(1) عاشق الحسن، الأضرار الدينية والاجتماعية للاحتكار الوهابي لإدارة "الحج" خلال ثمانين عاماً، مقال منشور على الإنترنت، آب/أغسطس 2009.
(2) خالد عبد الكريم الحمد، تقرير عن التنمية الإدارية في المملكة العربية السعودية، مجلة "الإدارة العامة" في المملكة العربية السعودية، الرياض، العدد (46) بتاريخ حزيران/يونيو 1985 ص 190
(3) لمزيد من التفاصيل حول تحركات العمالة المصرية إلى السعودية ودول الخليج، انظر عبد الخالق فاروق "التطرّف الديني ومستقبل التغيير في مصر"، القاهرة، مركز الحضارة العربية، 1994.
(4) لمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع انظر كتابي: "اقتصاديات الحج والعمرة.. كم أنفق المصريون على الحج والعمرة"، القاهرة، مركز النيل للدراسات الاقتصادية والاستراتيجية، 2012.
(5) د. خزعل الجاسم "مستقبل الوحدة الاقتصادية وإشكالية توزيع الثروة في الوطن العربي" مجلة المنار، باريس، العدد (19)، حزيران/يونيو 1986، ص101. وكذلك: انظر "عبد الخالق فاروق"، "النفط والأموال العربية بالخارج" القاهرة، دار المحروسة للنشر، 2002، وكذلك غازي سعيد جرادة، مجلة شؤون عربية، (العدد الثالث) أيار/مايو 1981.
(6) مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، مجلس الوزراء المصري، منشورة في جريدة "المصري اليوم" بتاريخ 8/3/2009.
(7) البنك المركزي المصري، التقرير السنوي لعام 2007/2008، القاهرة، ص 83
(8) منشورة على موقع الجزيرة نت بتاريخ 29/8/2009.
(9) المصدر: البنك المركزي المصري، النشرة الاقتصادية الشهرية، آب/أغسطس 2009 ص 94.
(10) لمزيد من التفاصيل يمكن الرجوع إلى كتابي "اقتصاديات الحج والعمرة.. كم أنفق المصريون على الحج والعمرة"، القاهرة، مركز النيل للدراسات الاقتصادية والاستراتيجية، 2012.
(11) رجعنا في هذا للحاج "أحمد العساسي" صاحب واحدة من أقدم شركات السياحة العاملة في الرحلات الدينية في مصر.
(12) الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، الكتاب الإحصائي (1952-1965)، القاهرة، آذار/مارس1966، ص 220-221، وكذلك الكتاب الإحصائي السنوي لعام (1970)، القاهرة، تموز/يوليو1971، ص37، والكتاب الإحصائي لعام1972، القاهرة، تموز/يوليو1973، ص234 -237 .