هل ذاب الجليد بين الصين وأستراليا؟
زارت وزيرة خارجية أستراليا بيني وونغ بكين، بالتزامن مع الذكرى الخمسين لتأسيس العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وعقدت مع وزير خارجية الصين السابق وانغ يي الحوار الصيني الأسترالي السادس.
-
هل ذاب الجليد بين الصين وأستراليا؟
عندما زار الرئيس الصيني شي جين بينغ أستراليا في تشرين الثاني/نوفمبر 2014، والتقى رئيس الوزراء الأسترالي حينها توني أبوت، قال إنّ الصين وأستراليا يمكن أن تصبحا شريكين مخلصين يثقان ببعضهما البعض، إذ لا توجد لديهما مظالم تاريخية ولا مصالح متضاربة.
وأعلن كل من الرئيس شي والرئيس أبوت رفع العلاقات الأسترالية الصينية إلى شراكة إستراتيجية شاملة، واختتام المفاوضات حول اتفاقية التجارة الحرة التي دخلت حيز التنفيذ في العام 2015، ولكن بعد عدة سنوات من زيارة الرئيس الصيني لكانبيرا، تدهورت العلاقات بين الجانبين الصيني والأسترالي، فقد اتهمت كانبيرا بكين بالتدخل في شؤونها الداخلية والتجسس عليها، وأصدرت عام 2018 قانوناً يجرم التدخل الأجنبي.
ورفضت أستراليا في العام نفسه السماح للشركات الصينية ببناء شبكات الجيل الخامس على أراضيها. جاء الرفض بعد اتصال هاتفي أجراه رئيس وزراء أستراليا السابق مالكوم تيرنبول مع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. وقد تدهورت العلاقات أكثر عندما طالبت أستراليا بفتح تحقيق دولي في انتشار فيروس كورونا.
إضافة إلى ذلك، تنتقد كانبيرا بكين دائماً في تعاملها مع قضايا حقوق الإنسان في شينجيانغ وهونغ كونغ، وترى أن الصين تريد بسط نفوذها في منطقة المحيط الهادئ، في حين ترغب أستراليا في تعزيز دورها كزعيم سياسي واقتصادي في المنطقة.
لسنوات طويلة، حاولت أستراليا الموازنة في علاقاتها الاقتصادية مع الصين وعلاقاتها الأمنية مع الولايات المتحدة الأميركية، واستمرت على هذا النحو إلى أن وصل ترامب إلى البيت الأبيض وشن حرباً تجارية على الصين وبدأ يشكل التكتلات ضدها، فأخذت البلاد التي كان يرأس حكومتها مالكوم تيرنبول تتبع الإدارة الأميركية، وسار على ذلك النهج أيضاً سكوت موريسون الذي تسلم رئاسة الوزراء بعد تيرنبول.
وعلى الرغم من تشدّد حكومة موريسون تجاه بكين، فضلت الأخيرة عدم التسرع، واتبعت سياسة ضبط النفس، ودعت كانبيرا مراراً وتكراراً إلى العمل لوقف تدهور العلاقات بينهما وبذل الجهود لتعزيز العلاقات بين البلدين، ولكن عندما وجدت الصين أن أستراليا لم تتوقف عن السير على خطى واشنطن والإدلاء بالتصاريح التي تثير غضبها، اتخذت عدة إجراءات ضد كانبيرا، كالتوقف عن استيراد اللحوم والشعير والنبيذ والفحم من أستراليا.
ووضعت السفارة الصينية لدى أستراليا قائمة من 14 وجهاً للخلاف بين الجانبين الصيني والأسترالي، منها التمويل الحكومي للأبحاث المناهضة للصين في معهد السياسة الإستراتيجية الأسترالي، والمداهمات للصحفيين الصينيين، وإلغاء التأشيرات الأكاديمية، إضافة إلى شن هجمات على الصين بسبب تايوان وهونغ كونغ وشينجيانغ.
وبعد فوز حكومة حزب العمال الأسترالي في الانتخابات في أيار/مايو الماضي، عمل رئيس الحكومة الجديد أنتوني البانيز على كسر الجمود بين البلدين، وشهد النصف الثاني من عام 2022 اجتماعات ثنائية بين وزيري الدفاع الأسترالي والصيني ووزيري خارجية البلدين، إذ التقت وزيرة خارجية أستراليا بيني وونغ نظيرها الصيني على هامش اجتماع وزراء خارجية مجموعة العشرين في بالي في إندونيسيا في شهر تموز/يوليو الماضي، الذي وصفته وونغ بأنه خطوة أولى نحو استقرار العلاقة بين الصين وأستراليا.
وكان أهم لقاء بين البلدين هو الذي جمع الرئيس الصيني ورئيس وزراء أستراليا على هامش قمة مجموعة العشرين التي عقدت في بالي في تشرين الثاني/نوفمبر المنصرم. وقد وصف رئيس وزراء أستراليا البانيز اللقاء بأنه إيجابي وبناء.
وزارت وزيرة خارجية أستراليا بيني وونغ بكين يومي 20 و21 كانون الأول/ديسمبر الماضي، بالتزامن مع الذكرى الخمسين لتأسيس العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وعقدت مع وزير خارجية الصين السابق وانغ يي الحوار الصيني الأسترالي السادس، في زيارة هي الأولى لوزير أسترالي منذ عام 2019، عندما زار وزير التجارة الأسترالي آنذاك سيمون برمنغام بكين قبل أن تتدهور العلاقات بينهما بشكل حاد.
وبعد اجتماع وونغ مع نظيرها الصيني، غردت في "تويتر" قائلة إن الاجتماع خطوة مهمة نحو استقرار العلاقات بين البلدين، وأضافت أن أستراليا تعتقد أنه يمكن تنمية العلاقات الثنائية ودعم المصالح الوطنية إذا تعامل البلدان مع خلافاتهما بحكمة.
وعلى الرغم من كسر الجمود بين الصين وأستراليا، فإن ذلك لا يعني أن كل الخلافات ستُحل، وخلال فترة قريبة، فالرئيس البانيز حرص بعد اجتماعه بالرئيس الصيني على التقليل من التوقعات بإجراء تقدم سريع في حلّ الخلافات بين البلدين، وقال في بيان مشترك مع وزيرة الخارجية وونغ قبيل مغادرتها إلى بكين: "سوف نتعاون حين يمكننا ذلك، ونختلف حيث يجب أن ننخرط في المصلحة الوطنية".
وقالت بيني وونغ بعد اجتماعها بنظيرها الصيني على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة التي عُقدت في نيويورك في شهر أيلول/سبتمبر المنصرم إن العلاقات المتوترة بين أستراليا والصين يمكن أن تعود إلى طبيعتها تدريجياً، لكن تحقيق ذلك دونه طريق طويل.
وفي أثناء زيارتها إلى بكين، ناقشت وونغ مواضيع حقوق الإنسان في الصين وإطلاق سراح مواطنَين أستراليَين معتقلين في الصين، إضافة إلى العقوبات التجارية.
على الرغم من توتر العلاقات الصينية الأسترالية، فإن الصين ظلت أكبر شريك تجاري لأستراليا، وبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين أكثر من 207 مليار دولار أميركي عام 2021، وهو ما يمثل 34.2% من إجمالي التجارة الخارجية لأستراليا، ولكن في عام 2022 انخفض التبادل التجاري بينهما، وبلغ 202.81 مليار دولار أميركي في العام 2022 (ما عدا الشهر الأخير من العام)، بانخفاض 4.2% على أساس سنوي، بحسب بيانات صادرة عن الإدارة العامة للجمارك الصينية.
وقد بلغت صادرات الصين إلى أستراليا 71.51 مليار دولار، بزيادة 20.3% على أساس سنوي، وبلغت واردات الصين من أستراليا 131.31 مليار دولار، بانخفاض 13.7% على أساس سنوي.
تبحث الصين وأستراليا حالياً في إزالة العوائق الاقتصادية المفروضة على الصادرات الأسترالية التي تبلغ قيمتها نحو 20 مليار دولار، وإلغاء القيود الصينية على الفحم الأسترالي. وكانت أستراليا قد تقدمت بشكوى ضد الصين إلى منظمة التجارة العالمية بشأن العوائق المفروضة، ومن المتوقع أن تفصل المنظمة العالمية في النزاع أوائل هذا العام.
ولكن يجري الحديث عن زيارة لوزير التجارة الأسترالي دون فاريل إلى بكين لمناقشة الخلافات الاقتصادية بين الجانبين، وقال فاريل في حديثه إلى صحيفة "The Australian" إن الحكومة الأسترالية أوضحت للصين أن كانبيرا تفضل تسوية الخلافات بشأن القضايا التجارية عن طريق المناقشة بدلاً من التحكيم، وهناك 6 قطاعات رئيسية تأثرت بالعوائق الاقتصادية المفروضة، هي السياحة والمأكولات البحرية والنبيذ والتعليم والشعير والفحم.
لا يخفى أن الصين بحاجة إلى أستراليا، كما أن الأخيرة بحاجة إلى الصين، وخصوصاً في ظل تباطؤ الاقتصاد العالمي حالياً، فالصين هي الشريك التجاري الأول لأستراليا، والأخيرة هي واحدة من أكبر مصدري الغاز الطبيعي المسال، وأكبر مصدر لخام الحديد وفحم الكوك، وثاني أكبر مصدر للفحم، وخامس أكبر دولة منتجة له، ومصدر مهم للمعادن الأساسية، بما في ذلك الألومينيوم والنحاس والليثيوم، وكانت المورد الرئيسي للغاز المسال إلى الصين في الفترة الممتدة من كانون الثاني/يناير إلى تشرين الأول/أكتوبر 2022.
كما أن أستراليا غنية بالليثيوم الذي تحتاجه الصين، والليثيوم هو معدن أساسي لصناعة بطاريات السيارات الكهربائية، وتحتل الصين اليوم المركز الأول في تصنيع السيارات الكهربائية. ووفقاً لـ"Statistica"، تنتج أستراليا 55% من الليثيوم في العالم، واشترت الصين أكثر من 94% من الليثيوم منها عام 2022، فيما كان أكثر من 85% خلال عام 2021.
كذلك، تمتلك الشركات الصينية حصصاً كبرى في مناجم أستراليا. مثلاً، أنشأت شركة "Tianqi Lithium"، ومقرها تشنغدو، وشركة "IGO" الأسترالية مشروعاً مشتركاً بقيمة 1.4 مليار دولار في كانون الأول/ديسمبر 2020 في أكبر حقل الليثيوم في أستراليا، وقالت الشركة الصينية في أيار/مايو الماضي أنها أنتجت أول هيدروكسيد الليثيوم من فئة البطاريات في أستراليا.
من المحتمل أن تتحسن العلاقات الصينية الأسترالية على الصعيد الاقتصادي، وأن تزيد الاستثمارات الصينية في أستراليا، وترتفع واردات الصين من الفحم والغاز الأسترالي، وخصوصاً بعدما ألغت سياسة "صفر كوفيد"، ولكن لن تستورد الصين بالكمية التي كانت سابقاً، فأستراليا وجدت أسواقاً بديلة أخرى للفحم، بعدما فرضت الصين القيود على الفحم الأسترالي. وفيما يتعلق بالغاز المسال، فقد وقعت الصين وقطر اتفاقية توريد الصين بالغاز القطري لمدة 27 سنة، كما أن روسيا تعتزم زيادة إمدادات الغاز المسال إلى الصين.
هناك عدة تحديات ستواجه العلاقات الصينية الأسترالية، فكانبيرا تأخذ حذرها من بكين، لأنها ترى أنها تريد بسط نفوذها في المحيطين الهندي والهادئ. ومن أجل الحدّ من تنامي النفوذ الصيني في المنطقة، وقعت على اتفاقية أوكوس مع بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، التي تتضمَّن حصولها على غواصات تعمل بالدفع النووي، إضافةً إلى أنها عضو في تحالف "كواد"، وهو شراكة أمنية بين الولايات المتحدة الأميركية وأستراليا والهند واليابان لمواجهة تنامي صعود الصين، كما أنَّ كانبيرا وقّعت مؤخراً مع طوكيو إعلاناً مشتركاً محدثاً بشأن التعاون الأمني يهدف إلى مواجهة الصعود العسكري للصين، ووقعت اتفاقية أمنية مع دولة فانواتو الواقعة في منطقة أوقيانوسيا.
ولمواجهة الصين، في حال أرادت استعادة تايوان، تخطط الولايات المتحدة الأميركية لنشر قاذفات من طراز "بي 52" في قاعدة تندال الجوية شمالي أستراليا، وهذا ما سيزعج بكين. وفي إطار آخر، أثار الاتفاق الأمني الموقع بين الصين وجزر سليمان في نيسان/أبريل 2022 مخاوف كانبيرا من أن بكين يمكن أن تضع الأساس لانتشار منشآت بحرية على بعد أقل من 2000 كيلومتر من شواطئ كوينزلاند.
بشكل عام، تخشى أستراليا تصاعد النفوذ الصيني في المحيطين الهندي والهادئ. لذلك، لا تتوانى عن المشاركة في التحالفات التي لها علاقة بالحدّ من توسع نفوذ الصين في المنطقة، وستبقى كانبيرا ترتبط أمنياً بالولايات المتحدة الأميركية التي تسعى بكل السبل لمواجهة الصين وكبح جماح تقدمها.
ومن التحديات التي ستواجه العلاقات الصينية الأسترالية هو ميناء داروين، الذي حصلت مجموعة شاندونغ لاندبريدج الصينية على الاستثمار فيه لمدة 99 عاماً عام 2015، فقد أعلنت حكومة رئيس الوزراء السابق سكوت موريسون أنها تعيد النظر في الاتفاقية الموقعة، وطلبت من وزارة الدفاع تقديم المشورة بشأن ملكية الميناء، ولكن مراجعة وزارة الدفاع توصلت إلى "عدم وجود أسباب أمنية لإلغاء عقد إيجار الشركة الصينية لميناء داروين"، كما استعرضت الوزارة أيضاً عقد شركة صينية أخرى للاستحواذ على 50% من ميناء نيوكسل، ولم تجد أي مشاكل في الصفقة.
ومن المحتمل أن تعيد حكومة البانيز النظر في الاتفاقية مرة أخرى، فقد قال الأخير في مؤتمر صحافي عقده عام 2015" إنَّ التخلي عن أحد الأصول الإستراتيجية لشركة لها صلات بجيش التحرير الشعبي الصيني خطأ فادح في التقدير".
وقال أيضاً في مؤتمر صحافي عقده في شهر آب/أغسطس الماضي، بصفته رئيس حكومة أستراليا: "قلنا إننا سنراجع عقد إيجار ميناء داروين. يدرك الناس أنه أُجِّر لشركة مرتبطة بشكل مباشر بحكومة الصين". ويعدّ ميناء داروين الأهم على ساحل أستراليا الشمالي والأقرب إلى آسيا، وتستخدمه مشاة البحرية الأميركية.
وبناء عليه، فإن إلغاء عقد الإيجار سيغضب بكين. ومن ناحية أخرى، من المحتمل أن تطلب الصين من أستراليا الرجوع عن إلغاء اتفاقيات "الحزام والطريق" التي أبرمتها حكومة فيكتوريا مع الصين وألغتها حكومة موريسون.
ومن التحديات التي ستواجه العلاقات الصينية الأسترالية أيضاً، نظرة كانبيرا إلى حقوق الإنسان في الصين وقضية تايوان، وهي أمور تعتبرها الصين شأناً داخلياً. لذلك، من المستبعد التوصل إلى اتفاق على هذه الأمور.
لقد وجدت أستراليا أنه لا يمكن التخلّي عن الصين اقتصادياً، لكنها في المقابل ستحافظ على علاقاتها الأمنية مع الولايات المتحدة الأميركية وتوقع المزيد من الاتفاقيات الأمنية مع الدول في ظل المنافسة مع بكين في المحيطين الهندي والهادئ. لذلك، ستبقى العلاقات الصينية الأسترالية تشهد فتوراً وتوترات بين الحين والآخر.