الثورة الشعبية المسلحة في فلسطين
إثر أحداث حي الشيخ جراح، حاولت "إسرائيل" حرف الأحداث عن مسارها، من خلال الاقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى، فكانت معركة "سيف القدس" التي أظهرت قدرة المقاومة على إيقاع ضرر نوعي بالبنية التحتية والعسكرية الإسرائيلية.
-
الثورة الشعبية المسلحة في فلسطين
من الصور التي اعتدنا مشاهدتها في أفلام هوليوود التي صورت حرب فيتنام؛ مجموعة من الفلاحين الفيتناميين يعملون في حقل أرز، تمر بقربهم دورية عسكرية فيستل الفلاحون رشاشات كلاشينكوف ويفتحون النار على الجنود الأميركيين. كنّا نرى الثورة الفيتنامية، بوسائلها وبالهزيمة التي ألحقتها بجيش الولايات المتحدة، إعجازاً يتمثل في قدرة الفيتكونغ (الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام) على تنظيم جميع هؤلاء الفلاحين في صفوفها، وتدريبهم عسكرياً.
بعد أن نضجنا، وقرأنا، علمنا أن الثورة الفيتنامية أطلقها الشعب في جنوب فيتنام، وكانت مرحلتها الأولى تشكيل لجان دفاع ذاتي عن القرى في وجه المستعمرين الفرنسيين أولاً، ثم الأميركيين. وأن الفيتكونغ، تشكلوا لاحقاً ومثلوا مع قيادة فيتنام الشمالية التي ضمت شخصيات مثل هوتشي منه، والجنرال جياب الإلهام للجماهير الشعبية، وكان دورها الرئيس خلق وعي المواجهة والتضحية في مواجهة المحتلين، وتولت الجماهير الشعبية إنجاز عملية التحرير.
استعدت ذكريات الثورة الفيتنامية وأنا أتابع ما يحدث في فلسطين المحتلة. بدت الأمور وكأن الحلم الذي كان يراودنا عن انطلاق ثورة مسلحة حقيقية في فلسطين أصبح قابلاً للتحقيق بعيداً عن الأوهام والفكر الرغائبي.
لا يتعلق الأمر بزيادة عدد العمليات الفدائية الفلسطينية، ولا بعدد القتلى من الصهاينة، ولا بنوعية العمليات المنفّذة، ولكنه يتعلق بتنامي وعي المواجهة والتحدي على المستوى الشعبي، والتكامل مع الإلهام الذي تقدمه المجموعات العسكرية التي تتشكل في المدن الفلسطينية.
منذ قمّة فاس 1982، اختفى موضوع تحرير فلسطين من الأجندة السياسية الفلسطينية والعربية والدولية، وأصبحت القضية متعلقة بقدرة الأطراف المتصارعة، اعتماداً على ما يسمى الدعم الدولي، على صياغة تسوية "سلمية" تقسم ما تبقى من فلسطين بين الفلسطينيين و"إسرائيل". كانت الانتفاضة الأولى (انتفاضة الحجارة) العامل الذي أنهى آخر العقبات في وجه مشروع السلام: العقبة الفلسطينية. انطلق المشروع من "مدريد"، وسرعان ما حقق نجاحات مهمة في "وادي عربة" و"أوسلو"، وكانت مشاهد وصول ياسر عرفات إلى غزة ذروة هذا المشروع.
لا شك في أن الفلسطينيين، بمعظمهم، بمن فيهم الرافضون لمشروع "أوسلو" داعبهم الأمل وهم يرون الأمن الفلسطيني يتجول في شوارع المدن حاملاً سلاحه. كان الأمل بأن تحريراً ما، أو دولة ما يلوحان بالأفق، وما علينا سوى الثقة بالقيادة للوصول إلى الهدف المنشود.
وحدها سوريا وجدت أن ما يقدمه مشروع "مدريد" ليس سوى وهم، أو فخ يستدرج العرب نحو التطبيع، واستطاعت إسقاط اتفاق 17 أيار وجلب لبنان إلى موقفها.
لم يأتِ السلام الموعود، وحصدت "إسرائيل" وحدها كل ثمار إيقاف الانتفاضة وتوقيع الاتفاقيات مع العرب، فقد فكت عزلتها الدولية ولاحقاً العربية، وأطلقت يد مستوطنيها في أراضي فلسطين مصادرة وبناء مستوطنات جديدة. أدرك ياسر عرفات الفخ الذي نصبه له العدو وحلفاؤه في المنطقة، فعمل على إطلاق الانتفاضة الثانية والتي دفع ثمنها حياته، وتسهيل انتقال السلطة إلى الطرف الأكثر تورطاً وقناعة بنبذ الحل المسلح، فكانت قيادة محمود عباس التي أنهت دور بقايا القيادة العرفاتية، وشكلت قيادتها الجديدة التي قبلت بكل الإملاءات الإسرائيلية والأميركية مقابل الاحتفاظ بمصالحها الخاصة، واشتهرت جملة عباس "التنسيق الأمني مع إسرائيل مقدس".
أدرك الفلسطينيون أن كل ما حلموا به قد تحول إلى كابوس، واستمروا في النضال ضد العدو الصهيوني، فكانت انتفاضة السكاكين، وحوادث الدهس، والعمليات الفردية تجاه المستوطنين. واستمر العدو في البطش وارتكاب الجرائم ضد الأبرياء، وسياسة مصادرة الأراضي وهدم البيوت. واستمرت سلطة رام الله بالتنسيق الأمني مع العدو، وسلّمت عديداً من المقاومين الذين اغتيلوا من قبل عصابات "الجيش" الصهيوني. بدا المشهد وكأن ما يحدث في فلسطين سوف يتكرر بشكل لا نهائي، من دون وجود فرصة لتغيير مهم في المدى المنظور.
لم يكن أشد المتفائلين يتوقع تسلسل الأحداث الذي سيرافق محاولة العدو هدم مجموعة من البيوت في حي الشيخ جراح المقدسي. لا يوجد شيء مميز في تلك البيوت، فسلطات الاحتلال أزالت عشرات آلاف البيوت الفلسطينية، بل إنها أزالت ما يقرب من 500 قرية عن الخارطة. العامل الأهم في ذلك الحدث كان رد فعل الجماهير الفلسطينية في الأرض المحتلة عام 1948.
اتساع حجم المساندة للفلسطينيين، وتصاعد التصدي للعدو في منطقة الشيخ جراح، أو على الطريق من قراهم ومدنهم نحو القدس، دفع الجماهير الفلسطينية في الضفة، ولاحقاً في العالم إلى التحرك بشكل واسع دعماً لقضية الشيخ جراح.
حاولت "إسرائيل" حرف الأحداث عن مسارها من خلال الاقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى، فكانت معركة "سيف القدس" التي أظهرت للإسرائيليين أن المقاومة أصبحت قادرة على إيقاع ضرر نوعي ومهم بالبنية التحتية والعسكرية الإسرائيلية. جاء وقف إطلاق النار، ومحاولة تصوير الأمر على أنه مجرد خلاف على ملكية المنازل في الشيخ جراح يمكن حله قانونياً من قبل الناشطين الفلسطينيين الذين يتمتعون بدعم المنظمات الدولية، ليصنع وهماً مفاده أن القضية تم احتواؤها.
لم تسر الأمور حسب أوهام الصهاينة وحلفائهم، فانطلقت سلسلة من العمليات داخل الأراضي المحتلة 1948. جاء معظم المنفذين من شمال فلسطين ومن جنين بالذات. وكانت عملية "نفق الحرية" وهروب الأسرى باتجاه جنين، انذاراً آخر بخطورة الأوضاع في جنين ومخيمها، ما دفع العدو إلى اقتحام المخيم والمدينة أكثر من مرة، واغتيال الناشطين واختطافهم، وكان اختطاف الشيخ بسام السعدي السبب في انطلاق معركة "وحدة الساحات".
أدرك الفلسطينيون في جنين أنهم مضطرون إلى حماية أنفسهم بعد أن تخلى عنهم الجميع، وفي مقدمتهم سلطة عباس. شكل المقاومون والمطاردون في جنين ما يشبه لجان الدفاع المحلي، فكانت كتيبة جنين، التي استطاعت التصدي للعدو أكثر من مرة خلال محاولاته لاقتحام المخيم ومنعته من تنفيذ خططه، وخاصة اعتقال فتحي خازم، والد الشهيدين رعد وعبد الرحمن.
انتقلت العدوى سريعاً إلى نابلس، فكانت كتيبة نابلس، التي تحولت إلى "عرين الأسود" بعد استشهاد قائدها إبراهيم النابلسي، واعتقال نائبه مصعب اشتية من قبل سلطة عباس.
اشتبكت "عرين الأسود" مع العدو أكثر من مرة، وقدمت العديد من الشهداء من قياداتها في المواجهة مع العدو، لكنها حافظت على كيانها. جاءت عملية الشهيد البطل عدي التميمي في مخيم شعفاط، وبعدها عملية الشهيد بركات عودة في أريحا، لتعيدا إلى الذاكرة صورة أولئك الفلاحين الفيتناميين الذين يمتشقون سلاحهم عند مرور الدورية الأميركية.
هذا ما فعله الفلسطينيون متأثرين بما مثلته المجموعات المسلحة من وعي وإرادة للمواجهة. اليوم، لا يجرؤ جندي أو مستوطن صهيوني على السير منفرداً أو بدون سلاح في أي شارع من شوارع فلسطين.
هل نستطيع اليوم طرح السؤال، هل الثورة الشعبية الفلسطينية المسلحة قادمة؟
ببعض الأمل والكثير من التغيرات على الأرض نستطيع الإجابة بثقة: نعم.