المستسلمون الجدد.. والكرامة الوطنية

هل يجهل "نواب الأمة" التاريخ ووقائعه الدامغة، أم يتجاهلون الدلالات العميقة على أحداث موثقة؟ في كِلتا الحالتين المصيبة عظيمة.

  • المستسلمون الجدد.. والكرامة الوطنية 
    المستسلمون الجدد.. والكرامة الوطنية 

من المؤكَّد أن العريضة، التي وقعها عدد من النواب اللبنانيين، وعبّروا فيها عن رفضهم المناورة العسكرية التي نفّذتها المقاومة في جنوبي لبنان نهاية الشهر الماضي، لا تساوي الحبر الذي كتبت به، ولن تغيّر موازين القوى التي عجز جيش العدو عن تعديلها لمصلحته، سواء من خلال الحروب العسكرية أو الحروب المركَّبة.

إلّا أن العريضة لا تخلو من الدلالات الرمزية، وأبرزها أن الموقعين هم جزء من تيار تاريخي في لبنان امتهن ثقافة الاستسلام أمام العدو الإسرائيلي ومن يقف وراءه، ويصح تسميته تيار المستسلمين. ويمكن القول إنهم الفرع السياسي ضمن منظومة فكرية ثقافية متكاملة، تحدّث عنها الكاتب الفلسطيني بلال الحسن في كتابه "ثقافة الاستسلام"، بحيث ورد أن أعضاء المنظومة هذه يسعون لـ"قبول الهيمنة الأميركية وقبول إسرائيل باعتبارها أداة أساسية في عملية الهيمنة". وهم أيضاً، في رأي الحسن، بدلاء من "البعثات الاستطلاعية والاستشراقية التي اعتاد المستعمرون أن يُرسلوها من أجل دراسة البلدان التي ينوون غزوها واستعمارها".

بالفعل، يمكن القول، من خلال تتبع الأداء السياسي لهؤلاء النواب داخل المجلس النيابي، كما قبل دخولهم الندوة البرلمانية، إنهم اعتمدوا خطاباً مطابقاً، إلى حد بعيد، للخطاب الإسرائيلي والخطاب الأميركي تجاه المقاومة وسلاحها ودورها، الأمر الذي وفّر على العدو القليل من الجهد.

اللافت في هذا الخطاب، والذي تُعَدّ العريضة نموذجاً عنه، هو تجاهل الوقائع المتعلقة بحقيقة الصراع العربي الإسرائيلي بصورة عامة، وحقيقة الأطماع والاعتداءات الإسرائيلية في لبنان بصورة خاصة، واعتبار أن محاولات امتلاك وسائل القوة في وجه العدو هي بمثابة السعي للحرب الأهلية وللتدمير، وهذا ما يُخفي ضمنياً سعياً لقبول "إسرائيل"، بحسب شروطها. ويمكن القول، بكل راحة ضمير، إن هؤلاء يحملون في خطابهم وسلوكهم دعوة إلى الاستسلام.

هل يجهل "نواب الأمة" التاريخ ووقائعه الدامغة، أم يتجاهلون الدلالات العميقة على أحداث موثقة؟ في كِلتا الحالتين المصيبة عظيمة.

فالحدّ الأدنى المطلوب من نواب تم تفويضهم من جانب الشعب صوغ التشريعات والإشراف على السياسات في بلد مثل لبنان، هو إدراكهم وأخذهم على محمل الجد لأطماع تاريخية إسرائيلية في الأراضي والمياه والثروات اللبنانية، وتمّت ترجمة هذه الأطماع في أكثر من محطة إلى حروب ومعارك واعتداءات على مدى قرن من الزمن.

المفارقة أن هذه الأطماع ليست سرية، بل معلنة ومباشرة وغير مخفية، وتكررت في الأدبيات الإسرائيلية، ووردت في كثير من الكتب والوثائق. ففي كتاب "أرض إسرائيل في الماضي والحاضر"، لدايفيد بن غوريون وإسحاق بن تسفي، والصادر عام 1919، كلام صريح على "أن الليطاني هو الحدود الشمالية لأرض إسرائيل".

كما جاء في كتاب آخر لبن غوريون، بعنوان "نحن وجيراننا"، أن "عكا وصور هما المدينتان الساحليتان الطبيعيتان للبلاد. هذا هو الجليل الأعلى والأسفل". ويتابع مؤسس الكيان أن "حدود شمالي أرض إسرائيل يجب أن تكون نهر القاسمية".

وتؤكد وثائق متعدّدة أن الحركة الصهيونية، منذ تأسيسها، أبدت اهتماماً بجنوبي لبنان، بصفته هدفاً للاستيطان على أساس تصور مفاده أن منطقة جنوبي لبنان حتى نهر الليطاني، وحتى صيدا أيضاً، "تشكل جزءاً من أرض إسرائيل".

إن علانية هذه المعطيات وانتشارها يجعلاننا نستبعد فرضية الجهل لدى نواب "العريضة". الأرجح أن خيارهم الاستراتيجي هو التجاهل. فالتيار التاريخي، الذي ينتمون إليه، تبنّى استراتيجية، جوهرها الدعوة إلى الاستسلام. وعبّرت عن نفسها، من جهة، في مقولة مفادها إن "قوة لبنان في ضعفه"، ومن جهة ثانية في سلوك كشف تفاصيله الفاضحة كتاب "المتاهة اللبنانية: سياسة الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل تجاه لبنان (1918 – 1958)"، للكاتب الإسرائيلي رؤوفين أرليخ.

يروي الكتاب فصولاً من العلاقات بين قدامى هذا التيار والعدو الإسرائيلي، والتي وصلت إلى حد عرضت فيها شخصيات سياسية لبنانية بيع أراضٍ لبنانية للوكالة اليهودية، أو ضمّ جنوبي لبنان إلى الكيان الإسرائيلي، بالإضافة إلى اقتراحات تتضمن تغييرات ديمغرافية لمصلحة الكيان "الناشئ". ويذكر أرليخ عدداً كبيراً من الوقائع، بينها أنه في عام 1941، عرض أحد أبرز السياسيين، الذين تَبَوَّأُوا فيما بعدُ موقعاً أساسياً في لبنان أمام إلياهو ساسون من الوكالة اليهودية، اقتراحاً مفاده أنه "يجب إخلاء جبل عامل من سكانه الشيعة بعد الحرب العالمية الثانية، وتوطين الموارنة الموجودين في أميركا مكانهم، وأن هذا الأمر سيتيح، بحسب رأي المسؤول اللبناني، تعاونا بين اليهود والموارنة من دون معوقات". 

ويروي كتاب "المتاهة" أيضاً أن التقرير، الذي أعده ساسون بشأن زيارته بيروت في عام 1941، ذكر فيه أن إحدى الشخصيات اللبنانية، التي التقاها، اقترحت عليه "شراء كل أراضي جبل عامل مع تعهد منها (الشخصية اللبنانية) يقضي بإجلاء السكان المقيمين بالجنوب، ونقلهم إلى العراق، خلال عشرة أعوام". كما يذكر إبراهام لوتسكي، المسؤول في القسم السياسي التابع للوكالة، أن أحد اللبنانيين، الذين التقاهم عام 1944، اقترح عليه شراء أراض عند الساحل بين صيدا والليطاني، وادّعى أنه "يمتلك إثباتات مدققة بأن نهر الليطاني ليس الحدود الشمالية لإسرائيل، وإنما نهر الأوّلي".

أمّا في عام 1946، فعرض مسؤول لبناني آخر على أحد المسؤولين في الوكالة اليهودية "نقل حدود البيت القومي لليهود إلى صور وصيدا". 

تُظهر هذه الوقائع، وهي غيض من فيض مما ورد في الكتاب المذكور، أن الزمن لم يتخطَّها. فعلى الرغم من نيل لبنان استقلاله، وفق جغرافيا محددة، فإن الاعتداءات الإسرائيلية اللاحقة، سواء في عام 1978 أو عام 1982، تؤكد أن الأطماع الإسرائيلية لم تتغير، والخطط العسكرية الإسرائيلية كانت متطابقة مع الأفكار والطموحات، التي وردت في كتب بن غوريون وغيره.

كما أن المزاج اللبناني المتناغم مع العدو ظل حاضراً بقوة، والدليل أن مسؤولين لبنانيين تغاضوا عن الاعتداءات الإسرائيلية، التي لم تتوقف ضد لبنان، والتي وصلت إلى حدود لا يمكن لأي بلد لديه الحد الأدنى من السيادة قبوله.

يذكر كمال ديب، في كتابه "أمراء الحرب وتجار الهيكل"، أنه "حتى عام 1974، شنّت إسرائيل 6200 اعتداء على لبنان، منها 4000 غارة جوية وعملية قصف مدفعي، معظمها استهدف الجنوب وسكانه، كما أقدمت إسرائيل على تنفيذ 325 عملية كبيرة، منها عمليات غزو محدودة داخل الاراضي اللبنانية".

ولعل من أشهر الاعتداءات وأكثرها مسّاً بالسيادة والكرامة الوطنيتين حادثة الاعتداء على مطار بيروت الدولي عام 1968، عندما نزلت فرقة كومندوس إسرائيلية واحدة، مدة أربعين دقيقة، ونسفت 13 طائرة من الطائرات المدنية، ثم غادرت من دون أي مواجهة.

أمّا في عام 1973 فتمكّنت قوة خاصة إسرائيلية من اغتيال ثلاثة قادة من المقاومة الفلسطينية في منطقة فردان في بيروت في وضح النهار، ومن دون أي مواجهة أيضاً. وفي تفاصيل كِلتا الحادثتين كثير من الفضائح، التي تخرج منها رائحة التواطؤ والعمالة والاستسلام، وصولاً إلى أن التيار التاريخي لنواب العريضة يذهب إلى حد تبرير الاعتداءات الإسرائيلية ربطاً بوجود المقاومة الفلسطينية في لبنان. وهو ما تنفيه الوقائع التاريخية السابقة للوجود الفلسطيني في الأرض اللبنانية.

تتحدّث المصادر التاريخية عن أن الجنوبيين تم تهجيرهم للمرة الأولى من قرى الحدود في عام 1948. عندها، لم يكن في لبنان مقاومة ولا سلاح مقاوم. خرقت العصابات الإسرائيلية الحدود الجنوبية، واحتلت نحو 15 قرية، وقامت بتنفيذ مجزرة في بلدة حولا، في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر، وأودت بحياة 93 مواطناً من الأطفال والنساء والرجال العزّل. الاعتداءات استمرت على الرغم من اتفاق الهدنة عام 1949، واستهدفت القرى ومشاريع المياه، وعاثت فساداً وتخريباً، الأمر الذي دفع رجل الدين البارز، السيد عبد الحسين شرف الدين، إلى إرسال رسالة إلى رئيس الجمهورية آنذاك بشارة الخوري، احتج فيها على ترك الجنوب والجنوبيين لمصيرهم أمام العدوان الإسرائيلي المتمادي، وورد في الرسالة:

"جبل عامل المرابط يدفع جزية الدم لشذّاذ الآفاق من كل مَن لفظته الأرجاء ونبذته السماء (في إشارة إلى العصابات الصهيوينة)، فإن لم يكن من قدرة على الحماية أفليس من طاقة على الرعاية".

هذا التخلي من جانب الدولة استمر عقوداً طويلة. وحدها المقاومة وسلاحها، الذي وصفه نواب الاستسلام في عريضتهم بالخردة، غيّرا الوقائع. فموازين القوى، التي بقيت عقوداً طويلة لمصلحة هذا التيار، على نحو سمح له بتسويق سرديته إعلامياً وبتبنّي لغته على المستوى الرسمي اللبناني، تغيّرت وتبدّلت، لكنّ "المستسلمين الجدد" مصرون على الانفصال عن الواقع ووقائعه، ومدمنون على العيش في الزمن غير الجميل. الاسباب متعدّدة ومتنوعة، منها الثقافي والنفسي والشخصي.

وفي محاولة للفهم، من المفيد التذكير بأن كمال جنبلاط وصف الدولة اللبنانية بعد اعتداء فردان عام 1973 بأنها دولة "بلا كرامة"، وهذا ما لن تسمح المقاومة بالعودة إليه.