خطاب السنوار... معادلات الردع والرعب وقواعد الاشتباك

عكس خطاب قائد حركة "حماس" في غزة، يحيى السنوار، حالة التعبئة الشاملة فلسطينياً وعربياً بأهمية الدفاع عن المسجد الأقصى والقدس، فكان كخطاب الثائر المنتفض المستشعر بالخطر القادم.

  • خطاب غير معتاد أمام نخبة من القيادات العسكرية لفصائل المقاومة الفلسطينية
    خطاب غير معتاد أمام نخبة من القيادات العسكرية لفصائل المقاومة الفلسطينية

ستون دقيقة أطلّ فيها زعيم حركة حماس في قطاع غزة يحيى السنوار، بعد غياب لمدة عام عن أي خطاب إعلامي مباشر. يأتي هذا الخطاب في الذكرى الأولى لمعركة سيف القدس، وإحياءً لذكرى يوم القدس العالمي. خطاب غير معتاد أمام نخبة من القيادات العسكرية لفصائل المقاومة الفلسطينية وأخرى سياسية ومجتمعية، وربما هو الخطاب الأقوى والأخطر من حيث الجوهر والتوقيت.

حمل خطاب القائد يحيى السنوار دلالات كبيرة وتحولات جوهرية، رسم فيها معالم استراتيجية تعزيز التحالف مع محور المقاومة وإيران وحرسها الثوري، ودورهم المهم في دعم فلسطين والمقاومة، كما رسم خطابه ملامح طريق معركة التحرير القادمة، وتأكيد أهميّة التهيّؤ والاستعداد لمعركة كبرى من أجل القدس والمسجد الأقصى، عنوانها: "سيف القدس لن يُغمد وسيبقى مشرعاً حتى التحرير والعودة وكنس الاحتلال".  

ما يؤشر إليه خطاب السنوار من حيث جوهره وأهميته أنه عكس حالة تنسيق كبيرة وعالية مع محور المقاومة في أي معركة فاصلة عنوانها القدس والمساس بالأقصى، وأن المرحلة المقبلة تتطلب تفعيلاً أكبر لجبهاتها المقاومة الإقليمية عبر محور القدس، إذ سبق كلمة القائد السنوار بيومين إعلان حرس الثورة الإيرانية عن مهمة بطائرات من دون طيار فوق الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومثل هذا التصريح من حيث التوقيت لم يأتِ عبثاً، ومثل هذا السيناريو سيتعزز أكثر بعد النجاح في تفعيل الجبهات الفلسطينية الأربع، والمتمثلة في ساحة القدس والضفة الغربية وفلسطينيي الداخل المحتل وجبهة قطاع غزة. 

خطاب فيه لغة التحدي بارزة، لكنها منسجمة تماماً مع القوة التي أنجزتها الـمقاومة على الأرض في قطاع غزة ومع حالة التنسيق مع محور المقاومة في المنطقة، خطاب عكس فيه القائد السنوار التقدم إلى الأمام بمعادلات الردع والرعب وقواعد الاشتباك مع "إسرائيل"، معادلات عنوانها أن زمن الاحتلال قد ولّى، وأن المقاومة ومحورها على أتمّ الجاهزية للدفاع عن القدس والمسجد الأقصى في المعركة الفاصلة.

عكس خطاب السنوار حالة التعبئة الشاملة فلسطينياً وعربياً بأهمية الدفاع عن المسجد الأقصى والقدس، فكان كخطاب الثائر المنتفض المستشعر بالخطر القادم والمحدق بالمسجد الأقصى، ونيّات "إسرائيل" الخبيثة في ترسيخ التقسيم الزماني والمكاني، كما فعل الاحتلال في الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل المحتلة. 

ثمة رسالة بالغة الخطورة تضمّنها الخطاب، في ظل استمرار الخطر القائم على المسجد الأقصى، أكدت أن كل مبررات المواجهة مع "إسرائيل" ما زالت حاضرة وقائمة بقوة، مع استمرار التلويح باقتحامات المسجد الأقصى والتخطيط لاستئناف الاقتحامات بعد عيد الفطر، وهو ما يعني أن الخطر على الأقصى قائم، وبانتظار الحسم أمام حالة التسلل وفرض سياسة الأمر الواقع إسرائيلياً داخل باحات المسجد الأقصى. 

هذا الخطر المحدق لم يكن بالخطر الجديد، بل هو متدحرج، والمشهد في المسجد الأقصى هذه الفترة يشبه إلى حدّ كبير حالة التوتر التي بدأت في المسجد الأقصى نهاية عام 2014، وانتهت باتفاق رئيس وزراء الاحتلال الأسبق بنيامين نتنياهو مع جون كيري وزير خارجية أميركا الأسبق عام 2015، لتنظيم دخول اليهود إلى الحرم القدسي، ولكن من دون صلاة. ويأتي سلوك حكومة نفتالي بينيت ليكمل مسلسل التهويد بسماحها بالاقتحامات وأداء الشعائر داخل ساحات الأقصى، وهو ما يحوّل الأمر إلى حق لليهود، ويعزّز واقعاً جديداً في المسجد الأقصى عنوانه ترسيخ التقسيم الزماني والمكاني بشكل رسمي، وبغطاء من حكومة الاحتلال الإسرائيلي. 

وطنياً، رسّخ خطاب القائد السنوار معاني الوحدة الوطنية الفلسطينية الحقيقية القائمة على التمسك بالحقوق والثوابت الفلسطينية، وبالمقاومة كنهج أساسي للخلاص من الاحتلال، وهو ما يؤسّس لمرحلة جديدة من العمل المقاوم تفرض فيها المقاومة شروطها، كما نجحت من قبل في فرض معادلاتها بمعركة سيف القدس، ولا سيما معادلة "غزة القدس"، وبعدها "غزة جنين"، ومنع ذبح القرابين، وغيرها من معادلات الرعب والردع الأخيرة. 

متابعة خطاب السنوار لم تكن فلسطينية خالصة، فقد توقفت أوساط إسرائيلية مختلفة للحديث عن الخطاب، عاكسة حالة انزعاج وقلق معاً، وسرعان ما انتشرت ردود الفعل كالنار في الهشيم، وأحدث الخطاب حالة من الجدل والخلاف بين الأوساط الإسرائيلية الرسمية، إذ وصف نفتالي بينيت، رئيس وزراء الاحتلال، الخطاب قائلاً: "يجب عدم السماح للسنوار بالانتصار وإطاحة حكومتنا. حماس لا تحب هذه الحكومة، وتريد إطاحتها، وأصبحت تقول كل شيء علناً"، كما عقّب المدير العام لهيئة الإذاعة الإسرائيلية السابق، يوني بن مناحيم، قائلاً: "يحيى السنوار يكشف الضعف الأمني والسياسي لحكومة "بينيت-لابيد"، ويسمح لنفسه بتهديد "إسرائيل" بشكل صارخ، وبدافع من الشعور بالقوة الكبيرة".  

موقع واللاه العبري قال أيضاً: "حماس تهدّد بأنّ المعركة لن تنتهي بانتهاء شهر رمضان، بل ستبدأ مع انتهائه". أما القناة الـ 12 الإسرائيلية، فقد نشرت تعقيباً لــ"إيهود باراك"، رئيس الوزراء الأسبق لدولة الاحتلال، قال فيه: "يجب عدم الاستهانة بالسنوار أو تجاهل خطابه المتعلق بالحرب العقائدية المرتبطة بالمسجد الأقصى. تتبّع "إسرائيل" سياسة توخّي الحذر في الأقصى، بحيث لا تصل إلى وضعٍ يتحول فيه الصراع مع الفلسطينيين من صراع على الأرض إلى صدام ديني. "إسرائيل" غير معنية بصراع ديني مع المسلمين، البالغ عددهم ملياراً ونصف".

وأضاف: "يجب أن نصلح كثيراً من الأمور الداخلية في "إسرائيل"، والانقسام الإسرائيلي الداخلي هو بالفعل تهديد وجودي، ويجب أن نستعدّ له جيداً؛ أولاً يجب وقف حالتي الانقسام والاستقطاب الداخليين اللذين يدمّراننا، وهما خطر فعلي على "إسرائيل"، وأكثر من الصراع مع الفلسطينيين، وأشد خطورة من إيران".

لقد بات يحيى السنوار يمثّل حالة إجماع وطنية وإسلامية بمواقفه وخطاباته الجريئة، وشتّان بين من يتحصّن بشعبه ويتسلّح ببندقيته ومقاومته ويرفع مطالبه وحقوقه ويسعى لتحقيقها، وبين من يهادن "إسرائيل" ويتعاون أو يطبّع معها.

يعدّ القائد السنوار اليوم إحدى ضمانات الحفاظ على المشروع الوطني الفلسطيني، ويسجل له نجاحه في إيصال الرسائل الداخلية والخارجية لكل الأطراف، كما أنه أصبح يمثّل قامة سياسية وعسكرية في الضمير الوطني الفلسطيني والحضور والتأثير، عربياً وإسلامياً ودولياً.

القدس هي المحور وستبقى؛ فمحور القدس الذي تشكّل هو تحالف نوعي يؤسّس لعمل عربي إسلامي مشترك، بعيداً عن حالة التشرذم الحالي، على المستويين العربي والإسلامي الرسميين.  

خطاب التحدّي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فتح الباب على مصراعيه في قضية الصراع على الأقصى مع "إسرائيل"، في المقابل، المقاومة بمحورها الممتد من غزة إلى طهران لا ولن تقبل المهادنة، والقدس والأقصى فوق كل اعتبار.

الذكرى السنوية الأولى لمعركة "سيف القدس"؛ المعركة التي أحدثت تحولاً في مسار مقاومة المحتل الإسرائيلي، ونقلت المعركة معه إلى مستوى جديد، وأرست معادلات جديدة لم تكن مطروحة في السابق، وعززت حلف المقاومة كمدافع عن القدس وكل فلسطين.