ما الذي تغيّر في القتال البري بعد الهدنة في غزة؟
لا يكون لوصول القوات الإسرائيلية جغرافياً قيمة عسكرية للجيش الإسرائيلي، بل يصبح نقطة قوة لمقاتلي المقاومة، لكونه لن يحقق أهدافه من دون السيطرة على المساحة الجغرافية.
ارتفعت أعداد قتلى الجنود الإسرائيليين بعد الهدنة الإنسانية التي تم الاتفاق عليها بعد 46 يوماً من القتال، والتي استمرت 7 أيام، واستؤنف القتال بعدها في 3 محاور رئيسة هي حي الشجاعية وبلدة جباليا ومخيمها في القسم الشمالي من قطاع غزة، إضافة إلى محور مدينة خان يونس في جنوب القطاع.
وتكررت تصريحات قادة الجيش الإسرائيلي حول السيطرة على جباليا، وفي مقدمتهم يؤاف غالنت وزير الحرب الإسرائيلي، الذي وصل به الأمر منذ أكثر من أسبوع إلى التصريح بأن "الجيش" الإسرائيلي سيعلن خلال أقل من 48 ساعة السيطرة على حي الشجاعية ومخيم جباليا، الأمر الذي لم يتحقق حتى كتابة تلك السطور، بل إن حجم الخسائر البشرية داخل صفوف "الجيش" الإسرائيلي التي وصلت إلى ما يقارب 127 قتيلاً ما بين ضابط وجندي منذ بدء العملية البرية في 26 تشرين الأول/أكتوبر، منهم ما يقارب 53 قتيلاً منذ استئناف القتال بعد الهدنة في الاول من كانون الأول/ديسمبر، الأمر الذي يسلط الضوء بقوة على طبيعة القتال الذي تخوضه وحدات الجيش الإسرائيلي في أحياء غزة شمالها وجنوبها، والذي يوصف بحسب تصريحات القادة العسكريين الإسرائيليين بأنه قتال وجهاً لوجه، ومن مسافة الصفر، وإذا علمنا أن الخطة العسكرية البرية الإسرائيلية تعتمد على نقطتين أساسيتين:
الأولى، تجنيد عدد كبير جداً من القوات العسكرية من الوحدات البرية القتالية كافة، بحيث تشكل قوة مندفعة ضخمة يصعب على المقاومة صدّ تقدمها، إضافة إلى القدرة على التغيير والتبديل الدائم للوحدات العسكرية لكي تبقى تلك القوات منتعشة وغير منهكة.
لذلك، حشدت "إسرائيل" 5 فرق عسكرية من الجيش الاحتياطي والنظامي، بمن فيهم ألوية النخبة القتالية في الجيش، أمثال لواء غولاني وغفعاتي والمظليين، إذ بلغ عدد الجنود الإسرائيليين في غزة ما يقارب 40 ألف جندي بحسب التقارير الإسرائيلية، لكن هذا الوضع أنتج حالة من الازدحام للقوات الإسرائيلية العاملة في غزة، وخصوصاً أنها تعمل في مساحة جغرافية ضيقة وقتالها يتمحور داخل الأحياء السكنية الأكثر اكتظاظاً للسكان في العالم.
ثانياً، التنسيق الكبير بين سلاح الجو الإسرائيلي مع القوات البرية العاملة على الأرض، بحيث يمنحها سلاح الجو الغطاء الجوي الدائم، إذ شبّه البعض في "إسرائيل" سلاح الجو كالقبة الحديدية فوق القوات البرية في غزة، والحديث يدور حول كل أنواع الطائرات القتالية، بما فيها المسيرات غير المأهولة، إلى درجة أن المقاتل على الأرض يستطيع إعطاء الأوامر لقائد الطائرة بشكل مباشر، فالخطة العسكرية البرية تعتمد على أن أي تقدم بري يجب أن يسبقه قصف جوي شامل وعنيف أشبه بالأرض المحروقة، ولا ينتهي دور سلاح الجو الإسرائيلي عند هذا القدر، بل يبقى ملازماً للقوات المتقدمة طوال فترة العمليات العسكرية.
منحت الخطة العسكرية الإسرائيلية البرية قوات "الجيش" القدرة على التقدّم والوصول إلى قلب مدينة غزة في الفترة التي سبقت التهدئة، فرغم أنَّ المقاومة الفلسطينية على محور مخيم الشاطئ وحي الشيخ رضوان أعاقت اندفاع قوة القوات الإسرائيلية القادمة من المحور الشمالي الغربي مرتين، فإنَّ خطوط دفاعاتها لم تستطع الصمود أمام الاندفاعة الثالثة "للجيش" الإسرائيلي، التي ترافقت مع القصف الجوي الجنوني لمخيم الشاطئ وحي الشيخ رضوان بطريقة وحشية غير مسبوقة، الأمر كان أكثر سهولة للقوات الإسرائيلية القادمة من المحور الجنوبي الغربي تل الهوى وشارع الرشيد المحاذي لساحل البحر الذي تعمد "الجيش" الإسرائيلي اختيار الخواصر الرخوة وعدم الدخول إلى حي الزيتون والصبرة والالتفاف بعيداً من المناطق التي تعتبرها "إسرائيل" مناطق أكثر صلابة.
لكن من الواضح أن الهدف العسكري للعملية البرية في تلك المرحلة كان الوصول إلى مركز السلطة في غزة ورموزها، وغالبيتها العظمى موجودة في منطقة غرب غزة، إضافة إلى الوصول إلى مجمع الشفاء الطبي، الذي حوَّله الإعلام الإسرائيلي إلى مقر قيادة المقاومة والحكومة في غزة ومقر وجود الأسرى الإسرائيليين.
استغرقت القوات الإسرائيلية للوصول إلى قلب مدينة ما يقارب 28 يوماً من بدء العملية البرية في غزة، ولكن بعد انتهاء المرحلة الأولى من القتال البري، فوجئ الجمهور الإسرائيلي بأن "الجيش" الإسرائيلي لم يستطع تحرير أسير إسرائيلي واحد من مناطق شمال قطاع غزة، بل إن المقاومة أفرجت عن دفعة من الأسرى من قلب مدينة غزة، برسالة تحدٍ واضحة بأن المقاومة حاضرة ولم تنكسر في مدينة غزة وشمالها، وأن هناك فارقاً كبيراً بين وصول القوات الإسرائيلية إلى قلب غزة والسيطرة على غزة، وبدأ النقاش العسكري حتى داخل الإعلام الإسرائيلي بوجوب التفرقة بين المصطلحين.
وهنا، خرج الناطق باسم الجيش الإسرائيلي دنيال هجاري يبرّر خروج دفعة من الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة من غزة بـ"أن الجيش الإسرائيلي لم يصل بعد إلى المناطق التي خرج منها الأسرى".
هنا، بدأت الخطة الإسرائيلية العسكرية تستهدف حي الشجاعية في شرق مدينة غزة وجباليا في الشمال، الذي تلافت أن تبدأ بهم في بداية عمليتها العسكرية البرية لإدراكها الاستخباراتي أنه ستواجه مقاومة شرسة جداً، في الوقت الذي كانت تسعى لتحقيق أهداف عسكرية سريعة لتسويقها إعلامياً للجمهور الإسرائيلي الذي كان منقسماً حول جدوى المعركة البرية، والأهم أنه كان يحتاج إلى أي انتصار، ولو إعلامي، لاستعادة توازنه النفسي وثقته بالجيش الإسرائيلي بعد صدمة عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر.
حاول الجيش الإسرائيلي مفاجأة مقاتلي المقاومة في حي الشجاعية من خلال تقدم الدبابات الإسرائيلية من محور شارع صلاح الدين ومن غرب الشجاعية، وليس من شرقها، كما حدث في حرب عام 2014. ورغم ذلك، ما زالت القوات الإسرائيلية غارقة في وحل القتال داخل الشجاعية وجباليا وخان يونس حتى الآن. وهنا، من المهم جداً الوقوف على بعض التغيرات العسكرية التي حدثت في الخطط القتالية بعد الهدنة، أهمها:
أولاً، الخطة العسكرية الإسرائيلية لم تطوّر ذاتها لتوائم الأهداف الجديدة، وخصوصاً في حي الشجاعية وجباليا، لكن الجيش الإسرائيلي اعتقد أن المقاومة انكسرت بعد الوصول إلى قلب غزة وغربها، وأن غرفة القيادة والسيطرة للمقاومة تدمرت، وأن روحها القتالية ضعفت بعد المرحلة الأولى من القتال قبل الهدنة، وخصوصاً مع تسويق الجيش والشباك الإسرائيلي بأنه اغتال الكثير من القيادة العسكرية المتوسطة في المقاومة برتبة مسؤول كتيبة وقائد وحدة، الأمر الذي يقطع التواصل بين القيادة العليا والجنود في الميدان للمقاومة.
ثانياً، فتح الجيش الإسرائيلي جبهة جديدة للقتال البري في مدينة خان يونس، الأمر الذي رافقه العديد من الهالة الإعلامية الإسرائيلية التي سيحققها الجيش الإسرائيلي في خان يونس؛ مسقط رأس يحيى السنوار رئيس حركة حماس في غزة ومحمد الضيف القائد العام لكتائب الشهيد عز الدين القسام.
لذلك، جندت فرقة عسكرية جديدة معتادة العمل في الضفة الغربية لبدء القتال في خان يونس، معتمدة على أن القتال في شمال غزة سرعان ما سينتهي خلال أيام قليلة، ويتم نقل كثير من قواتها من جبهة شمال غزة إلى جنوبها، لكن بعد ما يقارب 20 يوماً من القتال في خان يونس لم تحقق "إسرائيل" شيئاً مما سوقت له إلا الوصول إلى بيت السنوار في شمال خان يونس، وكأنه نصر عسكري يستحق أن يتفاخر به رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو شخصياً.
وبذلك، تورّط الجيش الإسرائيلي في جبهتي قتال في الشمال والجنوب في آن واحد. ومن الجدير بالملاحظات أن الحرب مرَّ عليها أكثر من 70 يوماً، ومع اتساع رقعتها الجغرافية، بدأت روح القتال والقدرة على استمرارية مواصلة الأداء القتالي للجنود الإسرائيليين، وخصوصاً جنود الاحتياط، ليست كما كانت في البدايات، الأمر الذي كان يخشى منه رئيس الأركان هرتسي هليفي قبل موافقته على الهدنة المؤقتة.
ومع القتال العنيف والشرس للمقاومة، بدأ يظهر على السطح الكثير من الأخطاء العسكرية الذاتية لدى القوات الإسرائيلية، وخصوصاً مع انتشار حالة الخوف والتوتر من كل ما يتحرك حولهم، ومع الازدحام الكبير لتلك القوات الذي أثر في التنسيق بين الوحدات القتالية البرية من جهة وبين القوات البرية وسلاح الجو من جهة أخرى، الأمر الذي يفسر مقتل ما يقارب 20% من القتلى الإسرائيليين من نيران الجيش الإسرائيلي نفسه (نيران صديقة).
ثالثاً، أعتقد أنَّ أهم التغيرات العسكرية حدث في خطة قتال المقاومة، إذ بات من الواضح أن قيادة المقاومة استخلصت الدروس والعبر من فترة القتال قبل الهدنة، ووقفت على نقاط القوة والضعف لديها ولدى خطة القتال الإسرائيلية في غزة.
لذلك، لم تتمسّك المقاومة بإستراتيجية خطوط القتال الدفاعية الأقرب إلى أسلوب القتال النظامي للجيوش في محاولة منع وصد تقدم القوات الإسرائيلية، وانتقلت إلى استراتيجية حرب العصابات بحذافيرها، المعتمدة على السماح للقوات الإسرائيلية التي هي قوات كلاسيكية نظامية بالوصول إلى قلب المناطق، ومن ثم الاعتماد على أسلوب الكمائن والإغارة على طول تقدم تلك القوات في الأماكن التي تحددها المقاومة ويكون لها قيمة مضافة للتفوق القتالي على قطاعات معينة من قوات الجيش الإسرائيلي المتوغلة، الأمر الذي يفسر الدخول السهل والسريع للقوات الإسرائيلية شمال وشرق خان يونس.
وهنا، تستفيد المقاومة من جغرافيا الأرض فوقها وأسفلها في نصب العديد من الكمائن القتالية متعددة الأنواع والأشكال، كما حدث أكثر من مرة وفي أكثر من ساحة، أشهرها مقتل 9 من كتيبة 12 في لواء جولاني ومقتل قائدها في كمين من العبوات الناسفة في حي الشجاعية، إصافة إلى أن ذلك يحرم الجيش الإسرائيلي، وخصوصاً سلاحه الجوي، من إيجاد نواة قتالية مركزية لقصفها لدى المقاومة، بل الاعتماد على مجموعات عسكرية صغيرة سريعة الحركة لها القدرة الفائقة على تنفيذ إغارة محكمة على القوات المتقدمة.
وهنا، لا يكون لوصول القوات الإسرائيلية جغرافياً قيمة عسكرية للجيش الإسرائيلي، بل يصبح نقطة قوة لمقاتلي المقاومة، لكونه لن يحقق أهدافه من دون السيطرة على المساحة الجغرافية. ولتحقيق السيطرة، يجب أن تترجل تلك القوات وتمسح وتطهر كل متر من تلك المساحة، الأمر الذي يعرض تلك القوات لمزيد من الكمائن وسهولة الإغارة عليها، وخصوصاً إذا أضيف قضية البحث عن الأسرى الإسرائيليين ومحاولة تحريرهم. عندها، يتحول ذلك التوغل إلى مصيدة موت محققة.