نقاش لبناني على رصيف ممر الهند-أوروبا

مع إطلاق مشروع طريق الهند-أوروبا، ارتفعت أصوات وسائل إعلامية وسياسيين ومحللين أطلقوا الاتهامات بشأن أسباب استبعاد لبنان من هذا الممر.

  •  رصيف ممر الهند-أوروبا والتعليق اللبناني.
    رصيف ممر الهند-أوروبا والتعليق اللبناني.

على الطريقة اللبنانية المعتادة، تعاطى بعض اللبنانيين مع "الممر الأخضر" الذي يبدأ بالهند ويصل إلى أوروبا مروراً بدول الخليج. الممر الذي يعدّ قضية عالمية ذات أبعاد استراتيجية تتعلق بموازين القوى الدولية الجديدة وبالصراع حول عالم متعدد الأقطاب وصعود قوى عالمية جديدة وخطوط التجارة العالمية، أصبح في لبنان مادة للاستثمار السياسي الرخيص.

يتعاطى بعض اللبنانيين مع الممر كأنه مسألة تشبه المحاصصات الداخلية وتوزيع المكاسب الداخلية على أسس طائفية ومذهبية وسياسية.

الأمر ليس مفاجئاً؛ فقد اعتاد سياسيون لبنانيون تسطيح القضايا الكبرى وتسخيفها وتبسيطها، مثل العداء لــ"إسرائيل" والاستراتيجية الدفاعية والتحول الاقتصادي نحو الشرق وغيرها من القضايا المهمة والمصيرية.

وقد ساهمت هذه العقلية في جعل لبنان من دون رؤية استراتيجية سياسية واقتصادية تحدد مواقفه ومصالحه وموقعه من التطورات والأحداث والمتغيرات الإقليمية والعالمية. إنها العقلية نفسها التي أنتجت سياسة "لبنان القوي بضعفه" أو سياسة "الحياد" التي تبدو أقرب إلى سياسة دسّ الرؤوس في التراب أو الإصرار على نموذج اقتصادي أنتج واقعاً اقتصادياً مشوهاً طوال عقود من جهة، وتخطته التحولات والتغيرات التي شهدها العالم والمنطقة من جهة أخرى. 

اليوم، ومع إطلاق مشروع طريق الهند-أوروبا، ارتفعت أصوات وسائل إعلامية وسياسيين ومحللين أطلقوا الاتهامات بشأن أسباب استبعاد لبنان من هذا الممر. وقد تم التركيز على اعتبار أن وجود المقاومة في لبنان هو العامل المانع لإدراجه ضمن الدول المشمولة بالممر.

يبدو واضحاً لأي مراقب موضوعي ومنصف أنَّ هذه المواقف لا تعدو كونها مناكفات للاستهلاك المحلي، ولا قيمة علمية لها. استبعاد مصر من الممرّ دليل على ذلك. لقد استبعدت مصر، وهي البلد الموقّع أول معاهدة "سلام" مع "إسرائيل"، والمبادر إلى العلاقات التطبيعية معها، والذي حسم خياره الرسمي ضمن الركب الأميركي دولياً، وكمكون أساسي لما يسمى محور الاعتدال العربي إقليمياً. 

من جهة أخرى، إن امتلاك مصر قناة السويس التي تشكل معبر ربط تاريخياً على طريق الهند-أوروبا كان يفترض أن يعطيها ميزة تفاضلية تفتح أمامها أبواب الانضمام إلى دول الممر، إلا أن الولايات المتحدة الأميركية لم تأخذ بعين الاعتبار كل هذه الوقائع، ولم تتوقف عند تضرر مصر من الممر العتيد، فالدراسات تشير إلى أن المر الهندي الأوروبي سيكون له تأثير سلبي كبير في نسبة عبور البضائع وتدفقها عبر القناة.

ليس الوضع التركي أفضل من الوضع المصري. تركيا العضو في حلف الناتو، والتي تقيم علاقات دبلوماسية واقتصادية وسياسية وتطبيعية مع "إسرائيل"، تم استبعادها أيضاً من هذا الطريق.

هذا السلوك الأميركي يعتبر مؤشراً واضحاً على أن ارتماء بلد من البلدان في الأحضان الغربية والأميركية ودخول نادي التطبيع مع "إسرائيل" لن يجعله حكماً ضمن نطاق المشاريع الاقتصادية والتنموية الأميركية.

 هذا ما لا يريد أن يدركه جزء من اللبنانين الذين يغفلون حقيقة تاريخية تحدث عنها مفكرون لبنانيون محسوبون على اليمين اللبناني، حين قالوا إن "إسرائيل" هي المنافس الأول للبنان، وإن المصلحة الإسرائيلية لا يمكن أن تتحقق إلا على حساب المصالح اللبنانية، كما أن نموذج لبنان التعددي يشكل خطراً وجودياً على "إسرائيل". كذلك، إنَّ نجاح التجربة الاقتصادية اللبنانية يشكل مصدر قلق شديداً للكيان الإسرائيلي.

وقد عبر المفكر ميشال شيحا عن هذه المسألة بقوله: "المشروع اليهودي لا يمكن أن يعرف تطوره إلا بالمرور على أجسادنا"، وتخوف على وظيفة لبنان الاقتصادية: "نحن لا نرى كيف يمكن لدولة إسرائيل أن تترك الدول العربية، ولبنان في الدرجة الأولى، تعيش وتزدهر بسلام"، واصفاً "إسرائيل" بأنها "المشروع الوقح والجريء من السيطرة الاقتصادية والمالية والصناعية والتجارية"، والذي سيترك فوق كاهلنا عبئاً ثقيلاً ومرهقاً.

وبدا واضحاً أن واشنطن تريد من خلال مشروع الممر دمج "إسرائيل" في المنطقة وإعادة ضخ الأوكسيجين في اتفاقات "إبراهام" المتعثرة ومحاولة الدفع باتجاه التطبيع بين "إسرائيل" والمملكة العربية السعودية.

وقد عبّر رئيس الوزراء الإسرائيلي عن هذه المسألة بوصفه مشروع الممر بأنه "أكبر مشروع تعاون في تاريخنا"، وأنه سيساهم "في تغيير وجه الشرق الأوسط وإسرائيل وأوروبا". كل هذا يؤكد أن واشنطن لا تولي أهمية في المنطقة إلا لأمن "إسرائيل" ومصالحها.

وبالتالي، إن اعتقاد بعض اللبنانيين وقناعتهم بأن الولايات المتحدة الأميركية يمكن أن تفضل لبنان على "إسرائيل" ليس سوى أحد الأوهام التي تعكس خفة في فهم السياسات الدولية، وخصوصاً الأميركية. لذلك، وبدلاً من التحسر على أوهام وأضغاث أحلام، كان يفترض باللبنانيين أن يعملوا على تنويع خياراتهم الاقتصادية وتوسيعها من خلال الآتي:

أولاً: التوجه شرقاً، وتحديداً صوب الصين، صاحبة مشروع الحزام والطريق، وصوب أطراف دولية أكثر صداقة للبنان، ومنها من لا يزال على رفضه المشروع الإسرائيلي، مثل إيران وسوريا والعراق. 

هذا يتطلب إعادة النظر في الارتباط اللبناني الوثيق بالولايات المتحدة الأميركية سياسياً واقتصادياً منذ أربعينيات القرن الماضي حتى اليوم، وخصوصاً أن اللبنانيين يعيشون اليوم النتائج الكارثية للنموذج الاقتصادي الذي رعته واشنطن طوال عقود.

ثانياً: الانفتاح على سوريا ومد الجسور نحوها وإعادة العلاقات معها، باعتبارها الممر الطبيعي باتجاه العمق العربي والمشرقي. هذه العلاقة كفيلة بإعادة لبنان إلى خارطة الممرات التجارية والاقتصادية.

أما الرهان على سراب خط الهند-أوروبا، فهو ليس سوى مساهمة في إبعاد لبنان عن معادلات الممرات، كذلك الإصرار على رفض التوجه شرقاً، وهو ما دعا إليه الأمين العام لحزب الله بعد انفجار الأزمة الاقتصادية في لبنان وانهيار النموذج الاقتصادي الذي قام في لبنان منذ نهاية الحرب الأهلية، ولكن تمت مواجهة دعوته بالتنكّر والاستهجان، وصولاً إلى حدود الاستهزاء بالطرح.

إنّ الاستمرار بهذه العقلية بمنزلة انتحار اقتصادي لبلد مثل لبنان، يحتاج اليوم إلى إيجاد وظيفة ودور اقتصاديين جديدين بعدما أثبتت سياسة التبعية الاقتصادية للغرب التي يتبناها تيار المراهنين على ممر الهند-أوروبا والمرتهنين للسفارات الغربية، وعلى رأسها السفارة الأميركية، فشلها في إنتاج الدولة التنموية الراعية والعادلة. 

لم تجلب هذه السياسة للبنان واللبنانيين إلا الخراب وتعطيل الإمكانيات الحقيقية لنهوض البلد، وهو ما يجب التصدي له من خلال اعتماد إجراءات ومقاربات نقيضة لتلك التي سادت، ومن خلال التخلي عن الرهانات العبثية.