هل يريد الخارج حكومة في لبنان اليوم؟
المعلومات الدبلوماسية والسياسية من مصادر موثوقة متعددة تؤكد أن الفرنسيّ يريد حكومة بأسرع وقت ممكن تضمن له 3 أمور رئيسية.
غالباً ما ينتهي كثيرون إلى تكذيب الكذبة وتصديقها، فيتجاهلون في موضوع تشكيل الحكومة اللبنانية وتعطيلها مثلاً كلّ ما صدر من الداخل والخارج عن عدم القبول السعودي بتشكيل حكومة برئاسة سعد الحريري، ويواصلون الحديث عن عراقيل داخلية ووزير بالزائد أو بالناقص يمكن أن يوقف تشكيل الحكومة 9 أشهر.
ولا بدّ بالتالي عند البحث في احتمالات التشكيل بالنسبة إلى الرئيس المكلف من نفض الأكاذيب الكثيرة المتراكمة فوق السبب الأول الذي منع الحريري من التشكيل: طلب كلّ من الفرنسي والمصري والتركي من الحريري أن يُشكل، وضغطوا بهذا الاتجاه، في ظل تقديم رئيس الجمهورية و"التيار الوطني الحرّ" التنازل تلو التنازل، حتى بلغت 10 تنازلات لحثِّه على تدوير الزوايا والتشكيل، إلا أنَّه لم يشكّل لسبب وحيد أوحد هو عدم تلقّيه إشارة سعودية تسمح له بالتّشكيل.
هذه العقبة الأولى التي منعت الحريري من التشكيل غير موجودة بالنسبة إلى الرئيس المكلّف الجديد؛ لا نجيب ميقاتي هو سعد الحريري (المغضوب عليه) بالنسبة إلى السعودية، ولا السعودية هي تلك القوة العظمى التي لا يمكن التنفس من دون إشارة منها بالنسبة إلى ميقاتي.
ميقاتي يراعي السعودية، ويقف على خاطرها، ولا يمكن أن يفعل من قريب أو بعيد ما من شأنه استفزازها، لكنه (بعكس الحريري) لم ينتظر منها الإشارات يوماً في محطات مسيرته السياسية. في المقابل، إن السعودية لا تضع فيتو على "حكومة برئاسة ميقاتي"، كما كانت تضع فيتو على "حكومة برئاسة الحريري" لجهة التعاون المحتمل، ولا تجد في ميقاتي أي استفزاز لها كما كانت تجد في الحريري، وهو ما يدفع إلى القول إن السبب الأول والرئيسي الذي حال دون تشكيل الحريري للحكومة غير موجود اليوم.
أما العقبة الثانية التي كانت تُقلق الحريري، فهي رفع الدعم وسلة الإجراءات القاسية بحق المواطنين العاديين، والتي يصفها المجتمع الدوليّ بالإصلاحات، وهي في غالبيتها باتت أمراً واقعاً يفترض بحكومة ميقاتي أن تتمكّن من الحدِّ من قسوته قليلاً.
أما العقبات التقليدية، كالحصص الوزارية وشكل تمثيل "حزب الله"، فهذه جميعها تفاصيل صغيرة يمكن لميقاتي إيجاد حلول تسووية سريعة لها في حال وجود قرار دولي بالتكليف، وهي لم تكن بالمناسبة يوماً سبباً بحد ذاتها لتأخير حكومة أو تطييرها، إنما مجرد وسائل تعتمدها القوى المحلية في انتظار الإشارات الخارجية. والأهم هنا أن ميقاتي يتمتع أكثر من أي شخص آخر بالقدرة على تدوير الزوايا وإيجاد حلول وسطى ترضي الجميع، إذا كان ثمة قرار دولي حاسم بالتشكيل.
والمؤكد في هذا السياق أن نجيب ميقاتي ما هو في نهاية الأمر إلا نجيب ميقاتي: إذا أشار إليه المجتمع الدولي ممثلاً بالولايات المتحدة وفرنسا بالتشكيل سيُشكل، وإذا طلب منه المجتمع الدولي التريث سيتريث، وإذا لفتوا نظره إلى وجوب عدم الترشح أو رفض التكليف أو الاعتذار عن التكليف فسيفعل قبل صياح الديك. مصالحه في الخارج، وثرواته الموزعة في عواصم العالم، وعدم امتلاكه وريثاً سياسياً يخشى على مستقبله السياسيّ، يدفعه كله إلى الالتزام الحرفي بتوصيات الخارج، مهما كانت الحالة في الداخل.
وعليه، هل يريد الخارج حكومة في لبنان اليوم؟ المعلومات الدبلوماسية والسياسية من مصادر موثوقة متعددة تؤكد أن الفرنسيّ يريد حكومة بأسرع وقت ممكن تضمن له 3 أمور رئيسية:
1. أموال سريعة لشركاته، بعد تأخّر الرئيس الفرنسي كثيراً في تحقيق وعوده للشركات الكبرى باستفادتها من أموال "سيدر" التي يستدينها الشعب اللبناني لتذهب إلى الشركات الفرنسية من أجل بناء مشاريع (لا أحد يعلم ما إذا كانت ضرورية فعلاً)، مع العلم أنَّ الخارجية الفرنسية تحوّلت منذ سنوات إلى موظف علاقات عامة يبحث عن مشاريع للشركات الفرنسية الكبرى لا أكثر.
2. محاولة مزاحمة معجلة مكررة لروسيا في المنطقة بعدما لاحظ الفرنسي والألماني أن الأميركيّ ينسحب من المنطقة تزامناً مع استثمار روسي كبير في النفط العراقي، وحضور عسكري استثنائي في سوريا، واندفاع جدي أول من نوعه نحو لبنان.
3. إيقاف الانهيار الأمني، نظراً إلى تداعياته السياسية الخطيرة لجهة صمود "حزب الله"، وانهيار جميع الأفرقاء السياسيين الآخرين، وضياع الاستثمارات الغربية الكبيرة في الجيش والقوى الأمنية.
وهنا، لا بدّ من شرح إضافي: لا يريد الفرنسيون وشركاؤهم الدوليون انهياراً أمنياً، لكنهم يريدون استمرار الانهيار المالي والخدماتي، أقلّه حتى موعد الانتخابات النيابية المقبلة، حيث يتألّف البرنامج الانتخابي لحلفاء الولايات المتحدة في لبنان من بند وحيد أوحد هو "الجوع والفقر والذل"، الذي يعملون جاهدين لتحميل "حزب الله" و"التيار الوطني الحر" مسؤولياته، ويذهبون إلى الانتخابات في مناطق نفوذ "التيار" تحديداً على هذا الأساس، وهم إذ يخسرون هذا البند، فإنهم لا يملكون أي عنوان آخر يخوضون الانتخابات على أساسه؛ فانقطاع المواد الأولية من السوق اللبناني بإدارة مباشرة ودقيقة من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة سيتواصل حكماً، مع حكومة أو من دون حكومة، وعدم دفع المصارف مستحقات المودعين سيتواصل هو الآخر، مع حكومة أو من دون حكومة، والغلاء المعيشي المربوط بسعر الصرف سيبقى على حالته السيئة. ولا بدّ من أن يتعاظم البكاء من انقطاع الدواء بعدما باتت صور الأطفال والمرضى والمسنين هي المادة الانتخابية الرئيسية.
وعليه، هم يريدون من الحكومة أن توقّع معهم الاتفاقيات التي تسمح لشركاتهم بالحصول على الأموال للبدء بمشاريع طويلة الأمد لا تؤثر من قريب أو بعيد في حياة المواطنين والظروف القاهرة (المزيد من الطرقات والجسور ومحطات التكرير التي لا تعمل)؛ حكومة تقطع الطريق على المحاولات الخجولة جداً لبعض الوزراء في حكومة تصريف الأعمال لتأمين حلول بديلة لانقطاع الدواء والكهرباء وبعض المواد الغذائية، حكومة تقطع الطريق أيضاً على الطموحات الروسية في المرفأ والمصافي والنفط، حكومة تستدين المزيد من الأموال لصرفها على المزيد من المشاريع العبثية من دون تدقيق جديّ بالحسابات ونوعية التنفيذ والجدوى الاقتصادية، مع تسليط سيف العقوبات الأوروبية السخيفة على كل من يحاول إعاقة التشكيل أو تعديل هذه الأهداف الخبيثة للتشكيل.
وفي النتيجة، احتمال التشكيل كبير جداً: الخارج يريد حكومة. "حزب الله" وحلفاؤه (باستثناء تكتل لبنان القوي) دفعوا باتجاه تكليف ميقاتي وسمّوه. رئيس الجمهورية يحترم الدستور لجهة التعاون مع من كلَّفته الأكثرية النيابية، أياً كان اسمه، وهو و"التيار الوطني الحر" لن يأخذا على عاتقهما من قريب أو بعيد مسؤولية الوقوف بوجه كل ما سبق تعداده، إنما سيستعدون على طريقتهم للانتخابات، تاركين للأكثرية التي كلّفت ميقاتي أن تتحمّل مسؤوليّة كلّ ما يمكن أن تفعله حكومته، بعدما سنحت الفرصة أخيراً لتظهير أنهم لا يملكون أكثرية نيابية، ولا أكثرية وزارية، ولا أكثرية سلطوية. كان لدى رئيس الجمهورية و"التيار الوطني الحرّ" بعض الشكوك، لكنَّ قناعتهما اليوم راسخة وحاسمة: لا قدرة لنا على قلب الطاولة. أقل ما يمكن أن نفعله هو عدم الجلوس عليها.