ما بعد كورونا.. أميركا تقود العَوْلَمة 2.0!

مع غياب الدولة القادِرة على مُجاراة الولايات المتحدة، يغيب العنصر الخارجي المؤثّر في إنشاء نظام عالمي مختلف عما عشناه قبل "كورونا".

  • ما بعد كورونا.. أميركا تقود العَوْلَمة 2.0!
    تدرس واشنطن بشكلٍ جدّي إطلاق الدولار الرقمي

يقع المُحلّلون عادةً في "خطيئة" التفكير الأحادي، خاصة حين يحاولون تطبيق أدوات التقدير على مسائل نظرية بالإسقاط، كمحاولة إستشراف مصير الولايات المتحدة الأميركية بعد وباء "كورونا" المُستجدّ بوضعها على مقياسٍ يصلح لتقدير مستقبل بلد صغير في بقعة جغرافية منسية في العالم، لا قوَّة عُظمى يرتبط استقرار العالم بأسره بها.

في الأسابيع القليلة الماضية، تركّز الدّفق الإعلامي والتحليلات الصحفية على التوقّع السلبي للمستقبل القريب في شتّى المجالات، ومنها مصير الإقتصاد الأميركي.

قد تكون سلبية هذا الإتجاه مفهومةً بسبب تأثّر الصحافيين بطبيعة الحال بقلق المهنة نفسها والإنحياز السياسي والإعلامي، ولكنّ إطلاق تسمية "تقدير استراتيجي" على مسألة لا تزال قَيْد المخاض لا يمكن إدراجه ضمن المنهج العِلمي السليم.

وضعت أزمة "كوفيد 19" العالم أمام حقيقة كان يتوقّعها علماء المستقبل ولكن بوتيرةٍ أبطأ قليلاً. شكل جديد من العَوْلَمة حيث تبدو فيها القوميات أكثر إنغلاقاً لكنها في الواقع ستضطر إلى الإنفتاح والتعاون باستخدام أدوات وتقنيات رقمية؛ كالعملات الرقمية، العقود الذكيّة.

في خضمّ انشغال العالم بكورونا، يشهد الكونغرس الأميركي حالياً ورشة تشريعية ضخمة ستبدأ انعكاساتها بالظهور في الأسابيع والأشهر القليلة المقبلة، على أكثر من صعيدٍ في العالم.

تصبّ جميع الجهود الأميركية على تأمين السيطرة على النظام العالمي في المجالات الحيوية، وإنْ اختلفت الأشكال والتسميات. ولكن رَسْم معالِم عالَم "ما بعد كورونا" يحتاج قبل أي شيء آخر إلى "فرض الهيبة".

دعكم وحديث نظام العالم المُتعدّد الأقطاب. بلغت إهانة دونالد ترامب للصين حداً غير مقبول بوصف كورونا بـ"الفيروس الصيني". ومع إتساع الحديث الإعلامي، بالحد الأدنى، عن مسؤولية الصين بإنتشار الفيروس، فإن ردّ فعل بكين لا يتناسب أبداً مع قوَّة دولية كان يُعوّلُ عليها لإقامة توازنٍ عالمي في مواجهة الولايات المتحدة. كما إن تجربة الصين نفسها في مُكافحة الوباء لا يمكن أن تكون نموذجاً قابلاً للقبول بالنسبة إلى الكثير من الشعوب التي تنادي بالتحرّر. ناهيك عن أنّ مبادرة "طريق الحرير الجديد"، التي كان يمكن أن تُحدِث تغييراً عالمياً، باتت رهينة الحَجْر أيضاً بفعل "كورونا".

ومع غياب الدولة القادِرة على مُجاراة الولايات المتحدة، يغيب العنصر الخارجي المؤثّر في إنشاء نظام عالمي مختلف عما عشناه قبل "كورونا".

وبما أن تعريف النظام العالمي هو نفسه لناحية مجموعة القوانين والقِيَم التي تصنعه وتعكس سلوك الأقوياء فيه، فإن توقّع تغيّر سلوك زعماء العالم بسبب الوباء أمرٌ لا يخلو من السَذاجة.

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والعالم ينتظر الإعلان الأميركي لعنوان كل مرحلة زمنية. في العقود الثلاثة الماضية، أنعمَ علينا جورج بوش الأب بإعلان "حُقبة الحرية" مع إرساله القوات إلى الخليج.

ثم أتمّ بوش الإبن الرسالة بوَصم "محور الشرّ"، قبل أن يخاطب باراك أوباما العرب والمسلمين من قلب "القاهرة" بالتوازي مع إعلانه أن أميركا تقود العالم.

واليوم يقود الولايات المتحدة شخص أكثر صراحةً في التعبير عن مكنوناته وأشدّ خطراً في السعي وراء التنفيس عن مكبوتاته.

وفي حركة التاريخ عادةً ما يصنع الفرق أفرادٌ بمواصفاتٍ خاصة. لسنا هنا في وارد توصيف أحد، لكن شخصية الرئيس الأميركي الحالي وأداءه من النوع الذي يقود إلى مُقارنة تلقائية مع شخصيات "مُتضخّمة نرجسياً" حفرت إسمها في الحروب العالمية والغزوات الكبرى.

وبما أنّ الولايات المتحدة تمتلك السيطرة حتى الساعة على: الإنترنت، والدولار، والفضاء، والبحث العِلمي، والسلاح، والنفط، والقمح، والإعلام، فإنّ أيّ حديث عن "إنهيار" أو "إندحار" أو "تراجُع" أميركي بفعل تداعيات "كورونا" هو استنتاج سابق لأوانه، عِلماً أن الولايات المتحدة شهدت أكثر من أربع مرات ركوداً إقتصادياً ضخماً في تاريخها الحديث.

ما يشهده العالم لا يعدو كونه تغييراً طبيعياً نتيجة حركة التاريخ، ولكن سُنّة "وكان الإنسان عجولاً" تمنعه عادة من رؤية مسارات الحياة بهدوء.

تبرز آفة "العَجَل" هذه أكثر في الدول الأفقر، بما أن أحد الفوارِق الكبيرة ما بينها وبين المجتمعات الأكثر تقدّماً هو ضعف "التخطيط"  وغياب "حُسن التدبير".

وفي وقت يتنافس فيه الكثير من "المُحلّلين" على رَسْم سيناريوهات خالية من أيّ منطق لمستقبل العالم ومصير الولايات المتحدة الأميركية، تدرس واشنطن بشكلٍ جدّي إطلاق الدولار الرقمي، في مؤشّر على أنّ تغيّر العالم بشكلٍ دراماتيكي لا يزال بعيد المنال في المدى المنظور. 

ما يتغيّر في سنن التاريخ هي الأدوات فقط.

أعلنت منظمة الصحة العالمية في 31 كانون الأول/ديسمبر 2019 تسجيل إصابات بمرض الالتهاب الرئوي (كورونا) في مدينة ووهان الصينية، ولاحقاً بدأ الفيروس باجتياح البلاد مع تسجيل حالات عدة في دول أخرى حول العالم.