اتّصالات أميركيّة مع حماس.. الهدف والتّوقيت!

من يسلّط الضوء على سلوك الإدارة الأميركية يدرك تماماً الأهداف الخفية من مثل هذه الاتصالات مع حركة حماس، فالتوقيت مشبوه.

  • اتّصالات أميركيّة مع حماس.. الهدف والتّوقيت!
    جندي من قوات الأمن الفلسطينية يقف على معبر رفح الحدودي مع مصر في جنوب قطاع غزة (أ ف ب).

رغم إدراج حركة حماس في قوائم الإرهاب الأميركيّة منذ فوزها في آخر انتخابات فلسطينية في العام 2006، واكتساحها المقاعد بأغلبية برلمانية، وهو ما شكَّل زلزالاً سياسياً في المنطقة، كما وصفه مراقبون دوليون آنذاك، فرضت الإدارة الأميركيّة حصاراً سياسياً واقتصادياً ومالياً على الحركة، في خطوات هدفها وأد التجربة البرلمانيّة الأولى التي خاضتها كحركة مقاومة فلسطينيَّة، والالتفاف على نتائج الانتخابات، وإسقاط الحركة التي اختارها الشّعب الفلسطينيّ في انتخابات أجريت برقابة دوليّة وأمميّة شفافة ونزيهة. 

عملت الإدارات الأميركية السابقة طيلة السنوات الثلاث عشرة الماضية على استخدام سياسة العصا من جهة، كبداية في فرض حصار سياسيّ واقتصاديّ إسرائيليّ مستمرّ على حماس وقطاع غزة بشكل عام، ووضعت قياداتها على قوائم الإرهاب، كما اتبعت سياسة الجزرة من جهة أخرى، من خلال محاولة فتح قنوات اتصال سرية (غير معلنة) أو غير رسمية، إما عن طريق دول عربية تعتبرها صديقة لحماس ومقربة منها، وإما من خلال شخصيات دبلوماسيّة دوليّة، هدفها استكشاف المواقف والاستماع إلى حماس في الحلول السياسيّة ومدى قبولها شروط الرباعية التي وضعتها أميركا شرطاً أساسياً لفكّ الحصار السياسيّ عليها وشطبها من قوائم الإرهاب الدولية.

لم تتوقّف الاتّصالات منذ عهد الرئيس الأميركي السابق جورج بوش وحتى عهد الرئيس باراك أوباما، وصولاً إلى عهد إدارة ترامب الحالية، لكن طبيعة هذه اللقاءات ربما تغيرت من فترة إلى أخرى، ففي المراحل السابقة، ركزت على مسار واحد، هو إرسال مبعوثين ووسطاء، عبر دول صديقة، بهدف "استكشاف المواقف وجسّ النبض".

أما اليوم، فقد تغيّر المسار كلياً، فمنذ تولي دونالد ترامب الإدارة الأميركية وإعلانه "صفقة القرن"، تصاعدت وتيرة الاتصالات مرة أخرى من وقت إلى آخر، مرة بهدف ترتيب لقاءات سرية عبر لقاء دبلوماسيين أميركيين، وأخرى تكشفت هذه الأيام، بهدف ترتيب لقاءات رسميّة مع حماس، وهو ما أعلن عنه السيد إسماعيل هنية بتاريخ 4 آذار/مارس من العام الجاري، في تصريحات إعلاميّة أشار فيها إلى أن حركته رفضت التعاطي مع دعوات الإدارة الأميركية لعقد لقاءات سرية، وأكد أن الهدف من مثل هذه اللقاءات تمرير رواية "صفقة القرن"، وأن هناك طرفاً فلسطينياً يمكن أن يوافق على مثل هذه الصفقة، وهو يعلن رفضه في العلن ويلتقي بنا بالسر، واعتبر هنيّة أنّ مثل هذه المحاولات ليس إلا خدمة للمصالح الأميركيّة في المنطقة. 

المحاولات الأميركية لم تتوقف هنا، حيث تصريحات السيد هنية، فقد سربت مصادر إعلامية مؤخراً تفاصيل عن محاولة جديدة سعت من خلالها إدارة ترامب إلى عقد لقاء مباشر مع حركة حماس، لتقديم عرض بمليارات الدولارات لإعادة إعمار غزة وبناء ميناء ومطار فيها. وأوضحت المصادر ذاتها أنَّ حماس رفضت العرض على قاعدة رفضها "صفقة القرن"، وأن اللقاء يهدف إلى عزل غزة عن المواجهة وزيادة التفرقة الفلسطينية. 

من يسلّط الضوء على سلوك الإدارة الأميركية يدرك تماماً الأهداف الخفية من مثل هذه الاتصالات مع حركة حماس، فالتوقيت مشبوه، وسلوك إدارة ترامب تجاه القضية الفلسطينية كشف عن موقف أميركا الحقيقي وانحيازها الكامل إلى الاحتلال الإسرائيلي، بدءاً من إعلان "صفقة القرن" ونقل السفارة الأميركية إلى القدس.

وفي ظل الحديث عن نية "دولة الاحتلال" إعلان قرار ضم أجزاء كبيرة من الضفة الغربية وغور الأردن إلى السيادة الإسرائيلية، لا يمكن تفسير مثل هذه العروض والاتصالات إلا بهدف المساومة، والالتفاف على الحقوق الفلسطينية، وزيادة الانقسام في الموقف الفلسطيني، وتهيئة العالم لوجود طرف فلسطيني يمكن أن يوافق على ما يسمى "صفقة القرن"، في محاولة أميركية واضحة لاحتواء حركة حماس أو تطويعها مقابل دولارات ومطارات. 

الهدف من مثل هذه الاتصالات وترتيب اللقاءات في هذا الوقت نابع من إدراك أميركي بأن حماس تحولت إلى طرف إقليمي مهم لا يمكن تجاوزه، وهي قادرة على إرباك المخططات الأميركية لتنفيذ "صفقة القرن"، كما حاولت سابقاً إفشال اتفاقيات أوسلو.

لم تعدم أميركا طريقاً إلا وسلكتها لكي تتحدث إلى حماس، وتجتمع مع قيادتها بالسر في أي مكان تختاره، بل وصل الأمر بها إلى تقديم عروض كي تذهب قيادة حماس إليها، ويتم استقبالها استقبالاً حافلاً، بهدف مناقشة القضية الفلسطينية.

كانت هذه العروض تُواجه بالرفض، وهو ما يعد ذكاء كبيراً من حركة حماس، فعندما تعرف ما يريده عدوك، وأنه لن يعطيك من بيتك إلا غرفة الحارس فقط لتحرسه وتجلس فيه، ويعتبر ذلك إنجازاً عظيماً وتحقيق حلم، فاعلم وقتها أن التحدث إلى الأميركيين يعتبر ضرباً من ضروب تحقيق أهداف الاحتلال الإسرائيلي.

موقف حماس الواضح حيال هذه القضيّة يعطي قوة سياسية كبيرة ودفعة للموقف الفلسطيني في هذا التوقيت، للاستمرار في مواجهة المخطّط التّصفوي للقضية الفلسطينية، والتأكيد أن الموقف واحد لا ثاني له، سواء في السرّ أو العلن، وذلك برفض أيّ لقاء مشبوه هدفه عزل غزة عن المواجهة والالتفاف على الحقوق الفلسطينيّة، وأنَّ الأرض الفلسطينية ليست للبيع أو المساومة، وهو ما يجب أن يكون موقف الكلّ الفلسطيني، بما فيه المستوى الرسمي الفلسطيني، فعلاً وعملاً. 

محاولات أميركا لتمرير مثل هذه السياسة، في محاولة لتطبيق "صفقة القرن"، تعكس حقيقة أنها تعيش تحت ضغط اللحظة، وتحاول إظهار المزيد من الجهود لتنفيذ صفقة ترامب على أكمل وجه قبل نهاية ولايته الحالية.

مثل هذه المحاولات لن يسجّل لها النجاح، ما دام هناك موقف فلسطيني متماسك واعٍ لأهداف الإدارة الأميركية في هذا التوقيت، ورافض في الوقت ذاته لـ"صفقة القرن" ومخطط الضم وتصفية القضية. في المقابل، فإن الظروف التي يمر بها الشعب الفلسطيني بشكل عام، والقضية الفلسطينية على وجه الخصوص، ليست سهلة، كما يصورها البعض، فالقادم للشعب الفلسطيني هو بمثابة نكبة جديدة للفلسطينيين.

من المعروف أن تمسّك حماس بمثل هذه المواقف ورفض إجراء مباحثات سرية مع واشنطن كفيل بزيادة ضغوط الأخيرة على الحركة في الإقليم والمجتمع الدولي والدول العربية، إذ ستواصل إدارة ترامب البلطجة، خدمة لمصالح المشروع الصهيوني، وهو ما يفرض على الفلسطينيين بمختلف توجّهاتهم ومواقعهم الرسميّة والفصائلية البناء على مواقف الرفض السياسية والإعلامية، فلا زالت المواقف المعلنة والخطوات العملية لمواجهة "صفقة القرن ومخطط الضم" لا ترتقي إلى مستوى الجريمة، بل هي ضعيفة، وضعيفة جداً، من أن تشكل ضغطاً كافياً لإحباط هذا المخطط، والكل مشغول بذاته بعيداً من القضية الوطنية.