سبتُ المخاطر والمصائر
كانت شروط إنفجار الغضب في الشارع قد تجمّعت عشيّة انتخاب الرئيس إيمانويل ماكرون الذي طرح شعارات وطنية كبيرة ووعد مواطنيه برفعهم إلى مستوى "كوكب جوبيتير" فإذا به ينحدر بهم إلى القاع عبر إجراءات ضريبية... اقتضى الأمر 3 أسابيع من التحرّك العنيف في الشوارع حتى يتراجع الرئيس الفرنسي عن قانون الضرائب على المحروقات، فهل يعود أصحاب "السترات الصفر" إلى منازلهم بعد أن نالوا مطلبهم الأول؟
حركة "السترات الصفر" منظوراً إليها بعيون بعض المحللين العرب، هي ردّ فعلٍ ناجمٍ عن تدخّلٍ أميركي في الشؤون الفرنسية الداخلية. إنها ردّ من ترامب ضد ماكرون لكي يبقى في بيت الطاعة الأميركي وكأنه غادره أصلاً! الحركة نفسها منظوراً إليها بعيون سورية، هي نسخة فرنسية عن الربيع العربي. نلاحظ ذلك في التعليقات التي انتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي، من نوع "تنسيقيّة ماري أنطوانيت" أو متظاهرين فرنسيين يقولون "يا الله ما إلنا غيرك يا الله" أو "سلميّة سلميّة" في مواجهة رجال الشرطة أو "إرحل. إرحل. إرحل"، شعارٌ كان يردِّده كما هو معروف المُتظاهرون في ساحات البلدان التي شهدت سقوط حكّام عرباً خلال السنوات الماضية.
تصدر هذه التحليلات عن جهتين. الأولى تضمّ أناساً يحبّون فرنسا أو يكرهون أميركا أو الشعورين معاً، ويعتقدون أن واشنطن تعاقب هذا البلد على مواقف رئيسه المفترقة عن سياسة الرئيس الأميركي دونالد ترامب. والجهة الثانية ترغب في الانتقام من التدخّل الفرنسي في شؤون الدول العربية ودعم المسلحين في سوريا ومناهضة الرئيس بشار الأسد. في الحالين لا يعدو الأمر عن كونه إسقاطات رغبوية على حدثٍ فرنسي هائل بعمق معانيه ودلالاته، وبالتالي يستحق نظرة جدّية لفهم أسبابه البعيدة ومستقبل حركة "السترات الصفراء" خصوصاً بعد أن تنازلت الحكومة عن قانون ضرائب الطاقة.
لا بد من تلخيص مختصر للأسباب العميقة لهذه الظاهرة الجديدة تماماً وغير المتوقعة في فرنسا قبل شهرين. نشير أولاً إلى أن التغيير في هذا البلد يتم عبر وسيلتين أساسيتين، الأولى عن طريق البرلمان وتغيير الحكومة ورئاسة الجمهورية وبالتالي الإقتراع المباشر. والثانية عن طريق الضغط في الشارع حيث نزل الفرنسيون منذ أسابيع بعد محاولات يائِسة للتغيير عبر الإقتراع. لقد انتخبوا على التوالي 3 رؤساء جمهورية منذ بداية الألفية من دون أن يطرأ تغيير يذكر على الهوّة الآخذة بالاتّساع بين الأغنياء والفقراء ومن دون أن تقع استجابة لمطالب الناس الأساسية في تحسين قوّتهم الشرائية ووقف حركة الضرائب التصاعدية المستمرة التي تستهدفهم عموماً وتتجنب الأغنياء وأصحاب الثروات الطائلة.
كانت شروط إنفجار الغضب في الشارع قد تجمّعت عشيّة انتخاب الرئيس إيمانويل ماكرون الذي طرح شعارات وطنية كبيرة ووعد مواطنيه برفعهم إلى مستوى "كوكب جوبيتير" فإذا به ينحدر بهم إلى القاع عبر إجراءات ضريبية تهدد جدياً القدرة الشرائية للطبقة الوسطى والمتقاعدين وفئات واسعة من محدودي الدخل.
قبل ذلك بادرت حكومة الرئيس الفرنسي إلى إلغاء الضريبة على الثروات الكبيرة والتي تُقدّر ب 4 مليارات دولار وأعفت من الضرائب "الطائرات الخاصة واليخوت الفخمة وسبائك الذهب وخيول السباق والملكيات الفنية".
هكذا نرى أن الرئيس الفرنسي اقتطع بواسطة الضرائب 300 يورو سنوياً من مُتقاعد يتقاضى 1300 يورو شهرياً وأعفى مليونيراً من مليون يورو بدل ضريبة سنوية، تقول بعض التعليقات الساخرة إنه لم يلحظ هذا الفارق لأن ثروته طافحة إلى الحد الذي لا يُحرّك مليون واحد طرفاً من عينيه.
يجب النظر إلى حركة السترات الصفر من هذا الباب الداخلي أولاً. ومن الباب الأوروبي ثانياً حيث تخضع فرنسا إلى ميزان قوى داخل الاتّحاد الأوروبي يميل أكثر فأكثر لصالح ألمانيا التي فرضت على دول الاتحاد عدم تجاوز 3 بالمئة نسبة العجز في الميزانية، وبما أن الميزانية الفرنسية كانت تعاني من عجز يتعدّى هذه النسبة، فقد كان عليها أن تُعالج العجز بالضرائب وبخفض الإنفاق العام وبالتالي الإمتناع عن التعرض للأغنياء الذين يمتلكون التأثير الحاسم في المجتمع الفرنسي والأوروبي واقتطاع ما يسد العجز من جيوب الطبقة الوسطى وذوي الدخل المحدود. ويجب النظر إلى هذه الظاهرة من الباب الثالث الدولي أيضاً، فباريس ملتزمة باحترام اتفاقية كيوتو حول الاحتباس الحراري، وبالتالي هي مُطالبة باتّخاذ إجراءات بيئية من بينها رفع سعر الـ "غازوال" أو المازوت بحيث يصبح كسعر البنزين، وبالتالي التضييق على فئات واسعة من الفرنسيين الذين بات يتوجّب عليهم تغيير سيارات اشتروها من أجل الإفادة من فارق كلفة المازوت والبنزين وبات عليهم اليوم أن يخسروا مرتين. المرة الأولى بفارق سعر السيارة الهابط وعدم القدرة على تغييرها وبسعر المازوت الذي صار موازياً للبنزين، الأمر الذي بات لا يطاق بالنسبة إليهم فنزلوا إلى الشوارع وعبّروا عن غضبهم من دون أن ينبذهم الرأي العام المُتضرّر مثلهم من إجراءات الحكومة الراهنة.
اقتضى الأمر 3 أسابيع من التحرّك العنيف في الشوارع حتى يتراجع الرئيس الفرنسي عن قانون الضرائب على المحروقات، فهل يعود أصحاب "السترات الصفر" إلى منازلهم بعد أن نالوا مطلبهم الأول؟
الإجابة الحاسمة عن السؤال سنجدها على الأرض هذا السبت في 8 كانون الأول/ ديسمبر الجاري من خلال حجم المتظاهرين ونوع ردود أفعالهم، عِلماً أن تأييد الرأي العام لهم لم يتراجع رغم أعمال العنف والتكسير.
بالانتظار يبدو لي أن الاتجاه العام يميل نحو تصعيد التمرّد واعتبار التنازل الحكومي عبر إلغاء ضرائب المحروقات قد جاء متأخّراً ولا يتناسب مع حجم الحركة والالتفاف الواسع الذي حظيت به، وبات يستدعي تنازلات أكبر من نوع استقالة الحكومة وفرض الضرائب على الثروات الكبيرة وإصلاحات أخرى تُحسّن القدرة الشرائية للفئات المتضررة من الأزمة الاقتصادية التي أصابت فرنسا وأوروبا منذ بعض الوقت.
لقد أصبحت حركة السترات الصفر أشبه بكرة الثلج التي جذبت سائقي سيارات التاكسي وعربات الإسعاف فضلاً عن الطلاب الثانويين في سيرورة تشبه حركة أيار/ مايو الطلابية في عام 1968. هذا إذا أردنا صرف النظر عن تصريحات يدلي بها بعض من قادة الحركة الذين يشبّهونها بالثورة البورجوازية عام 1789.
ويتعدّى تأثير الحركة الأراضي الفرنسية. فقد رأينا بوادر تحركات مشابهة وإن كانت محدودة في بلجيكا وبولندا والدانمرك احتجاجاً على سياسات ضريبية مفيدة لأغنياء أوروبا ومنهكة للقدرة الشرائية لمحدودي الدخل.
إن المقارنة بين حركة السترات الصفر وحركة الطلاب في مايو 1968 تحتمل أيضاً ارتداد الناس عنها. فقد انخفض تأييد الفرنسيين لحركة الطلاب في حينه بعد أن فاض العنف المنسوب إليها عن الحدود المطلبية وبات يُهدّد مؤسّسات الدولة واستقرارها. ومع تراجع تأييد الرأي العام انحسرت الحركة إلى حدّ التلاشي.
ما نراه اليوم ليس بعيداً تماماً عمّا وقع للحركة الطلابية. فالسترات الصفر تُهدِّد باقتحام قصر الأليزيه أو على الأقل هذا ما يُنادي به بعض وجوه الحركة وترفع مطالب تحتاج إلى إصلاح النظام الجمهوري، وتستدعي إصلاحات دستورية جوهرية وهي بذلك تقترب من برامج اليسار الراديكالي واليمين المُتطرّف. وفي هذه الحال يصعب الرهان على تماسكها وعلى استمرار التأييد الشعبي لها.
هكذا تبدو حركة السترات الصفر في هذه الأثناء قوّية ومنتصرة بعد تراجع الحكومة المُتأخّر عن ضرائب المحروقات، لكن انتصارها مرهون بحسن أدائها وبالتفاف الرأي العام حولها. فإن فعلت قد تذهب إلى أبعد الحدود وإن أخطأت يتفرّق أنصارها أيدي سبأ.