فنزويلا والتحديات الأميركية الإسرائيلية

"من نحن - تحديات الهوية الأميركية" ربما يكون كتاب هنتنغتون الذي يحمل هذا العنوان هو أهم ما يُفسّر الأزمة الفنزويلية ودور الولايات المتحدة فيها. انطلاقاً من أن هذه الإشكالية لا تتعلّق لا بشخص دونالد ترامب ولا ماديرو وإنما بواقع جيوبوليتيكي ثقافي إمبريالي لم يتغيّر منذ كاسترو واللّيندي وصولاً إلى دي سيلفا وشافيظ ومادورو .

هنتنغتون يقول إن الهوية الأميركية تتمثّل في ثلاث: العرق الأبيض، الديانة البروتستانتية، والثقافة الأنكلوساكسونية وقوامها اللغة الإنكليزية. وبناء عليه وعلى واقع الجغرافيا السياسية يرى أن التهديد الحقيقي لهذه الهوية هو أميركا الجنوبية ذات العرق الخلاسي أو الديانة الكاثوليكية (حتى ولو تمركست) والثقافة اللاتينية وقوامها اللغة الإسبانية بتنويعاتها. بهذا المعنى العميق يتجاوز الصراع مفهوم الحديقة الخلفية فحسب. تجاوز يعبر الأزمنة والثورات، فإذا كاسترو وغيفارا وشافيظ وكل مَن تبعهم هم تجلّيات لسيمون بوليفار، إذ للماركسية الأميركية اللاتينية طعم قومي، صلبه النضال لأجل الاستقلالية عن أميركا الشمالية وخاصة الولايات المتحدة الأميركية.
واقعياً، ليس جميع الأميركيين، ساسة وجماهير، من أتباع هنتنغتون وإيديولوجياته ، وإن ثمة مَن يعتبر في الأميركتين أنه من الممكن إقامة فضاء تعاوني مشترك بين الأميركتين، رغم كل الاختلافات التي بنى عليها صاحب صراع الحضارات. ولكنه من الواقعي أيضاً أن الولايات المتحدة انتخبت رئيساً يُدعى دونالد ترامب على أساس دعاية انتخابية تتّفق وأطروحة هنتنغتون، ما يعني أن غالبيتهم كذلك. كما فإن هذه الأطروحة قد شكلت خلفيّة جميع الرؤساء الأميركيين وإداراتهم، سواء كانوا ديمقراطيين أوجمهوريين. فعدوان خليج الخنازير وأزمة الصواريخ الكوبية قد حصلا في عهد جون كنيدي الديمقراطي. ولعلّ شحن بوتين لصواريخ نووية إلى فنزويلا إن هو إلا استعادة لما فعله يوماً غورباتشوف مع كوبا، ونجح في حماية الجزيرة الصغيرة من الإلحاق الأميركي، بل وأبقاها شوكة مرّة في خاصرة الدولة العُظمى.
خروتشوف كان شيوعياً، وبوتين يقود نظاماً رأسمالياً قومياً، وما يحصل دليل على أن طبيعة الإيديولوجيا التي يحملها النظام لا تغيّر شيئاً في الجيوسياسية وبالتالي في المصالح الاستراتيجية. وربما تكون فرصة روسيا في الانزراع في فنزويلا اليوم، هي أفضل ردّ على الانزراع الأميركي في أوكرانيا، وربما ردّ مُسبَق على مؤتمر وارسو، الذي يبدو وكأنه شعار شماتة بموت الحلف الشرقي الذي كان ركيزة نفوذ الاتحاد السوفياتي. لكن فترة الحداد على الحلف الذي دُفِن تحت حجارة جدار برلين قد انتهت. وأرملته قد دخلت في أحلاف جديدة أخرى، تتّجه بغالبيّتها نحو الشرق، من بحره الدافىء المتوسّط إلى بحر الصين إلى قزوين. وها هي الآن تطلّ على الكاريبي من فنزويلا. وفي هذا ما يُفسّر اصطفاف أوروبا ضدّ مادورو رغم عدم حماسها للذهاب إلى وارسو، وتوجّهها البراغماتي العقلاني نحو قراءة مصالحها مع إيران المُستهدَفة أساساً من هذا المهرجان.
في المقلب الثاني، وربما الأهم. فنزويلا ليست مجرّد دولة عادية في أميركا اللاتينية، هي مخزن النفط والغاز. وهذا ما جعل الهيمنة عليها وإلحاقها بالتكتل النفطي الأميركي رهاناً وجودياً. خاصة وأن العالم يكاد يتمحور اليوم بشكل واضح في خطين متوازيين حول الغاز. الدول المُنتجة الأساسية الآن هي روسيا، أوزباكستان، إيران، الجزائر، قطر وفنزويلا. والدول القادمة بقوّة أيضاً هي مصر، سوريا، "إسرائيل"، فلسطين ولبنان.
بحسبة بسيطة لا تمتلك واشنطن في المجموعة الأولى إلا قطر. في حين أن المجموعة الثانية ستتدّعم أكثر بانضمام سوريا المحسوم ولبنان. وإذا أضيف إلى طاولة الصراع موضوع الخطوط، فإن الرهان يشتدّ أكثر لأن روسيا أيضاً قد كسبت الشاطىء التركي. ولذلك عمدت واشنطن وإسرائيل إلى مواجهة هذا المحور بإنشاء منتدى غاز شرق المتوسّط الذي يضمّ حول إسرائيل، مصر والأردن وقبرص واليونان، بحيث تعوّض الدول الثلاث مساحة شاطئ المتوسّط الذي كسبته روسيا وإيران، وبحيث تتحوّل اليونان إلى موقع تخزين للغاز الإسرائيلي المصري على بوابة أوروبا ومن ثم إليها. وكله تحت هيمنة إسرائيلية – أميركية. وهذا ما يُفسّر الضغوط المُتزايدة على لبنان، وجولة بومبيو وإفشال القمّة الاقتصادية ومنع تشكيل الحكومة .
غير أن الحلقة الأكثر إزعاجاً تبقى في فنزويلا حيث كان الأميركي يُراهن على أن تلحق كراكاس بالبرازيل التي ارتمت فوراً في الحضن الإسرائيلي، خاصة وأن الحصار الاقتصادي ونجاح خفض أسعار النفط قد أوصلا البلاد إلى أزمة خانقة بسبب اعتماد اقتصادها على النفط بنسبة 96 بالمئة، كما جاءت ضغوط صندوق النقد الدولي لترفع منسوب الضغوط. لكن الانتخابات فاجأت الجميع بعودة مادورو، فانطلقت الحملة المسعورة التي لم تختلف شعاراتها وأساليبها عمّا حصل في سوريا. الإعلام المُتأمرك عن المعارضة بمُصطلح "الشعب الفنزويلي " وكأن الذين انتخبوا الرئيس ليسوا من الشعب، إما الرئيس فهو " غير شرعي" ولا يمثل الشعب. وبالمقابل يتمّ في الخفاء تنظيم مؤامرة انقلاب وتحضير رجل يضطلع بموقع مُحدّد وإعلانه رئيساً، بعد جولات له في أميركا والشرق الأوسط. تسارع الأنظمة الخاضعة للهيمنة الأميركية في أميركا اللاتينية للاعتراف به، كما فعلت معظم الدول العربية إزاء سوريا، بل ويتجمّع من جديد "أصدقاء سوريا"، بمّن فيهم الأوروبيون، لدعمه، ومنحه الشرعية كما فعلوا مع برهان غليون الذي صدّق دوره وراح يُلقي خطبه من على مكتب وراءه العَلم السوري، كأيّ رئيس دولة. وكما احتل أحمد الجربا مقعد سوريا في الجامعة العربية في دورة قطر. من دون أن تختلف شعارات الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان التي فقدت قدسيّتها إذ أصبحت صلصة تُروى بها جميع الأطباق الأميركية.
المهم. أين أصبح كل هؤلاء؟ وأين يصبح أمثالهم في فنزويلا غداً؟ وماذا سيحقّقون غير إيذاء بلادهم وخنقها؟ هي عُقدة الرِهان الصعب على تشكّل عالم جديد، تحاول أميركا – ترامب وحلفاؤها مقاومته ولكنها كلما دخلت فيه رهاناً صعباً وخسرته كلما عجّلت من تبلوره.