تحديات تركيا في سوريا
المرحلة القادمة من أكثر المراحل التي يمكن وصفها بأنها مصيرية لتركيا وحزب العدالة والتنمية، فاشتداد الصراع بين واشنطن وموسكو وضيق مساحات المناورة الميدانية سيُجبِر أنقرة التخلّي عن وسطية التموضع نحو أحد القطبين، هذا إن لم يتغيّر هذا التموضع نتيجة التغييرات الداخلية في حال انقلاب المشهد في السلطة ووصول المعارضة إلى السلطة.
يبدو أن المشهد السياسي والظروف الإقليمية وما شهدته من مُتغيّراتٍ وتطوّراتٍ مُتسارِعةٍ، وضعت تركيا أما مُفترق طُرق، بعد أن حاولت الأخيرة الحفاظ على تموضعها الوسطي ما بين القوى الكبرى، فهي لم تبد أية رغبة بالتخلّي الكامل عن روابط علاقاتها مع الغرب، ولكنها لم تندرج تحت طوعية وتوجّهات أوروبا ولم تصل إلى حد العداء المباشر مع الولايات المتحدة الأميركية بالرغم مما تنتهجه من سلوكٍ نديّ سياسي في بعض الملفات الشائكة.
ورغم اتهام أنقرة لواشنطن في أكثر من توقيت سياسي بالعَبَث بأمنها الداخلي (محاولة الانقلاب في تموز2016) أو بخلخلة نظامها الاقتصادي، بذات الوقت فإن تركيا تقترب من روسيا وإيران وتُمتّن علاقاتها مع دول آسيا الوسطى والصين بما يُحقّق مصالحها ويُفعّل تأثيرها ونفوذها، مُستثمرة خارطتها الجغرافية لتحسين تموضعها ودورها السياسي أولاً وزيادة مقوّمات قوّتها واستقلاليتها ثانياً، وبخاصةٍ أن تركيا استندت في تحسّن هذا التموضع السياسي إلى عاملين:
الأول: استغلال ما ترتّب من هامش مناورة أو مساحة خلقها تصاعُد وتيرة الصِراع الأميركي الروسي ومُسارعة كل من الدولتين إلى جَذْبِ تركيا لصالحها وضمن اصطفافها بما من شأنه تغيير موازين القوى نتيجة أهمية موقعها وأهمية تأثيرها.
الثاني: تدخّل تركيا في معظم الأزمات والملفات الإقليمية وهذا كان نتيجة اقتراب الموقع الجغرافي التركي وتمركز قيادة الإيديولوجية الإخوانية في أنقرة.
مؤشّرات القوّة هذه التي امتلكتها تركيا خلال الفترة السابقة أصبحت اليوم عبئاً بدأ يرتدّ عليها بشكلٍ سلبي وبخاصةٍ في ظلّ عدم القدرة على تنفيذ كامل أجنداتها الخارجية، الأمر الذي منح حلفاءها في الطرفين المُتناقضين، أدوات تأثير عليها. بمعنى آخر تشهد تركيا اليوم واقع تحوّلها من فاعِلٍ سياسي مؤثّرٍ على المستوى الإقليمي إلى فاعٍلٍ مؤثَّر به، نتيجة ارتداد سلبية توجّهاتها الخارجية على سياستها الداخلية، الأمر الذي يضع تركيا بصورةٍ عامةٍ وحزب العدالة والتنمية بصورةٍ خاصةٍ أمام تحدّيات في مواجهة التحوّلات والتطوّرات على الصعيدين الداخلي والخارجي، والتي قد تؤثّر بصورةٍ أو بأخرى في منظومة الحُكم وشكله وتوجّهاته مُستقبلاً.
أبرز هذه التحديات والتي تمثّل انعكاساً حقيقياً لسلبيات السياسة الخارجية التركية خلال السنوات السابقة وبخاصةٍ منذ اندلاع ما يُسمّى "الربيع العربي" هي التحديات المُتمثّلة داخلياً، والتي تنقسم بدورها إلى شقّين:
1- الشق الأول يمكن تسميته بالداخلي-الداخلي، والمتعلّق ببنية حزب العدالة الآخذة بالتصدّع. نتيجة التوجّه التسلّطي لرجب أردوغان وانفراده باتخاذ القرارات واتباعه سياسة الإقصاء لكافة النُخَب والقيادات الحزبية، والتي تشكّل محور تهديد له داخل الحزب والسلطة في آنٍ واحد، وهذا كان له بالغ الأثر إلى جانب تردّي الأوضاع الاقتصادية وتضييق الحريات في الصفعة المؤلمة التي تلقّاها أردوغان وحزبه أثناء الانتخابات المحلية الأخيرة، وبخاصةٍ الانتخابات المُعادة في مدينة إسطنبول.
فما يشهده "العدالة والتنمية" من زيادة عدد أعضائه المُنسحبين (وفق التقديرات مليون انسحاب)، وتوجيه الاتهامات لأهم أركانه "أحمد غول وأحمد دواوود أوغلو بالإضافة إلى أربع قيادات" كمقدّمة لفصلهم من الحزب، يضع الحزب أمام تحدّيين الأول: مدى قُدرته على إنتاج نُخَب حزبية على مستوى هؤلاء والحفاظ على عدد أعضائه، وثانياً مدى قُدرته على التفرّد بالسلطة ومواجهة أحزاب المعارضة في حال انضمام هؤلاء إلى صفوفها أو إنشاء تكتّل وتحالف انتخابي معهم.
2- الشق الثاني من التحديات الداخلية يتمثّل في قُدرة الحكومة التركية على مواجهة تأثير أية عقوبات اقتصادية جديدة من المُحتَمل أن تفرضها واشنطن وبخاصةٍ في حال انهيار اتفاق ما يُسمَّى المنطقة الآمِنة، أو ذهاب تركيا بعلاقات إيجابية مع روسيا واحتمالية عودة علاقاتها مع دمشق.
أما على صعيد السياسة الخارجية فهناك مروحة من التحديات التي تواجه تركيا ابتداء من العلاقة مع الاتحاد الأوروبي وصولاً إلى العلاقة مع واشنطن، مروراً بمدى قُدرتها على ديمومة العلاقة مع روسيا وغيرها من التحديات المُتمثّلة في سياستها التدخّلية في الدول المجاورة وصراعها الإيديولوجي مع السعودية، وقضايا الغاز في المتوسّط والخلاف مع اليونان والتنافُس حول زيادة النفوذ مع إسرائيل وغير ذلك الكثير.
ولكن بالتأكيد فإن الملف السوري يُشكّل في هذا التوقيت أبرز التحديات أمام أردوغان، ولاسيما أن الأمن الداخلي التركي أصبح وسط دائرة الاستهداف المُحتَمل نتيجة تأثّره بالأزمة السورية وتعنّت النظام التركي على ثلاثة معايير في التعامل مع هذه الأزمة، الأول رفض التنسيق مع دمشق واستمرار مُعاداتها، والثاني الرغبة في العدوان العسكري وقَضْم أجزاء من الجغرافية السورية، والثالث الاعتماد على التنظيمات الإرهابية لتنفيذ سياساتها في سوريا.
فالاستحقاقات التي تنتظر تركيا في سوريا باتت اليوم تمثّل تهديداً لها وهذا يتمثّل في:
- انتهاء الهدنة المُتفّق عليها بين بوتين وأردوغان من دون قدرة أنقرة على تنفيذ التزامها بحل هيئة تحرير الشام وفتح الطريقين الدوليين (أم4,أم 5) سيُضعها أثناء اجتماع رؤساء الدول الضامِنة لمحادثات أستانا في موقف مُحرجٍ أمام الضامنين الآخرين، وهذا سيدفعها إما لتقديم تنازلات أو القبول بالأمر الواقع في ما يتعلّق بتشكيل اللجنة الدستورية، وكذلك بالاستمرار في العمل العسكري للجيش السوري، وهذا سيشكّل عبئاً أمنياً عليها سواء بإقدام التنظيمات الإرهابية على عملياتٍ انتقاميةٍ منها داخل خارطتها الجغرافية، وهذا السلوك سيكون مدعوماً سعودياً وإماراتياً كرغبةٍ بالانتقام، أو قد يدفع واشنطن إلى إعادة تأثيرها على هذه المجاميع لاستهداف أي اتفاق أو تنازل تركي مُحتَمل مع روسيا حول إدلب، من دون أن نغفل أن تركيا قد تسعى إلى كسب المزيد من الوقت أثناء هذا الاجتماع لمعرفة مصير اتفاقها مع أميركا حول ما يُسمّى المنطقة العازِلة، والذي من شأنه في حال نجاح تنفيذه أن يُعيد توحيد الجهود مابين الطرفين للتوجّه نحو إدلب والقيام بعملياتٍ ضد الجيش السوري عبر المجموعات المسلّحة و"قسد" لاستعادة ما تمّ تحريره، أو أن يزيد من التعاون التركي الروسي في حال فشله.
- وهذا يقودنا إلى الاستحقاق والتحدي الثاني والمُتمثّل في ما يُسمَّى المنطقة العازِلة أو الآمِنة، والخاضِعة بطبيعة الحال للتجاذب الأميركي التركي القائم على تناقُض المصالح والأهداف والغايات لهذه المنطقة، ويبدو حتى هذه اللحظة أن هذا الاتفاق هو "هشّ" وما يؤكّد ذلك إقرار أردوغان باختلاف الرؤى والمصالح بين الدولتين حول هذه المنطقة والتهديدات التركية المستمرة باللجوء إلى خططٍ وخياراتٍ خاصةٍ بأنقرة أي (العمل العسكري المباشر)، وهذا قد يُكلّف تركيا الكثير من الأثمان البشرية والمادية، وخاصة أن واشنطن قد تُقدِم على فرض عقوبات اقتصادية بشكلٍ أوسع كما هدَّد الرئيس الأميركي دونالد ترامب سابقاً، فضلاً عن تحرّك عناصر حزب العمال الكردستاني التركي في الجنوب التركي، والخسائر الفادِحة التي قد يتلقّاها الجيش التركي مع حلفائه من ميليشات غصن الزيتون ودرع الفرات نتيجة امتلاك "قسد" لأسلحةٍ نوعيةٍ وخبرة قتالية امتلكتها خلال السنوات السابقة، واحتمالية تعاون الأخيرة مع دمشق للتصدّي لهذا العدوان ووقوف روسيا وطهران إلى جانبها.
- أما الملف الثالث فهو ملف اللاجئين السوريين، والذي شكَّل طيلة سنوات الحرب على سوريا أداة استثمار وابتزاز سياسية واقتصادية بغطاءٍ إنساني من قِبَل أنقرة، فالأخيرة رغم أنها حصلت على دعمٍ دولي (6.6 مليار يورو) من أوروبا وحدها، ورغم تجنيسها لقرابة 90 ألف سوري من أصحاب الكفاءات العقلية ورجال الأعمال، وتوظيف قسم لابأس من اللاجئين البقية بضمّهم إلى التنظيمات الإرهابية، هي تحاول اليوم أن تستخدمهم كحصان طروادة لإقامة ما يُسمَّى المنطقة الآمِنة، وتقديم وعود لهم ببناء كتل ومنظومة اجتماعية تعتمد على الرفاهية الاقتصادية على غرار ما فعلته شمال قبرص 1974، وربطهم بالولايات التركية كمُقدّمة لدفعهم بعد إحداث التغيير الديموغرافي للمطالبة بالاستقلال عن دولتهم الأمّ سوريا، هذا الملف قد يتحوَّل إلى قنبلةٍ موقوتةٍ تفجّر الأوضاع الداخلية التركية.
وخاصة في حال استكمال الجيش السوري عملياته في إدلب أو في حال عدم ترجمة الاتفاق مع واشنطن ، ففي كلا الحالين تركيا ستعاني من ضغط كتلة بشرية لديها ولاسيما في حال توقّف تقديم الدعم الدولي والأوروبي.
المرحلة القادمة من أكثر المراحل التي يمكن وصفها بأنها مصيرية لتركيا وحزب العدالة والتنمية، فاشتداد الصراع بين واشنطن وموسكو وضيق مساحات المناورة الميدانية سيُجبِر أنقرة التخلّي عن وسطية التموضع نحو أحد القطبين، هذا إن لم يتغيّر هذا التموضع نتيجة التغييرات الداخلية في حال انقلاب المشهد في السلطة ووصول المعارضة إلى السلطة.