الأسرة ودورها السياسيّ

لم يحظَ دور الأسرة في التنشئة السياسية بالاهتمام الكافي عند الباحثين بقدر ما كان الأمر مركّزاً على تكوينها ودورها الاجتماعي في حفظ النسل والدين وتنمية القيم. فالأسرة هي النواة النووية للمجتمع التي تتسم بقيم الوحدة والتكامل والتفاضل. وبدون البناء الأسري ينفرط عقد المجتمع وينهار..

تفيد الدراسات أن ثمة علاقة ارتباط بين آراء الشباب السياسية وما مرّوا به من خبرات في فترات طفولتهم
وإذا كانت التربية السياسية تهدف إلى تعزيز الاتجاهات والقيم والمواقف اللازمة للمشاركة السياسية فان تحقيق الهدف يتطلب وسائط ومؤسسات وأجهزة يتم عبرها تربية وتنمية الاتجاهات والقيم والمواقف. ومن هنا تأتي أهمية الأسرة باعتبارها مكون أساسي شديد الأهمية من بين الوسائط الأخرى في تنمية الفرد سياسياً واجتماعياً ونفسياً وجسدياً.

وتأتي المسؤولية الأسرية في تربية أبنائها سياسياً من عدة أمور: منها الناحية القانونية حيث جاءت شرعة حقوق الإنسان فيما يعرف بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة مطالبة بوجوب منح الأسرة أوسع حماية ومساعدة ممكنة حيث أنها الوحدة الاجتماعية الطبيعية في المجتمع بحكم تأسيسها وأثناء قيامها برعاية أو تثقيف الأطفال القصرين.وتفيد بعض الدراسات أن الأسرة يمكنها أن تشجع الطفل على المشاركة السياسية عندما يكبر إذا اشركته فيما تتخذه من قرارات تخصها. كما لوحظ أن الوالدين النشطين سياسياً أو ذوي المكانة الاجتماعية والاقتصادية المرتفعة يكون أولادهم إيجابيين سياسياً.

وتفيد الدراسات أن ثمة علاقة ارتباط بين آراء الشباب السياسية وما مرّوا به من خبرات في فترات طفولتهم، وان الخبرة المبكرة بالمشاركة تجعل الفرد يحس بالكفاءة السياسية وتمده ببعض المهارات الضرورية للتفاعل السياسي وغرس الاتجاهات العامة. وتقوم الأسرة بهذه المسؤولية من خلال اللغة والحفاظ على المفاهيم الحضرية خاصة إذا كان التوجه السياسي إسلامياً. لذا على الأسرة تهيئة جو من الحب والامتنان والاحترام المتبادل بين الآباء وأطفالهم وإصباغ نوع من الصفات والروح الإيجابية داخل البيت، وفي العلاقة بين الأب والأم، وفي تبادل الأحاديث الودّية، ومشاركة بعض الألعاب معا، وعدم الإفراط في إصدار الأوامر، وإحساس الطفل أنه صديق وصاحب، والتقليل من الأوامر والنواهي التي لا ينبغي أن تفرض إلا عند الضرورة.

وينبغي أن يحرص الوالدان على مكافأة السلوك الحسن للطفل من خلال المديح والابتسامة والمكافآت المادية المباشرة حين يقوم بالمساعدة في تحضير الطعام وترتيب وتنظيف الغرفة مثلا أو حين يشارك الوالد في أعمال محددة. ويفترض إتاحة الفرصة للولد أن يكون حرّا مستقلا في رأيه دون إكراه، وإفساح المجال له في التعبير عما يختلج في صدره. وهي عوامل تساعد على طرد القلق والخوف والغضب والخجل، وتنمي الثقة في الذات، وتخلق الشخصية المستقلة وتبرز روح المشاركة الاجتماعية وتبعد الطفل عن الانطواء والانزواء وتحميه من الأفكار السلبية تجاه العائلة والمجتمع والحياة.

ثم إن الترتيب والحفاظ على الوقت وتناول الطعام في أوقات محددة ووضع قوانين في النظافة وأوقات النوم والدراسة ومشاهدة التلفزيون تربي الطفل على احترام القانون والالتزام به والتخطيط له والاستفادة قدر الإمكان من الوقت المتاح له بشكل منظم.

كما أن السلوك المنظم يساعد على التفكير المنظم عند الطفل. ‏وهكذا يكتشف الطفل أن العمل المتقن هو السبيل الوحيد للنجاح وان الحياة لا يمكن أن تستقيم بدون عمل متقن وان المثابرة في إنجاز الأعمال وهو صغير يجعله يقدّر الإنجاز والعمل والالتزام عندما يكبر. ومن شأن عدم التمييز بين الأطفال في تلبية حاجاتهم ورغباتهم وعدم تفضيل لأحدهم على آخر داخل الأسرة الواحدة أن يخلق في نفس الطفل الاحترام للمساواة والعدل والإنصاف وعدم المحاباة، وان الجميع يفترض أن يملك فرصا متساوية سواء في المعاملة أو في التلقي.

ومن المؤكد أن يساعد تطابق الأفعال الأقوال عند الآباء، الطفل على التخلص من النفاق الاجتماعي والنفاق السلوكي، ويدرك أن القيمة الحقيقية للأخلاق تتمثل في تطابق الفعل للقول، وان الاحترام والتقدير والشجاعة تنشأ من مدى صدق المرء وانسجامه بين طرحه وسلوكه. وهذه القيمة هي أكثر ما يحتاجه المرء لما يكبر، ويزاول العمل السياسي كونه من أكثر المجالات تعرضا للنفاق الاجتماعي والسياسي.

وفي تنزيل هذه الأمور على واقعنا العربي نجد أن الواقع الثقافي للشاب العربي في الواقع هو هشّ وضعيف للغاية. ويفيد الاستقراء للمجتمعات العربية من الناحية السياسية أن هناك نوع من اللامبالاة السياسية بين الأفراد مع انخفاض في درجات المشاركة السياسية نتيجة العلاقات السلبية بين الشعب والنظام السياسي القائم. يضاف لذلك معاناة الجيل الحاضر من قلّة الثقافة السياسية وضعف الانتماء الوطني ‏والميل للتنصل من المسؤوليات والرغبة في الهجرة. ومن المؤكد أن دور الأسرة العربية في التربية السياسية من الناحية الواقعية للطفل هو أمر محدود للغاية ومتواضع. وتعاني الأسرة العربية من بعض السلوكيات الخاطئة مثل الخوف والحماية الزائدة للشاب ما يحول دون بناء شخصية سياسية مستقلة له أو تلقينه سلوكيات خاطئة مثل السلوك الاستبدادي نتيجة تسلط الأب داخل الأسرة.

وهذه الأحوال مجتمعة خلّفت فراغاً سياسياً مهولاً بين شرائح الشباب وداخل المجتمعات العربية. وينعكس ذلك وضوحا في مستويات المشاركة السياسية والانخراط في الأحزاب وقصور في الوعي القومي العربي بالقدر الذي يمكن الشاب من المشاركة في أحداث المجتمع أو في خلق الرؤية الواضحة حول الإجراءات السياسية المناسبة أو تزويده بالمخاطر الناجمة عن عدم التأثير على القرارات التي تتخذها الحكومات سواء على المستوى المحلّي أو الإقليمي أو الدولي.