عن الروح التي هي من أمر ربي
لا شك في أن أدولف هتلر كان سفّاحاً، وديكتاتوراً، ويتصرّف بشكل يوحي بالخلل العقلي.لكنه ليس السفّاح الوحيد في عصره، مشكلة أدولف هتلر مُعقّدة بعض الشيء، هو سفّاح، وكذا كان أعداؤه الذين دخلوا معه في حرب عالمية، هو عنصري، وكذا كان أعداؤه، خطابه كان يُداعب المشاعر القومية والعِرقية، وكذلك فعل أعداؤه إلا أن تصريحاتهم العنصرية تم التعتيم عليها.
كان من بين قيادات الحلفاء: وينستون
تشرشل، الذي ارتكب الفظائع في الهند وجنوب إفريقيا، معلّلاّ ذلك بمقولة شهيرة وبسيطة: الرجل الأبيض المُتفوّق يقوم بغزو البدائيين ذوي البشرة الداكِنة ليجلب لهم
منافع الحضارة الإنسانية، وستالين، الذي لا يمكن حَصْر جرائمه في
مقال، ويمكن العودة لتاريخه الدموي بالبحث على الشبكة العنكبوتية التي وفّرت أسعار
الكتب على القارئ. أما القيادة الأميركية في الحرب فكانت من نصيب "الديكتاتور" الأميركي فرانكلين روزفلت، الذي إلى
جانب عُنصريّته ضدّ "الملوّنين"، كان قد وضع
خطة كاملة للسيطرة على جميع مؤسّسات الدولة ووضع كل خيوطها بين يديه. الأمر لا يحتاج إلى التذكير بجرائم فرنسا في الجزائر، على تعاقُب قياداتها،
وفي أثناء اندلاع الحرب العالمية، كما لا حاجة لنا أيضاً لذِكر حقيقة أن الحرب لم
تُحسم لصالح الحلفاء إلا بعد أن ألقت الولايات المتحدة الأميركية قنبلة ذريّة على
اليابان، مُتسبّبة في كارثة إنسانية يحصد اليابانيون نتائجها حتى الآن.
إذن، فأدولف هتلر، هذا السفّاح، المُجرم، العُنصري، الديكتاتور، المُختلّ،
الذي لا ينكر جرائمه عاقل، لم تكن مشكلته أنه يتّصف بكل ما سبق، لأن جميعها صفات
تنسحب على مُبارزيه في الحرب بلا استثناء واحد، مشكلته أنه مهزوم، هذا المهزوم،
الذي كان في يوم من الأيام يُهتَف بحياته، من قِبَل مؤمنين به حقاً، فلم يكن
جميعهم خائفين، كان منهم مؤيّدون مُخلِصون مؤمنون، لم يهزم لأن "الحق هو الذي ينتصر في النهاية" كما كانت
الأفلام السينمائية وقصص الجدّات تردّد على مسامعنا، الحقيقة أن هتلر هُزم لأنه لم
يكن سفّاحاً بما يكفي، وفي حرب كهذه، الأكثر وحشية هو من يحقّق الانتصار، ولم يكن
الانتصار ليتحقّق لولا قنبلة ذرية ألقيت على رؤوس أبرياء، ولو أن هتلر هو مَن ألقى
هذه القنبلة على فرنسا مثلاً، لحُسِمَت الحرب لصالحه، ولأصبح كل من روزفلت وتشرشل
وستالين وغيرهم من قيادات الحلفاء، مضرَب الأمثال وعِبرة لمن يعتبر حتى قيام
الساعة.
هذه هي الإنسانية القاسية، هكذا يرى الإنسان الأمور، ولا أجد مفرّاً من
إشارة أخرى لشِعر والدي الشاعر أحمد فؤاد نجم، الذي لم يترك حكمة إنسانية لم
يلخّصها ببراعة (وكتاب الله مش عشان أبويا أنا باقول الحق)، حين قال: فالقاضي تبع البتاع.. فالحق
ع المقتول. الجدير بالذكر أن السكان في هذه المنطقة البائسة التي نقطنها، منطقة الشرق
الأوسط، كانوا يدعمون أدولف هتلر في الحرب، ليس حباً فيه، ولا تأييداً لجرائمه، لكن
رغبة في الخلاص من كابوس الاحتلالين البريطاني والفرنسي. عادة ما يذكر "المُثقّفون" الصهاينة هذه
الحقيقة، بوصفها وصمة عار على جبين العرب الذين أيّدوا الفاشية والنازية في الحرب
العالمية الثانية، بينما أيّدت "الجماعات الصهيونية" – والتي كانت داعش عصرها كما ذكرت في المقال السابق – فريق "الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان" وساعدت دول المحور في الانتصار على النازي!
يمكن أن نتفّهم تأييد يهود العالم في العموم، والجماعات الصهيونية على وجه
الخصوص، لدول المحور في إطار عدائها مع الحزب النازي الذي سامهم سوء العذاب، كما نتفّهم
تأييد العرب لهتلر في إطار عدائهم لبريطانيا وفرنسا، لكن ما لا أفهمه هو هذا
التبجّح وتزوير الحقائق التاريخية،
وادّعاء أن فريقاً كان يُنكّل بالأفارقة والهنود والعرب على خلفية عرقيّتهم ولون
بشرتهم، هو فريق "الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان" لمجرّد أنه كافأ قتلة مرتزقة من الجماعات الصهيونية بإنشاء دولة على جثث
أصحاب الأرض الأصليين. تصدّقوا أنا عبيطة.. لا أفهمه ليه؟ أما أنا مفهوميّتي على قدّي فعلاً.. لماذا لا أفهم هذا التبجّح الصهيوني وهم قد أنشأوا دولة قوامها التبجّح
بالأساس؟
المهم.. خلينا في موضوعنا. بؤرة الحديث، أن الإنسان بطبعه ظالم، وأحكامه مُجحِفه، وكتابته للتاريخ مُزيّفة. هو يكتب لصالح المُنتصِر دوماً، فالمنتصِر بطل، وإنسان، وعظيم، يُطلق اسمه على الشوارع والميادين والمطارات والفنادق، والمهزوم مجرم، وقاتل، وحمداً لله أن الإنسانية قد تخلّصت منه. المشكلة الأكبر أن الحروب لا تعرف الأخلاق برغم كل الطنطنات الأخلاقية التي تحيط بها منذ فجر التاريخ، وعلى المُحارِب إذا أراد الانتصار أن يلقي بخلعة الأخلاق بعيداً، ويغوص في القتل ثم القتل ثم القتل، بشكل وحشي، وجماعي، غير انتقائي. ثم يتفرّغ بعدها لتزييف التاريخ، وسيجد الملايين تهتف بحياته، وتردّد أكاذيبه من خلفه. هكذا الحروب، لإن الحرب في حد ذاتها جريمة، لن تفلح في تزيينها المواثيق والقوانين والإعلانات العالمية للحقوق، بل لن تفلح في تزيينها النصوص الدينية، والهدف الرئيسي من الحرب هو تحقيق مكاسب عبر القتل، لا وسيلة أخرى للحرب سوى القتل.
إذن، كيف يتصرّف الناس إذا أرادوا استرداد حقوقهم بالدفاع عن أنفسهم من دون
أن يقوموا بتلويث أيديهم بدماء الأبرياء؟
هذا سؤال مطروح منذ الأزل ليس له إجابة سوى "الصمود"، وقد يكون الصمود في حد ذاته انتصاراً. فالذي يريد أن ينتصر في الحرب لن يتمكّن من تحقيق نصره إلا بكسْر الروح قبل
إرسالها إلى بارئها، فليس على المقاوِم سوى حماية روحه من الانكسار حتى يلاقي ربه،
وكلنا ملاق ربه، قاتلاً كنا أم مقتولاً، هذه الحقيقة، حقيقة الموت الذي لا مفرّ
منه، هي التي تدعم روح المُعتدَى عليه، وتحفظ روحه من الانكسار. قد يقول قائل مُتقمّصاً أداء مرتضى منصور: طيب حميت روحي من الانكسار وبعدين اتقتلت؟ أنا كده استفدت إيه؟
الواقع أن الصمود هو البوابة الوحيدة التي يدخل منها الضعيف إلى النصر، فكما أن القوي ليس لديه خيار لتحقيق نصره سوى الإغراق في الوحشية والدموية، فإن الضعيف ليس لديه خيار سوى الصبر والصمود والثبات، الخيار الأخير هو الذي حوّل الكثير من المُستضعفين إلى أيقونات يتشبّث بها ضعفاء العالم، وتعلو الزرقة وجوه الأقوياء حين يُلقى بهذه الأيقونات في أعينهم، لا يستطيعون أمام بسالتهم في الصمود سوى أن يصمتوا مُكرَهين، وبهذه المناسبة، الفاتحة بقى لسيّدنا المسيح وسيّدنا الحسين، أيقونتا الضعفاء، ومنازلا الأقوياء في كل عصر وأوان.