أميركا في العراق

إن هدف أميركا ساطع بأن تكون الأوضاع في الموصل والرقة أسوأ بعد داعش من الحالات قبل داعش، وذلك لإعادة إنتاج المُعاناة نفسها، واستثمارها في التدوير السياسي – الاجتماعي لمربّع الأزمة الخانِقة. وما يحدث عملياً هو مطاردة لَعينة بين نشاطات وزارة الخارجية الأميركية السياسية وأذنابها وفعاليات البنتاغون العسكرية وكتائبه المسلّحة في المناطق الحدودية بين العراق والأردن وسوريا. وذلك للتشابُك الاستراتيجي الحاصل راهناً بين الانهيار الجيوسياسي الإقليمي الناجم عن الانحدار المتواصل للهيمنة الأميركية، والتفتّت الديموغرافي الداخلي والذي هو ثمرة مرّة من شجرة الانحطاط الجيوسياسي.

منذ نهاية نيسان/أبريل 2011 ومُساعِدة وزير الدفاع الأميركي في حينها تكرّر بأن البقاء الأميركي في العراق هو جزء من "فك الإرتباط" الإيراني عن المنطقة
منذ نهاية نيسان/أبريل 2011 ومُساعِدة وزير الدفاع الأميركي في حينها "ميشيل فلورنوي" تكرّر بصراحة فاقِعة، بأن البقاء الأميركي في العراق هو جزء من "فك الإرتباط" الإيراني عن المنطقة عموماً والحِراك السياسي العربي خصوصاً. وليس مغامرة في التحليل إذا ما حدّدنا آلية تنفيذ هذه الإستراتيحية الافتراضية، هل البقاء هو أسلم الحلول للمغادرة اللاحقة أم الخروج ، من قِبَل إدارة أوباما، هو أفضل الطرُق للرجوع ، من قِبَل إدارة دونالد ترامب، في الزمن الملائم.

 

بيد أن الغموض "الواضح" الأميركي لا يماثله سوى الوضوح "الغامض" للنُخَب العراقية المنخرطة، أو خارج، في العملية السياسية والتي على العموم تهتم بمصالحها الخاصة وتتلاعب بالعامل الشعبي، ودوره المرسوم في تفتيت النواة الصلبة في مواجهة التدخّلات المضرّة لتركيا ودول الخليج. وقد أصبحت هذه التدخّلات جزءاً من الزجل السياسي اليومي، والذي يؤكّد بأن أخطاء الشارع العفوية هي انعكاس ومُكمّل أيضاً لخطايا المُحاصصة في تقسيم السلطة والثروات الطبيعية.

 

لكن الخبير الإستراتيجي "هال براندس" في معهد الأبحاث للسياسة الخارجية في أميركا، كان قد أشار إلى هذه الحال "الغامضة" في شباط 2016، وأعتبرها جزءاً من السياسة العامة الدولية التي "لابدّ" أن تنتهجها أميركا وبغضّ النظر عن الإدارة الحاكمة. وهو يعتقد بأنها ضرورية من أجل وقف انحدار الهيمنة العالمية لأميركا، وهي حيوية جداً بغية الحفاظ على مصالحها الجيوسياسية في العراق وسوريا من جانب، وتجنّب الصِدام العسكري المباشر مع روسيا من الجانب الآخر. وقد أعاد تسميتها السوقية ، العراق وسوريا تحديداً،  بكونها "مناطق رمادية" تمتصّ زُخم الخلافات السياسية والمُقاربات العسكرية في حُقبة ما بعد الحرب الباردة وانتظار نضوج صعود نظام عالمي جديد. 

 

ويمكن تلخيص هذه الأفكار بكثافة كما يلي: 1/ المنطقة الرمادية تكشف قوة وضعف النظام العالمي. روسيا الصاعدة أقوى من الاتحاد السوفياتي الغائب، لكنها عاجزة عن الحسم مع الغرب في تدهوره "المُتدرّج" والذي هو أضعف من السابق في فترة الإحتواء. 2/ ضرورة استمرار حروب الأقوياء ضدّ الضعفاء مع هامش ضئيل لهؤلاء. 3/ إنها هبّة رياح فائضة من الماضي وإعصار أمواج نحو المستقبل. 4/ إنها لايمكن أن تعتني بأيّ شيء لأنها أصلاً لا تعني أيّ شيء. هي قانون الاضطراب السائد وحماقة العقل المُتنحّي. 5/ إنها تمتاز بإشعاع فتّاك في الصراع بين حدّين: الأول هو احتضان الغموض والثاني الجهد لإزالته. 6/ إنها عدوانية بنظر السائر نحو السلام ومسالمة في رأي صقور الحرب وعشّاق الفناء. إن الوسائل العسكرية والمفاوضات هي جزء من غلالة البراءة وامتداد لطهارة الاستجابة. 7/ روسيا، أميركا، كل منهما ليست فقيرة في العدّة والعديد، ولكن ليست جاهزة بالكامل، لعناق الجحيم. لأول مرة يبدو الجانب "الأنسي" من الحياة يتفوّق على الجانب "الوحشي" منها ضمن أكاذيب الإعلام المُبرمَج. 8/ إن المنطقة الرمادية هي حرب جديدة هجينة، يمكنها أن تكون مُنتجة ومُنتجة مُضادّة في آن واحد، وتتضمّن أنواعاً من الحروب المختلفة في أصولها الانثروبولوجية. إن مَن ينظر في "المرآة" هو الذي يتجنّب تكاليف تهدّم المعبد.!

 

لكن مهلاً ، فإن المداميك التي تحتوي هذه الأطروحة، الغموض السياسي ، الوضوح العسكري ، العدوان المستمر والانخراط المُتقطّع المُسبَق الصنع في المفاوضات السياسية والخفية، لها صلة تكتونية مادية مباشرة بالمفهوم المقلوب، والذي يختصر تعبوياً بأن الحرب هي التي تقود السياسة وليس العكس تاريخياً. إن تداخل المواقف السياسية اليومية لا يلغي استقلاليتها ولكنه يثبت حضورها في سياق واحد عضوي مُتصل. وإن انتشار القوة العسكرية الأميركية حالياً من الموصل إلى الرقة وحتى الجبهة مع الأردن، يُثبت بلا شكّ بأن التنوّع الفكري لدى المؤسسة الأميركية الحاكمة ، نعثر على سيولته السياسية في إدارة "دونالد ترامب" الراهنة وأن قرع طبول الحرب العدوانية على العراق وسوريا له علاقة مباشرة بالرؤية الأميركية العامة لمصير ما يُسمّى "الشرق الأوسط" ومكوّناته الجيوسياسية – التاريخية.

من هنا، يحاول البنتاغون وفرسان رؤيا "أميركا أولاً" في إدارة "ترامب"  أن تكون المعارك ، العدوان،  ضمن حملة إعلام مموّهة وعملاقة في: 1/ الاعتناء بالجدوى التقنية والدعاية لها، 2/ إبراز الوجاهة المعيارية في الحسابات اليومية، 3/ محاولة الحدس السياسي بتعقيدات الحاضر الذي قد يؤدّي إلى تركيبات المستقبل. لكن استمرار المعارك حامية الوطيس لمدة غير محدودة لم تخفِ خطل المساعي الأميركية السياسية، وإنما الأمر الحاسم هو الخطأ الاستراتيجي المُتعَمّد في الفصل دائماً بين التدخّلات العسكرية والمُقاربات السياسية. فالفجوة بين الكيانين تعطي قوة المناورة للسيطرة على المشهد الإعلامي، وتلبّي الغرائز السياسية في احتواء كل أطراف الصراع وتدجينهم سياسياً. 
إن هدف أميركا ساطع بأن تكون الأوضاع في الموصل والرقة أسوأ بعد داعش من الحالات قبل داعش، وذلك لإعادة إنتاج المُعاناة نفسها، واستثمارها في التدوير السياسي – الاجتماعي  لمربّع الأزمة الخانِقة. وما يحدث عملياً هو مطاردة لَعينة بين نشاطات وزارة الخارجية الأميركية  السياسية  وأذنابها  وفعاليات البنتاغون  العسكرية  وكتائبه  المسلّحة في المناطق الحدودية بين العراق والأردن وسوريا.  وذلك للتشابُك الاستراتيجي الحاصل راهناً بين الانهيار الجيوسياسي الإقليمي الناجم عن الانحدار المتواصل للهيمنة الأميركية، والتفتّت الديموغرافي الداخلي والذي هو ثمرة مرّة من شجرة الانحطاط الجيوسياسي.

المستشار الأميركي الصهيوني "مايكل دوران" في إدارة "جورج بوش" الإبن ، والفارس الذي يمتطي جواد القتل الشاحب ، يرحّب الآن بضراوة "بعودة" أميركا في مجرى عدوانها المستمر على العراق وسوريا، ويذكّرنا بقصيدة الشاعر العربي المُبدع "أدونيس" - قبر من أجل نيويورك - 1971 ، حيث يعتبرها ، هذا المفتون برؤيا تدمير المنطقة ،  بداية انحلال الغرب على يد الشرق الصاعِد.   الردّ الحاسم جاء من نائب وزير الخارجية الروسي "سيرغي ريابكوف" حين قال:   كيف  نتمكّن من إيقاظ زعماء الغرب من حال "الزومبي والقناعة السياسية العمياء التي تستولي عليهم".