ما أطاح به وَهم "حلّ الدولتين"

التناقض بين الخطاب الدبلوماسي ــ الإعلامي والسياسات الفعلية للدول الغربية، تتعدّى مجريات الأحداث السياسية. فالثابت في الأبعاد هو أن إدارات الدول الغربية تُلزم نفسها بالبحث الدؤوب عن حلول لإسرائيل وليس لفلسطين، في كل مرّة تنطق بكلمة. وفي هذا السياق يسكن الإدارات الغربية هوَس "حماية أمن إسرائيل" في محيط فلسطيني وعربي في مواجهة الاحتلال.

تراوغ الإدارات الغربية الأخرى بسبب وعيها لجرم تستمر في ارتكابه بحق الشعب الفلسطيني فتحاول غسل ذنوبها من طرف اللسان حلاوة
ما وُصف بأنه تراجع ترامب عن حلّ الدولتين أثناء لقائه بنتانياهو، ليس انشقاقاً عن سياسات الدول الغربية (أميركا والاتحاد الأوروبي) بل هو انشقاق عن خطابها الإعلامي والدبلوماسي في تداول "حلّ الدولتين". فترامب يعبّر على طريقته الفجّة عما تقوم به فعلاً الإدارات الأميركية والأوروبية المُتعاقبة. فهي تحرص في خطابها الدبلوماسي والإعلامي على رغبة بالحلّ لكنها لا تستخدم أياً من أوراق الضغط الكثيرة في أيديها لوضع رغبتها موضع التنفيذ. بل على العكس من ذلك تتمسّك بدعم إسرائيل بكل ما أوتيت من قوّة مالية وسياسية وعسكرية وتخطيط جيو ــ سياسي فتساعدها بذلك على تجويف أيّ احتمال لنشوء دولة فلسطينية في الضفة والقطاع.


يقول ترامب بعنجهية ناتئة ما تقوله هذه الإدارات المُتعاقبة بأنها تبارك حلاً يتّفق عليه الطرفان على طاولة المفاوضات من دون شروط مُسبقة، أي من دون مرجعية وضعتها الدول الغربية بنفسها. ويقول ترامب إن "توسّع الاستيطان لا يساعد على السلام"، مثلما تقوله الإدارات كلما دعت الحاجة بأن "توسّع الاستيطان من شأنه أن يقوّض حل الدولتين". وهو يتّفق مع سابقيه ومعاصريه في الأساس وفي التفاصيل بحماية "أمن إسرائيل" كما تراه إسرائيل. لكن ترامب يجاهر بعدم الاعتراف بأي حق فلسطيني انسجاماً مع معتقداته العنصرية البيضاء الفاقعة تجاه حقوق كل الشعوب "الملوّنة". بينما تراوغ الإدارات الغربية الأخرى (عدا السويد وهي الشواذ الذي يؤكّد القاعدة) بسبب وعيها لجرم تستمر في ارتكابه بحق الشعب الفلسطيني، فتحاول غسل ذنوبها من طرف اللسان حلاوة. فحين نادى الرئيس الفرنسي "بحلّ الدولتين" في الكنسيت العام 1982، كان وزيره "روبير بادنتير" يخطّط لأكبر عملية "نفض" دستوري منذ الجمهورية الثالثة. ومن بين إصلاحاته الدستورية تجريم حرية التعبير في نقد سياسة إسرائيل بتهمة معاداة السامية. وما ملاحقة حركة المقاطعة مؤخراً في أوروبا وأميركا بتهمة معاداة السامية، سوى أحد السموم التي يتباهى نتانياهو بكسبها "في الحرب" كما وصفها. وذلك على الرغم من أن الحركة هي "مجتمع مدني" بحسب القوانين الغربية وتقاطع المستوطنات التي يصفها الغرب بأنها غير شرعية وهي حركة سلمية وتضمّ خيرة أساتذة الجامعات والنشطاء وتلتزم بالنقطة والفاصلة.


التناقض بين الخطاب الدبلوماسي ــ الإعلامي والسياسات الفعلية للدول الغربية، تتعدّى مجريات الأحداث السياسية. فالثابت في الأبعاد هو أن إدارات الدول الغربية تُلزم نفسها بالبحث الدؤوب عن حلول لإسرائيل وليس لفلسطين، في كل مرّة تنطق بكلمة. وفي هذا السياق يسكن الإدارات الغربية هوَس "حماية أمن إسرائيل" في محيط فلسطيني وعربي في مواجهة الاحتلال. فمنذ عشرينات القرن الماضي حين كانت الجالية اليهودية الفلسطينية أقلّية صغيرة، ظهرت في أوروبا دعوات لإنشاء "دولة مزدوجة القومية" بشكل متميّز عما عُرف وقتها بمسألة أقلّيات الشرق لوراثة الرجل المريض في آستانا العثمانية (بريت شالوم، تحالف من أجل السلام، 1925) على سبيل المثال. ولم يكن منذ ذلك الحين ادّعاء حماية الأقلّية اليهودية الفلسطينية كسائر الأقليات الأخرى في الشرق، بل مسعى لإيجاد دولة قومية "ليهود الشتات" قبل الهولوكوست والحرب العالمية الثانية.


وليس هذا البحث في اتجاه تقسيم فلسطين إلى قوميّتين حلاً ليهود مشرّدي أوروبا بعد الحرب كما زعمت "عصبة الأمم"، بل هو بحث في تبنّي غربي "علماني" لمعتقد توراتي بشأن "شتات الهيكل" قبل آلاف السنين. وقد حاولت لجنة أميركية ــ بريطانية العام 1946 أن توزّع المشرّدين اليهود بحسب ديباجة توصياتها العشر،  على الدول الأوروبية وعلى فلسطين بمقدار رغبة بعضهم باللجوء، لكن فرنسا وبلجيكا حذفتا الديباجة وأدرجتا تعديلات على التوصيات في اتجاه تقسيم فلسطين وسرعان ما طوى النسيان الغربي والعربي عمل هذه اللجنة الدولية لمصلحة قرار التقسيم. ولم يخفت الهاجس الأمني جرّاء فكرة القومية المزدوجة أو يهودية الدولة ولا سيما بين اليهود اللاهوتيين الأكثر شهرة (مارتن بوير، دولة يهودية ــ انتحار منظّم، 1947)، لكن الصهاينة العلمانيين أكثر دهاء في جمع شراسة العدوانية من طرفها التوراتي مع المراوغة بالشفقة على الفلسطينيين في شيء تسمّيه دولة. وقد عبّرت حنّة أرنديت (مجلّة كمونتري، أيار/ مايو، 1948) عن هذه النزعة وهي شيخة مشايخ طريقة الغرب الاستعماري في مواجهة الاستبداد والشمولية وملهمة معظم دُعاة السلام في الغرب وبعض المفكّرين العرب.


التدخل الغربي بسلاح "حلّ الدولتين" اشتدّ على إثر انتفاضة جباليا ــ غزّة العام 1987 التي وأدتها اتفاقيات أوسلو العام 1993 بعد اعتراف قيادة منظمة التحرير العام 1988 بالتخلّي عن 78% من أراضي فلسطين التاريخية. ثم نشط هذا التدخل في خطاب "حلّ الدولتين" على وقع الانتفاضة الثانية العام 2000 التي سعت السعودية إلى إجهاضها في "المبادرة العربية للسلام" مع بناء جدار الفصل، إيذاناً بالتطبيع العربي مع إسرائيل والتنصّل من عروبة فلسطين. ولم تهدأ الانتفاضة قبل اتفاق الهدنة في شرم الشيخ العام 2005 وانطلاق عجلة وهم "حلّ الدولتين" في اجتماعات "أنابوليس". لكنه بحث على قاعدة التزام الدول الغربية "بحماية إسرائيل من نفسها" كما يقول بعض دُعاة السلام. وهو في إطار ما حدّده نتانياهو في جامعة "بار إلان" للاعتراف بيهودية الدولة لمزيد من الاستيطان، ونزع سلاح الفلسطينيين، والإشراف الإسرائيلي الكامل على الأراضي الفلسطينية، ما حدا بمعظم المتوهّمين "بحلّ الدولتين" إلى الإقرار بأنه ولد ميتاً. بل يذهب الكاتب الصحافي في صحيفة "هآرتس" غوغدن ليفي إلى القول "إن الفلسطينيين هم أحد أكثر الشعوب تسامحاً في التاريخ".

حين كانت منظمة التحرير حركة تحرّر وطني بادرت حركة السلم العالمية وحركة عدم الانحياز إلى مؤتمر في مصر جمال عبد الناصر ت2/نوفمبر 1968 لإطلاق فكرة دولة ديمقراطية في فلسطين "كهدف يمكن إنجازه بعد التحرير". وكلّفت حركة فتح الدكتور نبيل شعث الذي لم يكن عضواً بعد، للموافقة على الفكرة باسمها، كما يوضّح الكاتب المصري مصطفى الحسيني مسؤول الإعداد والتوجيه في الحركة حينها ومشارك في كتابة الوثيقة. (مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 76، خريف 2008). وتتقاطع هذه الرواية مع ما ذكره لي محمّد أبو ميزر (أبو حاتم) في إحدى العواصم العربية، بأن الجزائر كان لها باع قيّم في إعداد المؤتمر. فأبو حاتم استلم في دمشق أول شحنة لبناء أول قاعدة عسكرية في سوريا من رئيس قيادة أركان الجيش الجزائري العقيد الطاهر الزبيري العام 1965. ولعبت الجزائر دوراً مؤثراً في توطيد العلاقات بين ممثل منظمة التحرير في فرنسا محمود الهمشيري الذي اغتالته غولدا مائير، وبين الحزب الاشتراكي الموحّد بزعامة ميشال روكار الذي كان غريم الحزب الاشتراكي الفرنسي في مناهضة استعمار الجزائر. ولعلّ تضامن العالم الثالث مع حركة التحرّر الفلسطينية هو ما أوصل أبو عمار إلى الأمم المتحدة والاعتراف بحق الاستقلال. لكن الدول الغربية أطاحت بحق التحرّر والاستقلال ومقاومة الاحتلال، في التعويل على وَهم "السلام" بطريقة البحث عن السراب الذي يبدو قريب المنال. لكن الوَهم علّة قابلة للشفاء ككبوة جواد.