لبنان تجاوز هّز الاستقرار
لبنان يتخطى مرحلة تهديد الاستقرار بعد إعلان رئيس الوزراء سعد الحريري استقالته من الرياض.

غرق اللبنانيون منذ إعلان رئيس الوزراء سعد الحريري استقالته "الصدمة" من الرياض في 4 تشرين الثاني/ نوفمبر، ولغاية عودته إلى بيروت في 21 منه وإعلانه في عيد الاستقلال قبول تمني الرئيس ميشال عون عليه "التريث" في إعلان الاستقالة، في بحر من التساؤلات عن المستقبل وعما ينتظر لبنان في قابل الأيام وسط الغموض والالتباس الذي اكتنف الاعلان عن الاستقالة.
وفي حكم المؤكد أن الاستقالة ليست بحد ذاتها هي التي جعلت اللبنانيين يخشون على الاستقرار، وإنما الظروف التي أحاطت بها والتوقيت الذي اندرجت فيه. وعادة لا تُحدث استقالة رؤساء الحكومات في لبنان تلك الخشية على المصير، ولا تكون مدعاة لرسم سيناريوات كارثية للمستقبل، ولا تثير ذلك الهلع على المستوى الأمني أو الاقتصادي.
لكن المشكلة تكمن اليوم في أن استقالة الحريري ترافقت مع توتر إقليمي متصاعد بين السعودية وإيران، يتردد صداه من اليمن إلى العراق وسوريا فلبنان. ولعل هذا ما أيقظ لوهلة الخوف لدى اللبنانيين. إذ أن الدفع نحو تحويل لبنان إلى ورقة ضغط إقليمية من شأنه إدخال البلد في متاهة الفوضى الضاربة في المنطقة.
وساهم في نشر القلق توالي التحذيرات السعودية من أن اللبنانيين سيدفعون ثمن عدم وقوفهم في وجه "حزب الله" ودوره في المنطقة، فضلاً عن زج جامعة الدول العربية في الضغط على الحكومة اللبنانية كي تنأى بنفسها عن الحزب وإلا وجدت نفسها تواجه مصيراً مشابهاً للمصير الذي تواجهه قطر، التي فرضت عليها دول المقاطعة الأربع حظراً اقتصادياً وديبلوماسياً.
بيد أن الضغط السعودي لم يجد صداه في الداخل اللبناني الذي بدا متماسكاً في مواجهة الأزمة. من رئيس الجمهورية إلى رئيس مجلس النواب نبيه بري إلى "حزب الله" وتيار المستقبل نفسه سواء على المستوى القيادي أو على مستوى الشارع. ومنذ اليوم الأول لتقديم الاستقالة، طالب الرئيس عون بمعرفة الظروف المحيطة بها، واعتبر أن الاستقالة في الحد الأدنى يجب أن تُقدم شخصياً وليس من دولة أخرى، وحرص بعد ذلك على معرفة مصير الحريري نفسه، هل هو محتجز أو مقيد الحركة، لا سيما مع تصاعد التهديدات السعودية للبنان، وترافق ذلك مع حملة اعتقالات لأمراء ورجال أعمال داخل المملكة بتهمة الفساد. وخاض لبنان الرسمي حملة ديبلوماسية واسعة تمثلت في جولة وزير الخارجية جبران باسيل على العواصم الأوروبية لشرح الموقف اللبناني.
وأظهر "حزب الله" أيضاً خطاباً هادئاً في مرحلة سياسية دقيقة، بينما لم يلجأ المستقبليون إلى لغة الإثارة والتحريض وكان التزام بالسقف الذي حدده الرئيس عون. وكان هذا السلوك العقلاني من أبرز العوامل التي ساهمت في نزع فتيل التوتر وجعلت اللبنانيين من المرات النادرة التي يكاد يجمعون فيها على مطلب واحد ألا وهو معرفة مصير الحريري نفسه قبل البحث في المطالب السياسية لهذا الطرف أو ذاك. وانطوى ذلك، على حرص لبناني وطني على التمسك بالاستقرار الداخلي وإبعاد لبنان عن الحرائق المشتعلة في الإقليم.
وزاد من القلق اللبناني، دخول إسرائيل على خط التوتير والإشادة بالمواقف السعودية المناهضة ل"حزب الله"، على وقع سيناريوات سرت عن احتمال استغلال إسرائيل الوضع الناشيء لشن حرب على لبنان وسوريا من أجل قلب المعادلة في البلدين. إلا أن حساب الأثمان التي من الممكن أن تدفعها الدولة العبرية لقاء ذلك جعلها تفكر ألف مرة قبل اتخاذ قرار الحرب.
ومع الحصانة الداخلية التي أظهرها اللبنانيون حيال الأزمة، دخل أكثر من طرف على خط التهدئة وإيجاد المخارج. وتولت فرنسا ومصر بشكل أساسي تبريد الجبهة السعودية. وبعث الأوروبيون بأكثر من رسالة واضحة ومباشرة إلى الرياض بأن الاستقرار في لبنان يجب عدم المس به. من جهة لأن اهتزاز لبنان سيؤدي إلى تدفق موجات من اللاجئين السوريين على أراضيه إلى أوروبا على غرار ما حدث عام 2015 من تركيا، ومن جهة ثانية لأن المنطقة بدأت بعد مرحلة "داعش" تدخل في زمن التسويات، فلا يجوز أن يذهب لبنان مذهباً معاكساً. والقمم المتتالية التي تعقد في سوتشي دليل على أن الحلول دخلت في مرحلة البحث الجدي وأن السياسية قد حان آوانها.
والتهدئة في سوريا لا بد ان تترك انعكاساتها على الداخل اللبناني الذي يتأثر حكماً بالمجريات من حوله. ومهما قيل عن "النأي بالنفس" فإن التجربة أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن لبنان لا يمكنه أن يعزل نفسه عن محيطه أو تأثيرات هذا المحيط سلباً أو إيجاباً. لكن الحوار الداخلي يشكل حصانة وضمانة كي يبقى لبنان محافظاً على الحد الأدنى من الاستقرار في انتظار التسويات الإقليمية الكبرى.
أما إلى أين من هنا، فذلك يحمل مؤشرات بالغة الدلالات في بلد مقبل على انتخابات نيابية بعد ستة أشهر. ومما لا شك فيه ان الأزمة أظهرت التفافاً واسعاً حول الحريري على الصعيد الوطني أو على صعيد تيار المستقبل أو على صعيد ما كان يعرف بقوى 14 آذار. وعاد الرجل هو الأقوى الآن بعدما كانت ساحة المستقبليين قد شهدت انقسامات وبرز منافسون له في أكثر من منطقة ولا سيما الوزير السابق أشرف ريفي، بفضل اللعب وتر التهاون مع "حزب الله" أو القبول بالتسوية التي أوصلت العماد عون إلى بعبدا. وفي إمكان الحريري الآن خوض الانتخابات مطمئناً إلى تكاتف شعبي من حوله. وبذلك يكون قد حول الأزمة التي مر بها إلى فرصة لبناء عليها إيجاباً والمضي في التسوية مع الرئيس عون من موقع أقوى بكثير مما كان عليه في الفترة الماضية.
كذلك، لا بد أن الحريري قد أدرك أن الخطاب الصدامي مع "حزب الله" لا يوصل إلى نتائج، لا بل يترك آثاره احتقاناً داخلياً يمكن أن يستغل كعامل تفجير في أي لحظة. و"حزب الله" الذي استوعب دقة المرحلة والذي يعتبر الطرف اللبناني والإقليمي الأقوى اليوم يعتمد خطاب التهدئة من دون التخلي عن الثوابت في مواقفه.
بين الهزة التي أحدثها إعلان الحريري عن استقالته وما اعتبره البعض "هزة" بالعودة عنها، غجتاز لبنان من دون شك، اختباراً صعباً في الأيام الأخيرة، وتمكن بفضل الوعي الوطني والتماسك الداخلي والخطاب المعتدل من معظم الأطراف المؤثرين أن يتجنب هز الاستقرار، لكن يبقى البحث في كيفية تحصينه.