التعليم وسطوة السلطة في التاريخ الإسلامي

عبر التاريخ، وظّف رجال دين وفلاسفة التعليم لخدمة أغراض وأهداف سياسية. ولا يزال الأمر إلى يومنا هذا قائماً. ولعلّ أبرز ما يحول دون انعتاق مجتمعاتنا العربية من التبعية المُطلقة والعبودية المُقنّنة للتوجّهات السلطوية المُستبدّة.

مدينة بخارى التي أسّسها الإمام "أبو حفص الفقيه البخاري"

حاولت السلطة السياسية في الإسلام منذ تسلّم الأمويين عرش الخلافة أن تُمسِك بالتعليم الديني بجعله مُوجَّهاً مباشرة وسائِراً في خطّ يفضي ديانة إلى التسليم والطاعة المُطلقة للخليفة أوالسلطان.

وقد سوَّقت السلطة مُبرِّرات وجودها بسرديات أيديولوجية مثل أنّ الله قدَّر في سابق عِلمه ونفاذ قدره وقضائه أن يؤول الحُكم إلى بني أميّة من بين سائر الناس لحكمة ارتضاها، وإما أنّ - أي الخليفة - ظلّ الله على الأرض كما ارتأى العباسيّون أن يكون، وإمّا لأن البديل عن الطاعة والخضوع هو الاضطراب والقلاقِل ما يُعطّل قيام الاستخلاف في الأرض ويقضي على المسلمين ووحدتهم، أو أن الخروج عما تخطّه يد "الزعيم" اليوم هو كسر لعصا الطاعة ومُجافاة "جماعة المسلمين" ومَدعَاة إلى الهرْج والمرْج.

وفي المُحصِّلة تحت أي تفسير أو سردية انتشرت وعمّت ستجد نفسك في قفص السلطة. وكل ينابيع الفكر والسلوك ستصبّ في تكريس وتثبيت وتعزيز وانتشار سردية تأليه "المؤسّسة السلطوية" في الاجتماع والعمران الإسلامي.

لذلك لما بوشِر في إنشاء المدارس الفقهية قبل أن تتحوَّل إلى مدارس عامة تتناول العلوم الدنيوية والأخروية، كانت السلطة حاضرة ‏في جملة المناقشات والمداولات والسِجالات الفكرية التي كانت مطروحة.

وقد سبق ذلك قيام الخلفاء بملاحقة الفقهاء الذين تُشتمّ منهم رائحة الاعتراض على حكمهم المُطلَق حتى ولو كان الأمر تورية، مثل تقريع الخليفة العباسي المنصور للإمام مالك بن أنس لقوله بعدم وقوع طلاق المكره، أو حبْسه الإمام أبو حنيفة ‏لحمله على قبول القضاء، وجَلْد الإمام أحمد بن حنبل في عهد الخليفة المأمون لإلزامه بالقول والاعتقاد بما كان يريده المأمون، إلى غير ذلك من الشواهِد الطافِحة في سِيَر الخلفاء والسلاطين.

كانت السلطة السياسية تحاول ‏أن تُقدِّم تفسيراً للدّين يتناسب مع التوجّهات السلطوية التي تؤمن بها وتدعو إليها. وبالتالي كانت الإرهاصات الأولى للتحكّم بمسار ‏التعليم الديني مُبتدِئة مع الخلفاء الأمويين وصولاً إلى ذروتها في العهد العباسي.

إن أول مدرسة ظهرت في التاريخ الإسلامي كانت في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث الهجري على الأرجح، وكانت في مدينة بخارى حيث أسّسها الإمام "أبو حفص الفقيه البخاري" «150هـ - 217هـ» وحملت اسمه. تلتها مدرسة نيسابور مطلع القرن الرابع الهجري على يد الإمام "أبو حاتم محمّد بن حبان التميمي الشافعي" (270 - 354هـ) قبل أن تنتشر المدارس في عموم المشرق الإسلامي. ثم ظهرت المدرسة الصادرية التي أنشأها الأمير شجاع الدولة صادر بن عبد الله سنة 391هـ في مدينة دمشق. وقد طبعت المدارس تلك بتدريس مذهب واحد غالباً ما يكون هو المُعتنَق من قِبَل المؤسّس وتأثّراً بالاحتقانات المذهبية التي شهدتها الخلافة العباسية.

وفي منتصف القرن الخامس الهجري دخل نظام المدارس مرحلة جديدة لا سيما مع اشتداد الصِراع بين المدارس الفكرية والمذهبية وانتشار عمليات الترجمة والنقل.  ولما اعتلى السلطان ألب أرسلان عرش السلاجقة في عام 455هـ، في زمن الخليفة العباسي أبو جعفر عبد الله القائم بأمر الله استوزر الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي، المُلقَّب بنظام المُلك. وكان الأخير مُتحمِّساً للمذهب الشافعي في الفقه وللأشعري في عِلم الكلام. وقد رأى فيهما خير معين لمواجهة المدّ الشيعي الإمامي والإسماعيلي الذي انتشر بقوة معتمداً على أُسُس فلسفية. خاصة بعد أن لجأ الشيعة إلى إنشاء مؤسّسات تعليمية تتولّى الترويج لعقائدهم، وتعمل على نشرها، فقد أنشاء أبو علي بن سِوار الكاتب أحد رجال عضد الدولة (ت 372هـ) دار كتب في مدينة البصرة وأخرى في مدينة رام هرمز وجعل فيها إجراء على من قصدهما، ولزم القراءة والنسخ وكان في الأولى منهما شيخ يدرس عليه عِلم الكلام على مذهب المُعتزلة، كما أسّس أبو نصر سابور بن أرد شير وزير بهاء الدولة (ت 416هـ) داراً للعمل في الكرخ في عام 383هـ.

لذا باشر نظام المُلك بإنشاء المدارس النظامية الشهيرة. ويعود إليه الفضل في تكريس مذهب الأشاعرة الذي ساد العالم الإسلامي في ما بعد. وتوسّع المذهب الشافعي بفضل المدارس النظامية في العراق وفي المشرق الإسلامي على حساب المذاهب الشيعية التي كان لها نفوذ في الشام ومصر.

وقد سبق المدارس النظامية تأسيس الخليفة الفاطمي الحاكِم بأمر الله عام 1004م/395هـ في القاهرة دار الحكمة التي حوَت آلاف المخطوطات في شتّى العلوم وفُتحَت للعامة ونُصبَت فيها عمدة التعليم. وكان ظاهراً ومعلوماً للعيان حرص الحاكم بأمر الله كشأن غيره من الفاطميين ونظرائهم من أمراء المذاهب في مشارق العالم الإسلامي ومغاربه نشْر مذهبه الذي يعتقده، فكانت دار الحكمة مركزاً ينطلق منه التشيّع الإسماعيلي الفاطمي إلى عموم مصر والعالم الإسلامي، وجذب الأتباع في مواجهة الدعاية المُضادّة التي كانت الخلافة العباسية تنشرها بدورها لنشر المذاهب السنيّة ومُحاربة التشيّع. وظلّت على هذه الحال حتى قضاء صلاح الدين الأيوبي على الدولة الفاطمية سنة 1171م، حيث حوّلها إلى مكتبة عامة مُقصياً منها المذهب الشيعي، وعمل في المقابل على تعزيز ونشْر المذهب السنّي الشافعي الأشعري إلى جانب التصوّف.

ومن آثار الفاطميين جامع الأزهر الشريف الذي تأسّس في عهد الخليفة المُعزّ لدين الله الذي وضع أسُس الجامع سنة 359ه / 970م. واستهدف بناؤه نشر مذهب الشيعة الإسماعيلية بعد أن أصبحت القاهرة مركزاً للدولة الفاطمية. واتّخذ مكانه بالقرب من مدينة الفسطاط السنيّة. وقد قرّر الخليفة العزيز بالله تحويل الأزهر الشريف إلى جامعة تُدرَّس فيها العلوم الدينية والعقلية. وخصّص الخلفاء الفاطميون موارد للإنفاق على الأزهر، وأوقفوا عليه الأحباس وزوّدوه بالمراجع والكتب.

فعبر التاريخ، وظّف رجال دين وفلاسفة التعليم لخدمة أغراض وأهداف سياسية. ولا يزال الأمر إلى يومنا هذا قائماً. ولعلّ أبرز ما يحول دون انعتاق مجتمعاتنا العربية من التبعية المُطلقة والعبودية المُقنّنة للتوجّهات السلطوية المُستبدّة، هي هندسة السياسة لميادين التربية والتعليم إذ لا أمل بالتغيير نحو الأحسن والانتصار على بواعث التطرّف والتنميط وتفضيل الصالح العام على الأنانية في أشكالها المختلفة فردية كانت أم جماعية، إلا بتحرير التربية والتعليم أولاً من كل أيديولوجية تريد حَرْفَها عن مسارها المعرفي والإنساني والقِيَمي.