أطوار أردوغان: المُجهَد، المُتحفز!
يريد أردوغان أن يستثمر في مواقف واشنطن الأخيرة لتحقيق وضع تفاوضي أقوى أمام موسكو وطهران، وقد يمثل رهانه هذا "شرطاً فاسخاً" –بتعبير الفقهاء- لتفاهماته معهما. وإذا لم تتعامل روسيا وإيران بقوة إزاء موقف أردوغان المفاجئ والمريب، فمن المحتمل أن يكون المشهد السوري أمام سردية أكثر تعقيداً، وقد تكون مختلفة بالتمام.

لا قائد كالخوف، ولا شيء أكثر من المخاوف يمكن أن يجعل التقارب أو التفاهم ممكناً بين روسيا وتركيا. أما إذا أمكنت الحيلة والوسيلة، فسوف ينقلب الخوف تشدداً وابتزازاً، وربما كيداً وتنكراً. وما إن أظهرت واشنطن موقفاً عدائياً تجاه الرئيس بشار الأسد وعملية سوتشي، حتى سارع أردوغان لملاقاتها وتلقف موقفها، كأنما كان ينتظره بفارغ الصبر.
وجد أردوغان في تغير الموقف الأميركي تجاه سوريا فرصة سانحة لالتقاط الأنفاس و"محو" ما صادق عليه في قمة سوتشي التي جمعته بالرئيسين بوتين وروحاني (25 -11-2017). والرجل معروف بتقلباته، انتهازاً لفرصة أو انحناءً لتهديد. وقد ظهرت صورتان متعاكستان له خلال ثلاثة أيام! الصورة الأولى في ختام المؤتمر الصحفي لقمة سوتشي، وكان مُجهداً وشارد الذهن، ومتثاقلاً، في مشهد يحيل – وهو ما أكدته الصورة الثانية- إلى أنه مضى في عملية سوتشي مضطراً. وبدا كما لو أنه يستبدل مغصاً بصداع. وأما الصورة الثانية فقد برزت فور تلقيه إشارات تقارب أميركية، وبدا فيها متحفزاً ومتنكراً ومستعداً للمواجهة، وقد انقلب على تفاهمات سوتشي، وخاصة مؤتمر الحوار السوري، والكرد، والموقف من الرئيس بشار الأسد.
مؤتمر سوتشي بالنسبة لموسكو هو أبعد من الموضوع الكردي، وتأجيل انعقاده لا يعني إلغاؤه، وإنما إفساح في المجال أمام أوسع مشاركة ممكنة فيه، ولا بد من تعاون تركيا بهذا الخصوص. وعلى الرغم من اهتمام موسكو بالكرد، إلا أنها لن تجعل من موضوع مشاركتهم في المؤتمر عائقاً أمام عملية سوتشي.
ينتظر الروس والأتراك من عملية سوتشي الاستمرار في مكافحة الإرهاب، وتعزيز خفض التوتر، والتوافق على مبادئ الحل السياسي، مثل: أطر عامة لدستور جديد أو تعديل الدستور الحالي، وانتخابات برلمانية بمراقبة دولية الخ.. ولكن توافق الطرفين على المفردات المذكورة لا يعني اتفاقهما التام والنهائي على مضامينها ومقتضياتها الإجرائية والعملية أو ترتيبها وإيقاعها الزمني أو ارتباطها بعملية جنيف والقرار 2254. وكان متوقعاً أن يدخل الطرفان في مواجهة حول تفسيرها وتأويلها، لكن ليس بتلك السرعة.
برزت في الإعلام تقديرات متعجّلة بعض الشيء بأن الملف الكردي يمكن أن يمثل مدخلاً مناسباً للتواصل بين أنقرة ودمشق، وذلك استناداً إلى مؤشرات عديدة، في مقدمها كلام أردوغان نفسه بأن الرئيس بشار الأسد أيضاً "ينظر إلى حزب الاتحاد الديمقراطي بشكل سلبي، وإنه لا يؤيد أن يتواجد الاتحاد الديمقراطي على الطاولة". ومن الواضح أن موسكو دفعت من أجل التطبيع التدريجي للعلاقات بين أنقرة ودمشق من هذا الباب بالذات.
لكن الأمور لم تقف عند هذا الحد، وقد أظهر أردوغان في سوتشي إشارات غير مسبوقة بشأن الرئيس بشار الأسد، مُطلِقاً تصريحات، ولو أنها مواربة، فُهِمَ منها أن التقارب معه هو "أمر يتعلق بالظروف... وإن أبواب السياسة، تبقى مفتوحة حتى اللحظة الأخيرة"، مؤكداً أن "الهدف الرئيس هو الوصول إلى حل سياسي يحظى بقبول مختلف الأطياف السورية".
ولم يخفي أردوغان أن الجيش التركي أقام 3 نقاط فقط من أصل 12 نقطة كان من المقرر إقامتها هناك. ويبدو أنه أخذ الضوء الأخضر من روسيا وإيران بالاستمرار بعد توقف، وربما القيام بعملية في عفرين. قال أردوغان "بعد ان فهمنا موقف الشركاء سوف نواصل مهمتنا هناك". (25-11-2017)، وقد أعلن وزير دفاعه نور الدين جانيكلي بعد لقائه رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي في لندن عن عملية وشيكة للجيش التركي في ضد عفرين. (28-11-2017).
يُظهر أردوغان، مرة بعد أخرى، أن تقديراته ورهاناته تجاه سوريا، وروسيا نفسها، محكومة بالموقف الأميركي، في إطار علاقات معقدة، لم يستطيع منها فكاكاً، بل انه يجهد في تعزيزها وإعادة إنتاجها. ويمثل إعلان الولايات المتحدة عن إيقاف إمدادها للقوات الكردية بالسلاح، مؤشرَ تقاربٍ مع تركيا، بدد جانباً من المخاوف لدى أردوغان، بل إنه شجعه على العودة إلى مواقفه السابقة بخصوص الرئيس بشار الأسد، بكل ما يعنيه ذلك من تهديد لمسار التفاهم مع روسيا وإيران في أستانة وسوتشي وغيرهما.
يريد أردوغان أن يستثمر في مواقف واشنطن الأخيرة لتحقيق وضع تفاوضي أقوى أمام موسكو وطهران، وقد يمثل رهانه هذا "شرطاً فاسخاً" –بتعبير الفقهاء- لتفاهماته معهما. وإذا لم تتعامل روسيا وإيران بقوة إزاء موقف أردوغان المفاجئ والمريب، فمن المحتمل أن يكون المشهد السوري أمام سردية أكثر تعقيداً، وقد تكون مختلفة بالتمام.