خالد محيي الدين... آخر الضبّاط الأحرار الذي رحل بعد أن تكلّم

يبقى خالد محيي الدين رجلاً ثائراً ومؤثّراً ومفكّراً يسارياً ليبرالياً في وقتٍ واحد، نَعَته الرئاسة المصرية، ونَعَته قوى اليسار في العالم، كأنه جمعَ النقائض لتظلّ سيرته الوطنية مُلهمة لمُريديه، ومؤثّرة في مُعارضيه..

كان خالد محيي الدين ضمن الضبّاط الأحرار تحت قيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر

عن عُمرٍ يُقارب المائة عام، توفى الأستاذ خالد محيي الدين (1922 – 2018) يوم السادس من أيار/ مايو، الذي كان ضمن الضبّاط الأحرار تحت قيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الذين قاموا بثورة 23 تموز/ يوليو عام 1952 تحت زعامة الرئيس الأول لمصر محمّد نجيب، وخالد محيي الدين يساري الاتجاه، ميوله اشتراكية، وهو يفتخر بيساريّته التي يقول عنها إنها تنحاز للفقراء والعمال المُهمّشين.
وقد اختلف منذ البداية مع مجلس قيادة الثورة خلال أزمة آذار/ مارس 1954، حيث كان يرى أن على الجيش الذي تحرّك وانقلب على الملك فاروق لا بدّ من أن يعود إلى ثكناته، وعودة الأحزاب بما فيها حزب الوفد المعروف بليبراليته وزعامته منذ ثورة 1919، وأيضاً الحزب الشيوعي المصري "حدتو"، وبسبب هذا الاختلاف خرج خالد محيي الدين من مجلس قيادة الثورة، وظلّ يرى ضرورة الانحياز للفقراء، وهو ما حقّقه له جمال عبد الناصر، خاصة عندما أمّم الشركات وحدّد ملكية الأراضي الزراعية، ومن ثم وافق على رئاسته لدار تحرير أخبار اليوم عامي 1964 و1965، رغم تمسّكه بقضية تداول السلطة، ومعها حتمية التحوّل الاشتراكي، وهو الأمر الذي أثار عليه الجميع.
ولكن الاختلاف الحقيقي كان مع الرئيس الراحل أنور السادات عندما أعلن عن سياسة الانفتاح الاقتصادي عام 1975 وما بعدها، فرأى خالد الضابط الحر أن ذلك انتقاص من ثورة 1952، وعودة لسياسة إفقار الفقراء وزيادة البطالة، وعودة الرأسمالية والإقطاع، واستهلاك غير الضروريات، فدخل في صراع علني مع الرئيس السادات مُستفيداً من نصٍّ دستوري، يمنع محاكمة أي ضابط من الضبّاط الأحرار الذين قاموا بثورة 1952، فكان له دور في انتفاضة الخبز المشهورة في يومي 18 و19 من كانون الثاني/ يناير عام 1977، والتي كان الرئيس السادات يسمّيها انتفاضة الحرامية (الحرامية تعني اللصوص باللهجة المصرية)، ثم وقف خالد ضد زيارة الرئيس السادات إلى القدس عام 1977، كما وقف بشدّة ضد اتفاقية كامب ديفيد عام 1979، واعتبر أن التقارُب مع العدو الصهيوني انقلاب على التاريخ المصري والعروبي والاشتراكي.
ثم رأى في اقتراب جماعة الإخوان المسلمين والتيارات الإسلامية من قصر الرئاسة المصرية خلال عهدي السادات ومبارك، كمَن يعيش مع الأفعى، فرأى أن الثعبان الذي احتضنه أنور السادات هو الذي قتله عام 1981، ولذلك ظلّ العداء سافراً بينه وبين التيارات السياسية المُنتسبة للإسلام، كما هاجم السعودية التي تموّل تلك الجماعات.
لذلك فقد دخل في صراعٍ فكري في جريدة الأخبار المصرية من خلال مقالات واتّهامات مُتبادَلة بينه وبين الدكتور مصطفى محمود، اتّهم فيها الأخير الأول بالشيوعية التي تعني الإلحاد، وهو ما نفاه خالد، وتمسّك به مصطفى محمود، الذي بدأ بعدها في التوفيق بين العِلم والإيمان، فظل يذيع برنامج "العِلم والإيمان" لسنوات عديدة، وقام مصطفى محمود بإصدار كتاب "لماذا رفضت الماركسية"، وهو عبارة عن حواراته مع خالد محيي الدين، التي أشرنا إليها، حيث كان المجتمع المصري بدأ يميل بشدّة لليمين الديني، وذلك بسبب تأثير الفكر الوهّابي|النفطي في المجتمع المصري، وقد اعتبر كثيرون من العوام وبعض المُثقّفين أن الشيوعية تعني الكُفر والإلحاد، وهو أمر شاع في الأدبيات الإسلامية، وتساهلت معها الدولة، فكان أن تحوّل المصريون لشعائر التديّن الظاهري، وكان أبرز سِمات هذا التديّن هو الهجوم على كل اليساريين والناصريين، والقوميين وغيرهم، ممن تعرّضوا لفتاوى التكفير.
على أن خالد محيي الدين ظل مُتمسّكاً باليسار الفكري، وأصدر أول جريدة حزبية بعد أن سمح السادات، إسمها "الأهالي"، صادرة عن حزب "التجمّع الوطني التقدمي الوحدوي"، الذي تأسّس عام 1976، ومازالت جريدة الأهالي تُصدر حتى اليوم، وإن خفّ تأثيرها في ظلّ وجود صحف خاصة كثيرة ومتعدّدة بالعشرات، رغم أن التنوير الذي تمارسه "الأهلي" أفضل كثيراً مما يُروّج في تلك الصحف.
ومن مزايا امتداد عُمر الضابط الحر خالد محيي الدين، أنه أصدر مذكراته الشخصية تحت عنوان "والآن أتكلّم" عام 1992، على غِرار مذكرات زملائه الراحلين من الضبّاط الأحرار، كما هوجمت ثورة 1952 منذ حُكم السادات وحتى حُكم مبارك، ولذلك فقد أحدث الكتاب ضجّة كبيرة، نقده الإخوان لأنه شبّههم بالصهيونية، والسلطة لأنه اتّهمها بالتطبيع مع الكيان الصهيوني، ولكن دافع عنه الناصريون واليساريون والليبراليون، لأنهم رأوا فيه ميلاً للانحياز للديمقراطية الاشتراكية، كما عبّر عنها.
ويُحسّب للضابط الحر خالد محيي الدين أنه ظلّ منحازاً للفقراء من العمال والفلاحين والموظفين، وتحالف قوى الشعب العاملة، وأعلن مبادئ حزب التجمّع منذ البداية في حماية المواطنين من الاستغلال الاقتصادي، والتعاون بين الشعوب العربية وأن تكون مصر خالية من الإمبريالية وآثارها، كما ظل منحازاً لفكرة الديمقراطية وتداول السلطة، وقد مارس هذا الأمر في حزب "التجمّع"، فقد تخلّى عن رئاسة الحزب والعمل السياسي برمّته منذ عام 2002، وظلّ زعيماً روحياً للحزب ولكل المصريين، حتى وفاته.
بقي أن نذكر أن عائلة محيي الدين، وأصلها وفروعها من مدينة "كفر شكر" التابعة لمحافظة القليوبية، في دلتا النيل في شمال القاهرة، وهي المدينة التي دُفِن فيها الراحل، وأسرة محيي الدين، شهدت وجود كل التيارات السياسية، فإبن عمه هو الضابط الحر زكريا محيي الدين، وزير الداخلية ومؤسّس المخابرات المصرية في العهد الناصري، وهو قوميّ الفكر، وهو الرجل الذي كان ينوى الرئيس جمال عبد الناصر التنحّي عن الحُكم له يوم خطاب التنحّي المشهور يوم 9 حزيران/ يونيو 1967، وإبن عمه الآخر هو الليبرالي فؤاد محيي الدين رئيس وزراء مصر في الثمانينات، والأخير هو الدكتور محمود محيي الدين وهو رأسمالي الاتجاه، ويعمل الآن النائب الأول لرئيس البنك الدولي، ولكنهم جميعاً وطنيون، رغم اختلافاتنا مع كثير منهم.
ويبقى خالد محيي الدين رجلاً ثائراً ومؤثّراً ومفكّراً يسارياً ليبرالياً في وقتٍ واحد، نَعَته الرئاسة المصرية، ونَعَته قوى اليسار في العالم، كأنه جمعَ النقائض لتظلّ سيرته الوطنية مُلهمة لمُريديه، ومؤثّرة في مُعارضيه.. رحمه الله ورحمنا أجمعين..