جلال أمين كزرقاء يمامة الاقتصاد وعِلم الاجتماع

بقي أن نعرف أن الدكتور "جلال أحمد أمين" عندما رتّب أعداء البلاد العربية، وضع الصهيونية مع الرأسمالية معاً تحت عنوان "العدو الأول"، ولذلك دائماً ما شنّ عليه الصهيونيون والرأسماليون (وهم قادة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي)، حروباً، أقلّها أنهم اتّهموه في عِلمه، ولكنه لم يتراجع أبداً، وظلّ يكتب حتى قُبيل وفاته بأقل من شهرين، رحمه الله الدكتور "جلال" وأبدلنا خيراً منه في العِلم والسلوك.

عن عُمرٍ يناهز الـ38 عاماً، رحل الدكتور جلال أحمد أمين إلى رحمة الله

عن عُمرٍ يناهز الـ38 عاماً، رحل الدكتور جلال أحمد أمين إلى رحمة الله يوم 25 أيلول/سبتمبر 2018، وهو إبن الكاتب "الأستاذ أحمد أمين" مؤلّف سلسلة كتب "فجر الإسلام – ضحى الإسلام – ظهر الإسلام"، وغيرها من الكتب ذات الصلة بجيل التنويريين مثل طه حسين وعلي عبد الرازق وعباس العقاد وغيرهم، ورث الدكتور جلال عن أبيه العلّامة أحمد أمين الجذور التنويرية، فهو رغم تخصّصه كأستاذ اقتصاد، كتبَ في التنوير المجتمعي والاجتماعي والحركي، كما لو كان متخصّصاً فيه، وهو عروبي الفكر، أو لنقل ناصري الفكر ومخلص الاتجاه فيه.

عُرِف بأنه من أشدّ الناقمين على "صندوق النقد الدولي"،  ومن ألدّ أعداء القروض من الدول الغربية، فألّف كتاب "كشف الأقنعة عن نظريات التنمية الاقتصادية" ويرى فيه أن النظريات الغربية الرأسمالية تقيّد حركات الشعوب، وتختزن كل العلاقات السياسية بين الشعوب على أسُس استعمارية، ومن ثم جاء كتابه "تنمية أم تبعية اقتصادية وثقافية؟".

في هذا السياق الذي لم يتخل عنه طوال عمره، فقال في الكتاب :"من المؤسف حقاً أن نرى الانحراف، الذي حدث في التيار الأساسي للفكر الإصلاحي في مصر والعالم العربي، فمنذ رفاعة الطهطاوي، أي منذ قرن ونصف القرن من الزمان، وحتى الحرب العالمية الثانية، كانت القضية الأساسية التي يدور حولها الجدل بين دُعاة الإصلاح، هي الموقف من الحضارة الغربية. ما سبّب ضعفنا وتخاذلنا أمام حضارة الغرب؟ وما هذا الذي يملكه الغرب ولا نملكه؟ وما الذي يمكن أن نأخذه من الغرب من دون التضحية بشخصيتنا وتراثنا؟" ثم يرصد أهم معالم الانحراف بقوله "بعد الحرب العالمية الثانية، تحوّل الحوار في الخمسينات وما بعدها إلى حوار حول الاختيار بين بدائل تنتمي كلها إلى معسكر واحد: اشتراكية أم رأسمالية؟. وتحوّلت القضية للأسف إلى قضيةٍ اقتصادية، وصُوّرت المشكلة على أنها "التخلّف الاقتصادي"، والهدف على أنه "التنمية"... وفى غمار عملية التنمية هذه، وتحت شعار رفع مستوى المعيشة، تعرّضت مصر لموجةٍ جديدةٍ أعتى من كل ما تعرّضت له من قبل من تغريب الثقافة والحياة الاجتماعية.. وإن الاقتصادي الحديث على استعداد إذن للتضحية عن طيب خاطر بشخصية الأمّة في سبيل معدّل أعلى للنمو. كما أن الدعوة إلى التنمية لا تكتفي بتجاهل القضية الحضارية، بل إنها لا تتورّع عن اعتبار أغلى مقوّمات ثقافتنا من عوائق التنمية"،.

ثم يتقدّم جلال أمين ليفضح تفاهة علماء النمو والتنمية وإشباع الحاجات الأساسية وغير الأساسية "إنهم لا يكتفون بتحويل الوسيلة إلى هدف، بل يتم التضحية بالهدف الأسمى في سبيل مضاعفة السلع والخدمات، فالإيمان بالله في نظر اقتصاديي التنمية المحدثين قدرية تضعف الحافز على التغيير وإحراز التقدّم.. والولاء للعائلة والارتباط العاطفي والمادي بها، يضعف حافز الفرد لإحراز النجاح المادي لنفسه، والكرم إسراف، والقناعة مدعاة للركود، والقدرة على التعاطف مع الغير أو على الاستمتاع بالفراغ مضيعة لوقت ثمين كان يمكن أن يُنفَق على إنتاج السلع والخدمات"، أي يريد تثبيت الهوية المصرية العربية الإسلامية، فالنمو من أجل راحة الإنسان، لا على حساب الكرامة، بشرط عدم التخلّي عن هويته، ولا بد من يكون عالِم الاجتماع مع رجل الدين في يد الاقتصادي عند البحث عن النمو، حتى يمكن النجاة من فخ "الدونية" التي يستشعرها كثير من مثقّفي العرب أمام السطوة الأوروبية الأميركية الصهيونية، والغرب يتخذ من القروض من ضمن حججه لغزو الدول ونهب ثرواتها، وهو ما حدث في الماضي القريب، ومازال يحدث في العصر الراهن.

ومن نفس المنظور ألّف الدكتور "جلال أمين" كتابه المهم "قصة ديون مصر الخارجية من عصر محمّد على إلى اليوم"، انتهى فيها إلى أن الاقتصاد دفع ثمن ضربة تجربة محمّد على في 1840، فهو يكتب عن "عصر محمّد على: التنمية بلا ديون"، ثم ينتقل إلى الخديوي سعيد "ديون بلا تنمية"، والخديوي إسماعيل "شبه تنمية بديون هائلة"، حيث كان إسماعيل يأخذ القروض بضمان شهادات ملكية مصر لأسهم شركة "قناة السويس"، وغشّه الفرنسيون والبريطانيون، حيث استقبل الأوروبيون إسماعيل بالثناء واستمروا يمجّدونه طالما ظلّ قادراً على الاقتراض وتسديد ديونه، وانهالوا عليه بالنقد والتجريح حتى نجحوا في عزله بمجرّد أن توقّف عن الدفع"، وكان الطريق للاحتلال البريطاني لمصر عام 1882، وينتقل "الدكتور جلال أمين" إلى عصر الاحتلال، فكان الاقتصاد المصري في خدمة الدائنين.

ويشرح بتشابه عصر إسماعيل، بما عانته مصر بعد 100 عام من عصر إسماعيل، حيث اقترنت السبعينات حكم الرئيس "أنور السادات" بالتورّط في الديون، مع النمو السريع في الدخل، من دون أن يحدث أي تقدّم يُذكَر في هيكل الجهاز الإنتاجي، بل مع تدهور ملحوظ فيه"، ثم يقرّر أن العامل الاقتصادي الحاكم لتطوّر الاقتصاد المصري في عهديّ السادات ومبارك هو تبعية مصر الاقتصادية والسياسية للولايات المتحدة الأميركية، وقد تنبّأ الراحل "جلال أمين" بثورة كانون الثاني/يناير 2011، بل وتنبّأ بحكم الإخوان المسلمين ثم سقوطهم، في سلسلة مقالاته في جريدة "الأهرام"، بما يمثّل زرقاء اليمامة في عصر الإعلام المفتوح.

لم يقتصر نشاط الدكتور "جلال أمين" على الجانب الاقتصادي، بل إنه أبدع في عِلم الاجتماع، بدرجةٍ غير مسبوقة، فمن أعمق وأجمل وأبسط ما كُتب في هذه المجالات، عنوان "التنوير الزائف"، وفيه يشنّ حملة لا هوادة فيها على تداخل الديني بالسياسي، والنخبوي بالعامي، وأن عدم وجود حدود لمن يسمّون أنفسهم ليبراليين بغيرهم من التنويريين الحقيقيين يجعلهم يسيئون للدولة والدين والعلم معاً، وكتاب "التنوير الزائف" ربما استلهمه من عبارة "الوعي الزائف" لـ "كارل ماركس"، لأن الوعي الزائف يقود إلى تنويرٍ زائف، أو إلى جمودٍ قاتل.

ولكن أخطر وأشهر كتبه على الإطلاق هو كتاب "ماذا حدث للمصريين؟" الصادر عام 1998، وتم طبعه عشرات المرّات وينفذ من الأسواق، وعندما قرأناه تمنينا أن يقرأه كثيراً "صنّاع القرارات" في مصر، لأن الكتاب يُعدّ وثيقة وشهادة حيّة ومعاصرة للمجتمع المصري عبر ثلاثة أجيال، وكيف تغيّر المجتمع، وحال الحراك السياسي التي أحدثت سقوطاً لطبقات اجتماعية وصعوداً لأخرى، وشرّح المجتمع، عندما تحوّل من نظام قومي اشتراكي لـ "نظام السوق"، الذي يجعل الكماليات ضروريات، من خلال الإعلانات شديدة الإلحاح على المتلقّي، ولا ينجو المجتمع "أيّ مجتمع" من أمراض الرأسمالية السوقية المتوحّشة، وألّف غيرها من  الكتب الاقتصادية والاجتماعية، بل وفي الأدب العربي ونقده.

بقي أن نعرف أن الدكتور "جلال أحمد أمين" عندما رتّب أعداء البلاد العربية، وضع الصهيونية مع الرأسمالية معاً تحت عنوان "العدو الأول"، ولذلك دائماً ما شنّ عليه الصهيونيون والرأسماليون (وهم قادة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي)، حروباً، أقلّها أنهم اتّهموه في عِلمه، ولكنه لم يتراجع أبداً، وظلّ يكتب حتى قُبيل وفاته بأقل من شهرين، رحمه الله الدكتور "جلال" وأبدلنا خيراً منه في العِلم والسلوك..