سيّدة باريس وسيّدة الموصل وصرخة الغارغوي

(Notre Dame) تعني بالعربية: سيّدتنا ( بالإشارة إلى السيّدة العذراء). وفي التقليد، لكل مدينة سيّدتها، وغارغوياتها، فلماذا تكون سيّدة باريس أغلى من سيّدة الموصل وسيّدات، سيّدات لا حصر لها على أرضنا؟ تلك أرقنا بها الإعلام العالمي، ولكن، إعلامنا، على مدى يومين كاملين، فأين هو من سيّدات مدننا؟

شخص يشاهد عن بعد حريق كاتدرائية نوتردام (أ ف ب)

فيما كانت ألسنة اللهب تبتلع كاتدرائية نوتردام في باريس ، كان الجميع يستذكرون أحدب نوتردام لفيكتور هوغو، وكنت أنا أستذكر بشكلٍ خاصٍ كتاب صرخة الغارغوي لدومينيك دو فيللوبان. هذا الكتاب صدر في فرنسا عام 2000 وترجمته إلى العربية عام 2003.

في هذا الكتاب كان الشاعر، الحقوقي، السياسي، الذي يُدير مكتب الرئاسة في الإليزيه، ويُعتَبر الخليفة الثاني للديغولية بعد انتهاء ولاية جاك شيراك - حيث كان الأول هو الآن جوبيه – يريد أن يعرض بعمق لرؤيته المُتشائِمة جداً لمستقبل فرنسا، بناء على ما يشهده من خلال عمله من تردٍ وفسادٍ وضياعٍ أمام العولمة وهيمنة لوبيهات وقوى مُدمّرة للروح الفرنسية التي يؤمن بها خط الرجل. لم يجد الشاعر أفضل من الغارغوي، الحيوان الأسطوري الذي تعتلي تماثيله الأسطورية سور كاتدرائية نوتردام ،  فاتحة فمها كمَن يطلق صرخة تحذير وتخوّف ، هي ما أراد أن يكونه كتابه.

غير أن دوفيللوبان اضطر مُبكراً لخوض صراع الديغولية مع الأطلسة واللوبيهات، ممثّلة  بنيقولا ساركوزي ، إذ إسقط الوريث الأول بتوليفة قضائية، ولجأ شيراك إلى تكليف دوفيللوبان بوزارة الداخلية، حيث خاض صراعاً مريراً مع مُفبركي تهم وأحداث اللاسامية،  ومن ثم رئاسة الوزراء، حيث أُفشِل، ليطاله القضاء هو الآخر وتفرغ الطريق أمام ساركوزي العائِد من الإيباك والبيت الأبيض.

في باريس، كثيراً ما زرت نوتردام، ولا أنسى مأتم الأب بيار، رجل الخير الأول في فرنسا، ورجل المواقف العالمية المثالية الذي خضع للمحاكمة مع روجيه غارودي بسبب بيانهما المستنكر لحصار بيروت عام 1982. غير أن ما لفتني في ذلك المأتم الذي لم يتجرّأ مسؤول عن التخلّف عنه، هو حجم الكتاب المُقدَّس الذي وضِعَ فوق النعش. سألت وأجبت بأن الأب أوصى بأن يوضع على نعشه الإنجيل فقط من دون التوراة. كان لذلك دلالة كبرى لمَن يعرف الصراع الشرس الذي دار داخل الكنيسة الكاثوليكية عموماً، والفرنسية منها خصوصاً، بين مَن يُسمّون الكاثوليك الجُدُد ومَن يُسمّون الكاثوليك التقليديين. الجُدُد هم أتباع الكاردينال لوستيجييه الذي يتفاخر بأنه لم يعتنق المسيحية إلا بالغاً، وأنه يعتزّ ويحتفظ بجذوره اليهودية التي يعتبر المسيحية امتداداً لها. في حين أن التقليديين هم الذين يستمرون في تراث الكنيسة التقليدي الذي رفض إلحاق المسيحية باليهودية، ويعتبرهما حالتين منفصلتين تماماً، مع ما يُعبّر عنه برفض تهويد المسيحية، وما ينتج من  ذلك من مواقف ثقافية واجتماعية وسياسية. فيما يترك أسئلة مُبهَمة حول حريق كاتدرائية نانت والآن نوتردام. 

نعود إلى الغارغوي بما يرمز إليه من فرنسا التاريخية، الأصيلة في ما يشبه إلى حدٍ ما أسد بابل في العراق. وهنا نتنبه إلى خبر تزامَن مع خبر حريق نوتردام، وهو خبرسرقة كنائس الموصل القديمة. خاصة كنيسة العذراء ( توازي نوتردام بالفرنسية ) وكنيسة الطاهرة أو القلعة.

شركة ومنظمّة بريطانيتان ادّعتا أنهما تعملان على نزع الألغام من الموصل وقامتا بنبش القبور وتجريف الكنيسة وسرقة مخطوطات وأناجيل وشواخص تعود للقرن السادس الميلادي، وذلك في حوش الخان وسط حيّ الميدان يوم 13/1/2019.

مسؤولو منظّمات المجتمع المدني رفعوا الصرخة، وأكّدوا على ميزات كنيسة السيّدة العذراء، سواء من حيث الزخرف الخاص أو من حيث الموجودات أو من حيث خاصيّة بالغة الأهمية هي أن أهل نينوى، من مسيحيين ومسلمين وباقي المكوّنات، يزورون هذه الكنيسة معاً. في إشارة بالغة الأهمية إلى استهداف وحدة النسيج الاجتماعي في العراق والشام خاصة، وفي العالم العربي بشكل عام.

لويس مرقص أيوب عن منظمة حمورابي لحقوق الإنسان ومنظمة سورايا للثقافة المسيحية قال إن عمليات التدمير والسرقة عملية منظّمة لمحو التراث المسيحي من مدينة الموصل، فيما ذكر آخرون باستهداف منارة الحدباء، جامع النوري، ومتحف الموصل من قِبَل داعش، فهل جاءت هذه المنظمات البريطانية تكمل عمل داعش؟ أم أن داعش كان يعمل لحسابها؟ وأين الصهاينة في كل ذلك؟

الملفت أن وزارة الصحة والبيئة العراقية طالبت منذ  سنوات بإخراج الشركة (c4s) والمنظّمة البريطانية المُختصّة بنزع الألغام، من الموصل ولكن ذلك لم يتحقّق، فلماذا؟

(Notre Dame) تعني بالعربية: سيّدتنا ( بالإشارة إلى السيّدة العذراء). وفي التقليد، لكل مدينة سيّدتها، وغارغوياتها، فلماذا تكون سيّدة باريس أغلى من سيّدة الموصل وسيّدات، سيّدات لا حصر لها على أرضنا؟ تلك أرقنا بها الإعلام العالمي، ولكن، إعلامنا، على مدى يومين كاملين، فأين هو من سيّدات مدننا؟