حركة النهضة تلهم قوى الإسلام السياسي
لم يتخذ الغنوشي موقفه المغاير للدولة دفعة واحدة بل مرّت أطروحته بمحطات من التدرّج. ففي مرحلة التحالف مع الرئيس منصف المرزوقي، حاول الغنوشي تقديم مقاربة مختلفة عن تلك التي اعتمدها في عهد الرئيس السبسي. ففي الأولى اندفعت حركة النهضة من منطق القوة داخليا وتنامي المد الإسلامي خارجيا لتفرض نفسها على الدولة والقوى العميقة في المجتمع، فاستقوت بالسلفيين وهادنت مراكز القوى في الدولة العميقة في آن.
خلال السنوات الثلاث الماضية، خطت حركة النهضة التونسية خطوات كبيرة على صعيد التطور السياسي والأيديولوجي الأمر الذي منح الأمل لدى قوى تيارات الإسلام السياسي المنابذ للعنف في تطوير مفاهيمه حول الدولة والسلطة وإدارة الشأن العام بما يهدّئ من التناقضات الصارخة بين المكونات المجتمعية في العالم العربي ويفتح كوّة في جدار الإصلاح السياسي المطلوب، بعيدا عن العنف وهدر الطاقات واستنزاف الموارد المادية والبشرية.
اكتشاف حركة النهضة لطبيعة "الدولة" ووظيفتها بعد ثورة الياسمين، وفتح الدولة العميقة في البلاد المجال للتداول على السلطة أمام الإسلاميين وغيرهم، حثّ الحركة على إجراء مراجعات فكرية عميقة أدت إلى قطيعة شبه تامة مع أدبياتها الفكرية تاريخيا. فأعاد الغنوشي صوغ العلاقة بين حركته وبين "الدولة" كمفهوم ومعطى قائم، انطلاقا من المتغيرات العميقة التي طالت المشهدين الاجتماعي والسياسي في تونس. فالهمّ الذي سيطر على الغنوشي طوال سنوات نفيه في الخارج هو كيفية الوصول إلى السلطة وان تكون لأطروحته دور في هندسة الدولة التونسية.
ولم يتخذ الغنوشي موقفه المغاير للدولة دفعة واحدة بل مرّت أطروحته بمحطات من التدرّج. ففي مرحلة التحالف مع الرئيس منصف المرزوقي، حاول الغنوشي تقديم مقاربة مختلفة عن تلك التي اعتمدها في عهد الرئيس السبسي. ففي الأولى اندفعت حركة النهضة من منطق القوة داخليا وتنامي المد الإسلامي خارجيا لتفرض نفسها على الدولة والقوى العميقة في المجتمع، فاستقوت بالسلفيين وهادنت مراكز القوى في الدولة العميقة في آن.
ومع سقوط الترويكا الحاكمة، يمكن القول: إن حركة النهضة وبتوجيه مباشر من شخص رئيسها الشيخ راشد الغنوشي تفاعلت بحيوية مع المشهد السياسي التونسي شديد التوتر والتقلبات في حينه. وكانت تفاوض وتعقد التحالفات بوعي وروية ورهانات مستمرة على وطنية خصومها الأقوياء، وتقدّم التنازلات تلو التنازلات من أجل البقاء في المشهد السياسي. فالتحالف بين السبسي والغنوشي حال دون تكرار السيناريو المصري في تونس، ووقف جدار صدّ أمام محاولات قوى ودول إقليمية استئصال الإسلاميين في تونس.
وقد تعامل الغنوشي بحنكة وروية مع الضغوطات، وحملات المواجهة إعلاميا وسياسيا، أملاً في تجنيب حركته التصدع الداخلي، ولجماً لها من الميل كلّ الميل إلى الصدام والصراع. واكتفى بالحد الأدنى من المكاسب في ذلك التحالف، وكان له في صلح الحديبة أنموذج نبوي من الطبيعي استنساخه.
وقد فشلت القوى والأحزاب الليبرالية واليسارية من فتح حرب أيديولوجية مع حركة النهضة. وعلى الرغم من سعي بعض الأحزاب العلمانية المتشددة إلى جلب النهضة إلى فخ الصراع الأيديولوجي إلا أن النهضة كانت أكثر ذكاء حيث لم يكن من مصلحتها الذهاب إلى ذلك المعترك بعد أن أضحت جزءا من السلطة فأهملت المعارك الأيديولوجية والتراشق الفكري مع منافسيها وخصومها على السواء واندفعت نحو ترميم صورتها أمام مراكز القوى داخليا وخارجيا وشبّكت العلاقات وفتحت دائرة المصالح مع المؤسسات الاقتصادية ذات التأثير الواضح في الشأنين الاقتصادي والسياسي لتونس فضلا عن قطاع الإعلام.
حرصت حركة النهضة على تقديم صورة حضارية عن نفسها فظهرت في ثوب الحركة الوطنية الحريصة على مصلحة البلاد، وتبنت خطاباً يوحي أنّ جلّ ما تسعى إليه هو تمكين الشعب التونسي من حكم نفسه بنفسه والحدّ من الفساد في مؤسسات الدولة، وتوفير فرص العمل وتقليص نسب البطالة والتفاوت بين الطبقات الاجتماعية اقتصادياً، وإعادة التوازن للدبلوماسية الخارجية في علاقاتها مع محيطها المغاربي ومع العالم الإسلامي. فهي لم تسع – وهي شريكة في الحكم- لقطع التواصل أو تخفيض العلاقة بين تونس والسعودية في الوقت الذي دفعت بقوة لتعزيز علاقات بلادها بقطر وتركيا. وإذ لم تتجرأ على فتح أبواب تونس أمام علاقة عميقة واستراتيجية مع إيران تجنبا للغضب الخليجي إلا أنها لم تحرّض على طهران في الداخل، وحثّت على بناء جسور مع كلّ دول العالم الإسلامي من أجل مصالح تونس العليا.
ولعل أبرز تطور تعيشه حركة النهضة اليوم هو ذهاب الغنوشي الى القول: الدولة التونسية هي من يقع على عاتقها إدارة الشأن الديني في البلاد وحمايته، وأن الأحزاب على اختلاف مشاربها بما فيها الإسلامية ليس من واجبها التفرغ للدين وحمايته إذ ان الأمر يضر بالحزب والدين معاً.
وهناك مآخذ على الحركة لا تزال قائمة، وهناك خطوات اتخذتها ولكن لم تحقق النتيجة المثلى لها. ورغم قطع حركة النهضة شوطا لعملية الفصل أو التمييز بين الدّعوي والسياسي إلا أنّ الأمر بقي في دائرتي التنظير والتنظيم ولم يتحول إلى ثقافة داخل بيئة الحركة حيث لا توجد فواصل محددة بين المجالين بعد. فاستحضار الدّعوي وتوظيفه لصالح السياسي قائم جنبا إلى جنب التوظيف السياسي للدّين من خلال طلب التزكية أو توجّه القطاع الدعوي إلى إرشاد الناس وحثّهم على المشاركة والتأييد السياسي لمن يشاطرونه الفكرة والمرجعية والتوجه.
نجح الغنوشي بالفعل في خلق خطاب عقلاني وطني داخل حركة النهضة وتمكّن من تهميش الأصوات المتشددة وكبح جماحها وإهمالها إعلامياً. مع ذلك فإن المشهد الذي هندسة الغنوشي إعلاميا لحركة النهضة لا يعكس طبيعة بنيتها الداخلية ولا يبين عن تطور ونضوج شامل في عموم كوادر الحركة حيث تحوي النهضة في داخلها، كما غيرها من قوى الإسلام السياسي، تيارات متعددة فيها السلفي والمتصوف فيها المتشدد والإصلاحي. وكما ينسحب هذا على الشق الدعوي وفي مجال التربية والتزكية والإرشاد نجده أيضا داخل المتخصصين في المعترك السياسي بين حمائم وصقور.
تبقى الأولوية عند حركة النهضة منصبّة على حماية الجماعة من الاندثار أو تمكينها من المشاركة في الحياة السياسية كلاعب أساسي. وهو أمر لا يزال يفرض إشكاليات على مستقبل وأداء وطبيعة حزب حركة النهضة.