سياحة في فكر الشيخ راشد الغنوشي

لذا لا نجد للشيخ راشد الغنوشي أطروحة شاملة في قراءته للإسلام ولاهتماماته الفكرية وان كان هناك نتفا يسيرة هنا وهناك إلا أنها لا تنتظم في إطار أطروحة كرس الشيخ نفسه للاشتغال عليها.

يمكن القول إن اغلب اجتهادات الشيخ راشد هي في المجال السياسي أو ما يرتبط به حتماً (أ ف ب)

على الموقع الرسمي للشيخ راشد الغنوشي في شبكة الإنترنت، يلفت انتباهك على جانب الصفحة عبارة مقتضبة نُسقت كدليل إرشادي للمناصرين: "نحن أردنا أن نحفر قبرا لندفن فيه كل الثارات والأحقاد ونتجه للمستقبل بقلوب مطمئنة صافية.. بدون غيظ.. بدون حقد". العبارة تحمل من المضامين وتفتح بابا للتأويلات هي ابعد مما تستحضره اللغة أو الجمل التي دبّجت به تلك الكلمات.

إنها اعتراف ضمني وجلي في آن على عمق وافق التحول الطارئ على فكر الشيخ الذي اضحى رقماً صعبا في الحياة السياسية التونسية وملهما لجماعات وأحزاب في العالمين العربي والإسلامي.

للإنصاف، لا يمكن دراسة فكر الشيخ راشد الغنوشي من خلال كتبه فقط. فالرجل يشهد حيوية فكرية ملحوظة وان كان يبدو لمناصريه أنه يفسّر فكره أكثر مما يتراجع عنه أو يتجاوزه إلى غيره. فما كتبه الشيخ راشد في مراحله الأولى يختلف عما تكرّس لديه في كتاباته خلال وجوده في السجن أو بعد نفيه للخارج. وبعد الثورة يمكن تقسيم فكره إلى مرحلتين: مرحلة وجود حركة النهضة في الحكم خلال فترة الترويكا، ومرحلة عودة الحركة إلى الظل عبر التحالف مع نداء تونس ووصول السبسي إلى سدة الرئاسة.

بالمجمل يمكن القول إن اغلب اجتهادات الشيخ راشد هي في المجال السياسي أو ما يرتبط به حتما. حيث تتركز أبحاثه واهتماماته حول الدين في الاجتماع. فإذا ما تناول حق المرأة في الإسلام فالأمر ينطلق من باب تطمين وشرح موقف الحركة من حضور المرأة في المجتمعات الوطنية وتفاعلها السياسي مع خدمات المجتمع. وإذا ما تناول المثلية الجنسية فهو يتناولها من باب مفهومه للحريات الخاصّة والعامّة في الدولة الوطنية.

لذا لا نجد للشيخ راشد الغنوشي أطروحة شاملة في قراءته للإسلام ولاهتماماته الفكرية وان كان هناك نتفا يسيرة هنا وهناك إلا أنها لا تنتظم في إطار أطروحة كرس الشيخ نفسه للاشتغال عليها.

ما كتبه الشيخ وما صرح به منذ بروزه في حركة النهضة تمحور حول المجتمع المديني ولا غرابة بانه يرى الإسلام دين مديني أو انه عمل على خلق مجتمع مديني بما تحمله الكلمة من حمولة حداثوية. فهو لا يقرأ الإسلام إلا من منظور حضوره في المدينة نفسها. والمدينة أحيانا هي الدولة. وهكذا نجد الغنوشي انه لا يزال يحمل فكرة "الخلافة" كمرادف للدولة سواء كانت تتشكل من توحد أقطار ضمن سياق شامل كما هي الولايات المتحدة أو ضمن إطار سياسي مرن ومتحرر كما هو حال الاتحاد الأوروبي أو ظهر الإسلام وبرزت تجلياته ضمن سياق وحدة قطرية أيّ الدولة الوطنية بمفهومها الحاضر اليوم.

وهذا يحيلنا للظنّ أن الغنوشي في عمقه الفكري لم يتغير ولم يتطور ولا يزال أمينا تامّا على ما ورثه وما فهمه من الإسلام وان تصريحاته واجتهاداته الحديثة حول التمايز بين الدعوي والسياسي وحول وظيفة الدولة لا يغير من طبيعة الأمر شيء. فهناك مستويان من الحراك في فكر الشيخ راشد: مستوى عميق ثابت ومتجذر وغير جليّ أو صريح دوماً حيث يلتقي فيه الشيخ مع منظري ومفكري ومؤسسي وملهمي حركات الإسلام السياسي والحضاري مثل: حسن البنا وسيد قطب ويوسف القرضاوي ومالك بن نبي وحسن الترابي وعلي شريعتي والسيد الخميني وغيرهم لجهة مفهومه للإسلام ورسالته في الحياة وموقع الإنسان من هذا الدين. ومستوى آخر وهو شديد الاضطراب والمراجعة وتبرزه سلسلة المواقف التي يتخذها الشيخ أو تمارسها حركة النهضة في العمل السياسي إذا ما قيس أداؤها على محكّ مبادئ الإسلام السياسي كما يفهمها الإسلاميون. فإعادة تعريف العلمانية كما يفهمها الغنوشي وحديثه عن طبيعة الدولة ووظيفتها ودورها من الدين في المجال العام، وموقفه المستجد من الأحزاب الإسلامية في الدولة الوطنية إلى غير ذلك من التطورات الطارئة على فكر الشيخ إنما هي نتاج ما أحدثته التفاعلات الاجتماعية والسياسية في تونس والعالم العربي ما بعد الانتفاضات العربية.

يسير الغنوشي متداركاً بهدوء لما يريده. فهو قارئ جديد للواقع السياسي المحلي والدولي، ويملك حاسّة التنبؤ بالمخاطر قبل وقوعها، ومُدرك لافت لنفوذ القوى الدولية ومتطلباتها واهتماماتها وإراداتها. ودائما ما يعدّل أو يطوّر أطروحته السياسية والفكرية بما يحفظ مشروعه دون تصادم واشتباك قاتل مع من يرغبون دوما بجره إلى معترك المواجهة.