إنهاء داعش أم إفساح الطريق له؟

القول إن غارات تحالف أميركا ضد "داعش" هدفه إنهاء وجود تنظيم ينمّ عن سذاجة عسكرية، والعملية العسكرية الدولية والعربية تبدو في الواقع أنها أقرب إلى "إفساح الطريق أمام داعش" وليس القضاء عليه.

المقاتلة الفرنسية رافال
إذا حاولنا النظر بدقة أكثر إلى نتائج الغارات الجوية للتحالف الغربي - العربي على معاقل تنظيم "داعش"، سنجد واقعاً أشبه بـ "التدريبات العسكرية" أو حتى "الاستعراضات العسكرية" في أجواء سوريا والعراق، بالنظر إلى حجم العتاد العسكري المستخدم فى هذه الغارات، وعدد الدول المشاركة فيها "خصوصاً في الغارات على العراق" مقارنة بالخسائر الهزلية التي تعرّض لها التنظيم الإرهابي فى عديده وعدّته.

ففي الجانب العراقي تشارك أكثر من 22 دولة في تحالف ينفذ ضربات جوية فى مناطق تنتشر على طول الجانب الغربي للعراق في محافظتي صلاح الدين والأنبار وتحديداً في مناطق الفلوجة وهيت وبيجي وتكريت والرمادي. شاركت في هذه الغارات التي تجاوز عددها الـ 2000 منذ انطلاقها في شهر آب / أغسطس الماضي مروحيات "الأباتشي" ومقاتلات "أف 16" بشكل رئيسي، بالإضافة الى دعم من مقاتلات "أف 18" و "أف 15" ومقاتلات "توريندو" البريطانية و"رافال" الفرنسية وقاذفات "بي 1" وطائرات الاستطلاع من نوع "بريداتور" و"ريبر" وطائرات التزويد بالوقود من نوع "كي سي 135" وطائرات النقل من نوع "في 22 أوسبري" .

أما على الجانب السوري فقد شاركت منذ أيلول / سبتمبر الماضي أنواع الطائرات السابق ذكرها في الغارات الجوية، بالإضافة الى مقاتلات "أف 22" التي تشارك لأول مرة في عمليات قتالية، وتحدد المدى العملياتي لهذه المقاتلات في قوس يمتد من الشمال السوري باتجاه الحدود التركية إلى الشمال الشرقي باتجاه الحدود العراقية، مركزاً على محافظات حلب والرقة والحسكة ودير الزور. ونفذت هذه الطائرات هجمة أولى مركزة في اليوم السادس من أيلول / سبتمبر بتشكيل مكوّن من ثلاث موجات هجومية معززة بنحو 50 صاروخ توماهوك استهدفت كامل مناطق هذا القوس العملياتي، وكانت قد انطلقت من قواعد جوية أرضية. فمقاتلات الـ "أف 22" انطلقت من قاعدة الظفرة في الإمارات والـ "أف 16" والـ "أف 15" انطلقت من قاعدة العيديد في قطر وقاعدة علي السالم في الكويت وأيضاً من قاعدة جوية في الأردن. أما عن قاذفات "بي - 1" ومقاتلات الـ "أف 18" فقد انطلقت الأولى من قاعدة دييجو غارسيا في المحيط الهندي فيما انطلقت الثانية من على متن حاملة الطائرات الأميركية جورج بوش الموجودة في مياه الخليج.

الحملة الجوية المكثفة على داعش: نتائج مخالفة للتوقعات

تراجع "داعش" في أجزاء من كوباني يسجّل لوحدات الحماية الشعبية الكردية
وعلى الرغم من هذا الحشد العسكري الكبير على مستوى العتاد والعدة والقواعد الجوية إلا أن النتائج مخالفة تماماً لما هو متوقع من مثل هذه الحملة الجوية المكثفة:

-  لم توقف هذه الغارات تنظيم "داعش" عن التقدم في كل من سوريا والعراق. ففي العراق بات التنظيم يسيطر على أكثر من 80% من أراضي محافظة الأنبار خصوصاً بعد سيطرته على هيت أحد آخر معاقل الحكومة العراقية في المحافظة، وأصبح فعلياً على بعد خطوات من الوصول إلى أبواب بغداد لدرجة أجبرت الجيش العراقي على البدء فى نشر قواته فى محيط العاصمة. في سوريا مازال التنظيم يحتفظ بكامل الأراضي التى سيطر عليها فى الشمال والشمال الشرقي خصوصاً في محافظات الرقة ودير الزور وحلب. كما أن تقدمه فى المحور الشمالي مستمر وسيطرته على القرى الكردية مستمرة أيضاً لدرجة جعلته الآن على مشارف خط الحدود بين سوريا وتركيا فى مدينة عين العرب "كوباني" الكردية. مازال التنظيم منذ أسابيع يحاول اختراق المدينة على الرغم من الغارات الجوية المكثفة بقاذفات "بي-1" الثقيلة على قطاعاته هناك، ولكن متأخراً. بيد أن تراجع "داعش" في أجزاء من كوباني يسجّل لوحدات الحماية الشعبية الكردية التي تدافع عن المدينة.

- أيضا لا بد من التوقف عند عدم تعرض الطائرات الغربية والعربية المشاركة في الغارات وعلى علو منخفض فى كل من سوريا والعراق لأية محاولات لاستهدافها من قبل الدفاعات الجوية الخاصة بالتنظيم. "داعش" يمتلك تشكيلة واسعة من المضادات الأرضية مثل المدافع الرشاشة المضادة للطائرات من عيارات "14.5 – 23 – 57" ملم، بالإضافة إلى صواريخ "إيغلا" و"ستريلا" المضادة للطائرات وأيضاً صواريخ "أف أن 6" الصينية التي استخدمها التنظيم مؤخراً في إسقاط مروحيات عراقية في أجواء مصفاة بيجى. هذا يضع علامات استفهام عديدة حول سبب الاستهداف الدائم للطائرات العراقية والسورية من قبل دفاعات "داعش" الجوية وعدم استهدافها للطائرات الغربية التي من المفترض أنها جاءت "لإنهاء وجود التنظيم ودولته" ولو في حرب "طويلة الأمد".  يمكن التوقف أيضاً عند النهج العسكري الأميركي في التعامل مع معركة عين العرب "كوباني" حين أسقطت الطائرات الأميركية حاويات تحتوي على إمدادات عسكرية مرسلة من أقليم كردستان العراقي للقوات الكردية المدافعة عن المدينة، سقط عدد منها في قبضة "داعش" نتيجة لخطأ إستخباري أو استطلاعي أو غير ذلك. 

استخدام ذخائر حديثة لم يحقق نتائج مهمة

- بالنسبة للذخائر التي تم استخدامها في الغارات الجوية للتحالف الغربي والعربي فى سوريا والعراق فإن نوعياتها أيضاً تثير تساؤلات حول سبب عدم تحقيق نتائج مهمة بها. طائرات التحالف استخدمت عدداً كبيراً من الذخائر الموجهه بالليزر والمفترض أنها عالية الدقة مثل القنابل الجوية من نوع "جي بي يو12" و "جي بي يو 32" والتي تتراوح كلفة الواحدة منها ما بين نصف مليون ومليوني دولار. هذا إلى جانب استخدام صواريخ التوماهوك في بداية الغارات على سوريا والتي تبلغ تكلفة الواحد منها مليون دولار. تم إطلاق هذه الصواريخ من على متن المدمرتين الأمريكيتين “USS Philippine Sea” و"The Arleigh Bruke"  اللتان تمركزتا في البحر الأحمر. على الرغم من هذه الذخائر المتطورة إلا ان القوة البشرية لتنظيم "داعش" ظلت محتفظة بقوامها التنظيمي والقيادى مستفيدة من الفشل الاستخباري الواضح والذي حدث "عن قصد وغير قصد" من قبل الولايات المتحدة الأميركية. فعلى الرغم من الطلعات الاستطلاعية المستمرة للطائرات الأميركية منذ ما قبل انطلاق الغارات على العراق في آب / أغسطس وعلى سوريا فى أيلول / سبتمبر، إلا انها فشلت في تحقيق إصابات نوعية في قيادات الصفّين الأول والثاني للتنظيم.

- هذا الفشل الاستخباراتي يتجلى في حقيقة أن غياب مبدأ المفاجأة والسرية في التحرك العسكري الأميركي في سوريا مكّن تنظيم "داعش" و"جبهة النصرة" من إخلاء مقارهما الرئيسية في محافظات الرقة ودير الزور وإدلب قبل أيام من بدء غارات التحالف، وبالتالي جاءت نتائج الغارات أقل بكثير مما كان متوقعاً سواء على مستوى تدمير مستودعات الأسلحة أو حتى إحداث خسائر بشرية كبيرة في صفوف هاتين الجماعتين. يضاف إلى ما سبق حقيقة أن غارات التحالف الدولي حققت إصابات عديدة بالمدنيين في سوريا والعراق خصوصاً في الفلوجة وتكريت العراقيتين نتيجة لأخطاء قاتلة فى المعلومات الاستخبارية المتوفرة، وهو السبب نفسه الذى أدى الى قصف مناطق عديدة في سوريا لم يكن مخططا لاستهدافها مثل مناطق في القلمون وريف حمص تم قصفها بصواريخ التوماهوك. وأدت هذه الأخطاء أيضاً الى استهداف متكرر من المقاتلات الغربية لقوات "الحشد الشعبي" فى العراق التي من المفترض أنها تقاتل "داعش".

المدمرة الأميركية Arleigh Bruke

الغارات الجوية الغربية والعربية على سوريا: استعراض

صاروخ جو - جو "سايدوايندر"
- ولعل أكثر ما يثير الاستغراب فى الغارات الجوية الغربية والعربية على سوريا بالتحديد ما يبدو أنه "نهج استعراضي". فهذه القوات استعانت من دون أي داعٍ بطائرات "أف 22" الحديثة جداً في تنفيذ عمليات قصف فى مدينة الرقة، واستخدمت ذخائر تستطيع ان تحملها طائرات "أف 15" المشاركة أيضاً في هذه العملية. أيضاً، شاركت بعض طائرات الـ "أف 16" في الغارات على سوريا وهي محملة بصواريخ مضادة للرادار من نوع "هارم" إلى جانب صواريخ جو- جو من نوع "سايدوايندر" و"ام آر ام" وهو ما لم يكن له أي مبرر استناداً إلى حقيقة أن الحكومة السورية تلقت إشعاراً مسبقاً بهذه الغارات. كما يمكن التساؤل عن المشاركة العربية "الهزيلة وغير الفعّالة" في هذه الغارات، فهل كانت مهمتها الوحيدة إصباغ عمليات التحالف بصبغة اقليمية؟. المقاتلات العربية شاركت في الموجة الثالثة التي تم فيها عدد محدود جداً من عمليات القصف، حيث شاركت أربع مقاتلات من نوع "أف 15" تابعة للقوات الجوية السعودية وأربع مقاتلات "أف 16" تابعتين للقوات الجوية الإماراتية ومثلها تابعة للقوات الجوية الأردنية، إلى جانب مقاتلتي "أف 16" تابعتين للقوات الجوية البحرينية ومقاتلة واحدة من نوع "ميراج" تابعة للقوات الجوية القطرية.

في الخلاصة، اعتبار أن المجهود الجوي للتحالف الغربي- العربي في سوريا والعراق يهدف إلى إنهاء وجود تنظيم "داعش" هو أقرب إلى السذاجة بالمنطق العسكري، في ما يبدو واقعاً أنه أقرب الى "إفساح الطريق أمام داعش" وليس القضاء عليه. الأهداف الحقيقية للغارات في سوريا على وجه الخصوص تتضح يوماً بعد آخر مع عودة الحديث عن "منطقة عازلة" و"حظر جوي". فالمجهود الجوي المتوافر للتحالف يستطيع إنهاء التواجد العسكري للتنظيم على الأرض، لكنه بدلاً من ذلك يقول ببساطة إن الموضوع "يحتاج الى أكثر من عام وقد يحتاج إلى تدخل بري" وهذا هو بيت القصيد.