كيف قُتل سلفادور ألليندي؟
ما تبقّى من الرئيس التشيلي الأسبق، سلفادور ألليندي، نظارة مهشَّمة وملطَّخة بالدماء، في مبنى وزارة الخارجية الفنزويلية، وهي عمل فني للفنان التشيلي، كارلوس ألتامير. ويبقى السؤال: مَن أطلق الرصاصة الأخيرة على ألليندي؟
إذا زرتم مبنى وزارة الخارجية في العاصمة الفنزويلية، كاراكاس، لا تستغربوا العمل الفني للفنان التشيلي، كارلوس ألتامير، في بهوها. هو مجسّم مضخّم خمسين مرة عما تبقّى من نظارة الرئيس التشيلي الأسبق، سلفادور ألليندي.
النظّارة الأصلية عُثر على ما تبقّى منها مهشَّماً ومغطّى بالدماء في بالاسيو دي لا مونيدا، بعد وفاة ألليندي في أيلول/سبتمبر 1973. والفنزويليون، عبر وضعهم نموذجاً مكبَّراً عنها، إنما يكرّمون القائد الذي قرّر المواجهة حتى الرمق الأخير، ويعلنون انحيازهم الواضح إلى إرادة الشعوب في وجه المؤامرات المدعومة خارجياً، ولاسيما أميركياً.
لسلفادور ألليندي نصيب وافٍ في هذا الصدد. فهذا الطبيب، الذي كبر في عائلة مهتمة بالسياسة، واجه الغطرسة الأميركية في بلاده، النحيلة جغرافياً في الخريطة، وأثار خشية الولايات المتحدة من تمدد نموذج التشيلي الديموقراطي إلى غيرها من الدول في فترة السبعينيات، التي ضجّت بأفكار الاشتراكية وتأييد اليسار حول العالم.
عام 1973، نُفِّذ الانقلاب العسكري، المدعوم من واشنطن، ضد حكم ألليندي، بحسب ما أكدت الوثائق التي نُشرت في عهد الرئيس بيل كلينتون. انتهى الحكم الديموقراطي في البلاد لنحو عقدين. قُتل الرئيس الذي رفض الاستسلام، وقُتل عشرات آلاف المعارضين لقائد الانقلاب أوغستو بينوشيه، على مدى أعوام حكم الأخير.
مرّ زمن على تشيلي قبل أن يستعيد ألليندي رمزية حضوره ومكانته في وجدان الجماهير التي أحبّها، ورفض أن يتركها تواجه الانقلاب، على رغم وجود خطة جاهزة لمغادرته، بحسب ما نصحه بعض المقرّبين إليه. مر ّ على بلاد الزلازل والثروات عصرٌ من نار ودم خلال حكم بينوشيه، الذي استمرّ حتى عام 1990، لكن ألليندي اليوم حاضر بقوة في الذاكرتين الشعبية والرسمية وكل مناحي الحياة في تشيلي، ولاسيما بعد وصول اليسار إلى سدّة الحكم، وإعادة الاعتبار إلى سياساته الاشتراكية، التي جعلت التعليم والطبابة حقاً لجميع المواطنين.
اللحظات الأخيرة
سريعاً، توالت أحداث اللحظات الأخيرة من حياة هذا الرجل، التي انتهت حين كان في الـ65 من عمره. حياة تداخل فيها الخاص والعام، لشدة انشغال الرجل المولود عام 1908 في فالباراسيو، بالسياسة.
في التاسع من صباح 11 أيلول/سبتمبر 1973، وبعد ساعات على بدء الانقلاب في مختلف مدن البلاد، حاصر مؤيدو بينوشيه القصر الرئاسي في سانتياغو، مطالبين ألليندي بالاستسلام أو الهروب، لكن الرئيس، المنتخَب ديموقراطياً، رفض. وبكل عزم على المواجهة، ارتدى الوشاح الرئاسي، الذي سبق أن لبسه رؤساء التشيلي مدة قرنين من الزمن، ووجّه رسالة أخيرة إلى الشعب من شرفة القصر الرئاسي، بُثت عبر الراديو، مؤكداً للشعب التشيلي أنه لن يستسلم.
كيف مات ألليندي؟
أُثير جدل، طوال أعوام، بشأن كيفية وفاة ألليندي، الذي نُقل في مروحية إلى منطقة فينا ديل مار، البعيدة نحو 120 كيلومتراً عن سانتياغو، ودُفن هناك بحضور بناته الثلاث وزوجته، لكن أحداً لم يرَ جثته، ولم يسمح للعائلة بفتح النعش لوداع الرئيس الراحل.
وبحسب طبيب ألليندي الشخصي، باتريشيو غويجون، أطلق الرئيس على نفسه النار من سلاح آلي كان صديقه الرئيس الكوبي فيديل كاسترو أهداه إياه. الطبيب، الذي كان وحده في الغرفة مع ألليندي، قال إنّ الرئيس فضّل الانتحار على أنّ يُلقي جنود بينوشيه القبض عليه.
وبعد نقل جثمان ألليندي إلى مستشفى سانتياغو العسكري، أتت نتائح الفحص الطبي لتؤكد ما ذهب إليه غويجون.
لكنّ تقريراً عسكرياً من 300 صفحة أُعِدّ وأُبقي طيَّ الكتمان، منذ عام 1973، ظهر في ركام منزل أحد القضاة العسكريين، بعد زلزال ضرب جنوبي البلاد، غذّى فرضية قتل ألليندي. وهي فرضية كان الشاعر التشيلي، الحائز جائزة نوبل للآداب، بابلو نيرودا، تناولها بعد مقتل ألليندي ببضعة أيام، حين كتب: "لقد أُخفيت حقيقة اغتياله. كان عليهم قتله لأنه ما كان ليستقيل أو يستسلم".
التقرير تضمّن مقابلة مع لويس رافال، الخبير في الطب الجنائي، أشار إلى أنّ سلاحين، وليس سلاحاً واحداً، قتلا الليندي. الرئيس، بحسب رافال، قُتل بطلقات سلاح بعيار ناري صغير، وبطلقات من بندقية كلاشنكوف، حين كان يحتضر، أو بعد موته، للتأكد من وفاته.
وكان رافال نشر تقريراً عام 2008، يؤكد أنه، بعكس ما ورد في تقرير الطب الشرعي في إثر موت ألليندي، فإنّ الجروح في جثمانه لم تكن متطابقة مع إطلاق رصاصة في حالة الانتحار.
تقاطعت هذه المعلومات مع طلب عدد من أُسَر مساعدي ألليندي نبشَ جثامين أحبتهم في إبّان الانقلاب. وتبيّن أنهم قُتلوا اغتيالاً، الأمر الذي دفع القضاء التشيلي إلى إصدار أوامر بنبش رفات ألليندي، للتأكد من سبب وفاته في شهر نيسان/أبريل 2011.
أُعيد تشريح جثمان ألليندي، وتبين أنه جرح نفسه برصاص، لكن ما قتله هو بالفعل سلاح آلي، الأمر الذي كرّس نظرية "الانتحار بمساعدة"، والتي كان أشار إليها كُثُر، وبينهم الصحافي كاميلو توفيك، الذي ألّف كتاباً عن الانقلاب في ساعاته الأولى، جاء فيه أنّ الرئيس قتله جندي أو قنّاص، أو ربما أحد مساعديه. لكن عائلة الراحل، التي كانت مقتنعة بفرضية الانتحار، كرّست الفكرة بتقبلها أنّ الأب والزوج والرئيس الشرعي لتشيلي قضى انتحاراً، من دون تفاصيل إضافية.
أمّا للتاريخ، فيبقى السؤال: مَن أطلق الرصاصة الأخيرة على سلفادور ألليندي؟ وحدها نظارته المحفوظة في متحف التاريخ الوطني في سانتياغو شاهد أكيد وصامت!
اقرأ أيضاً: قصة 11 أيلول/سبتمبر الأولى: حدث في تشيلي