مسؤولية أوروبا التاريخية في الصراعات ولحظة القرار المصيري
يجب التفكير في مستقبل أوروبا مع روسيا، لأن نظام الأمن الأوروبي الذي لا يشمل روسيا هو ببساطة إنكار للواقع ولا يمكن أبداً أن يخدم السلام الأوروبي.
-
مسؤولية أوروبا التاريخية في صراعات الدول ولحظة القرار
كتب مدير برنامج الدراسات الأوروبية في أكاديمية شنغهاي للحوكمة العالمية تشون شون، مقالاً طرح فيه البعد التاريخي للحروب التي "أقحمت أوروبا" نفسها فيها مثل الحرب العالمية الأولى والثانية، مقارناً هذه الأحداث بالأحداث التي تجري الآن في أوكرانيا. واعتبر شون أنّ "أوروبا يجب أن تفكّر في مستقبلها مع روسيا"، وأنّها "مسؤولة حالياً عن قرار السلام في العالم".
وفيما يلي نص المقال منقولاً إلى العربية:
لا شك أنّ "العملية العسكرية الخاصة" الروسية في أوكرانيا، واحدة من أخطر الصراعات الجيوسياسية ذات الأهمية الدولية منذ نهاية الحرب الباردة. وإذا استمرت بالتصاعد، فلا يمكن استبعاد أن تؤدي إلى أكثر النزاعات المسلحة مأساوية وأكبر كارثة إنسانية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فكيف يمكن للعالم المتحضر أن يضع حداً لهذا الصراع المسلح في أسرع وقت ممكن؟ ونحن أمام لعب كارثية محصلتها النهائية صفر.
أوروبا قد تعلمت القليل من التاريخ
بالنظر إلى أقوال وأفعال أطراف النزاع، يمكن تبيّن مسار الصراع المفتوح والمتّجه نحو تحديد فائز واحد فقط.
روسيا، على سبيل المثال، وضعت أوراقها على الطاولة وأوضحت موقفها لحلف شمال الأطلسي وأوكرانيا قبل وقت طويل من التصعيد: يجب ألاّ يتوسع الناتو شرقاً، ويجب أن تكون أوكرانيا محايدة، لذلك في الوقت الحالي، لا يبدو أن روسيا ستوقف الحرب قبل تحقيق أهدافها.
أوكرانيا، التي جعلت في السنوات الأخيرة من طموح انضمامها إلى حلف "الناتو" أبرز مطلب "وطني"، اختارت الآن مواصلة القتال بدعم من "الناتو"، فالتنازل بالمعنى الروسي أمر غير وارد بالنسبة إلى أوكرانيا، حيث حلف "الناتو" والاتحاد الأوروبي لم يتركا مساحةً لإيقاف الصراع إلاّ وأقفلوها، من معاقبة روسيا إلى دعم أوكرانيا عسكرياً، وكل ما تبقى هو المواجهة العسكرية المباشرة بين الكرملين و"الناتو". ووفقاً للرئيس الأميركي جو بايدن، سيتم تخفيض رتبة روسيا إلى "دولة منبوذة" من المجتمع إلى "دولة منبوذة".
بين عشيةٍ وضحاها تخلت ألمانيا، أقوى اقتصاد في الاتحاد الأوروبي، عن قصة "القوة المدنية" التي تم بناؤها بشق الأنفس وصيانتها بعناية في العقود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وأعلنت على عجلٍ عن تسليح بـ "صندوق خاص" بقيمة 100 مليار يورو (ما يقرب من 110 مليار دولار). فمنطق الصراع ومنطق تفكير أطرافه ليس غريباً، إذ كانت الحرب العالمية الأولى، "الكارثة الأولى في القرن العشرين" كما أطلق عليها بحق المؤرخ الأميركي جورج ف. كينان، ناتجة عن هذا المنطق في التفكير.
من قبل، كانت الدول القومية الأوروبية، معززةً بمستعمراتها ونفوذها العالمي ومعادية لبعضها البعض، وكان خوض الحروب هي الوسيلة لهيمنة طرف على أطراف أخرى. وعليه، اتبع "مؤتمر فرساي " في عشرينات القرن الفائت، نفس المنطق وأوجد نظاماً عالمياً يحصل فيه الفائز في الحرب على كل شيء. بالطبع، ألمانيا المهزومة لم تكن راضيةً عن هذا، وشنت حرباً عالمية أخرى، بدت أمامها كل خسائر الحروب السابقة بسيطة.
لم ترضي الحربين العالميتين رغبة أوروبا في اتخاذ قرار بتحديد المنتصر النهائي، فاستمرت المواجهة بأقل تفجر ممكن خلال الحرب الباردة في ظل الردع النووي المتبادل، حيث نجا العالم مراراً وتكراراً بأعجوبة مما لا يمكن تصوره في النزاعات الساخنة.
في كل الأحوال الحربية، من الشائع أن تعطي الأطراف المتحاربة بُعداً أخلاقياً لأفعالها وتتهم بعضها البعض بارتكاب جرائم حرب. على سبيل المثال، وجه ما مجموعه من 93 مفكر وعالم ألماني "نداء إلى العالم المتحضر"، برر الحرب الألمانية على أنها دفاعية عن ثقافة بلادهم.
مع ذلك، اتفق كل من ديفيد لويد جورج، رئيس الوزراء البريطاني في وقت الحرب العالمية الأولى، وكريستوفر كلارك، مؤرخ كامبريدج للقرن الحادي والعشرين، على أن الحرب العالمية الأولى كانت بسبب "السير أثناء النوم" لجميع المنخرطين فيها، الذين انزلقوا بنشاط وعن طيب خاطر إلى فخ الحرب الواضح.
يبدو أن أوروبا قد تعلمت القليل من التاريخ. يتهم حلف "الناتو" روسيا بـ "انتهاك القانون الدولي". وجاء الرد الروسي عبر عريضة لاتحاد رؤساء الجامعات الروسية يحمل توقيعات 250 رئيساً جامعياً يدعمون "نزع السلاح" و "نزع النازية" و "الحماية من التهديد العسكري المتنامي" في أوكرانيا. . هل التاريخ الأوروبي في طريق مسدود أم أنه يخدع نفسه؟
أوروبا جلبت نفسها مراراً وتكراراً إلى شفا الانهيار والدمار
إن نظرة عامة موجزة لتاريخ الحروب الأوروبية منذ بداية القرن العشرين، تدفع إلى استخلاص نتيجة من المرجح أن يرفضها الزملاء الأوروبيون بسخط: أوروبا هي بلا شك منارة الحضارة الإنسانية الحديثة ، لكنها جلبت نفسها مراراً وتكراراً إلى شفا الانهيار والدمار.
اسمحوا لي، بصفتي شخصاً معجباً بإنجازات أوروبا في الحضارة ومع تمسكي بالثقافة الصينية، أن أوجه نداءاً إلى أوروبا: هذا الصراع لا يتعلق حقاً بالمعركة النهائية بين الحرية الإنسانية وانعدامها، بل استمرار المنطق التاريخي لأوروبا الحديثة الذي يتجه نحو المحن. لقد حان الوقت لكي يواجه الأوروبيون هذا المنطق ويضعوا حداً لهذه اللعبة الجنونية التي لا يربح فيها الخاسر.
تتعامل الثقافات خارج أوروبا مع هذا المنطق التاريخي الأوروبي بخوف واشمئزاز، ويشكل سبباً مهماً وراء امتناع العديد من البلدان، حيث يعيش ما يقرب من نصف سكان العالم، عن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن الوضع في أوكراني. ولا يحق لأوروبا أن تجبر العالم كله على مواجهة الاختيار بين الحرب والسلام، بين البقاء والدمار، بعد قرن كارثي كالقرن العشرين.
يرتفع الصوت الأوروبي بأن الصين يجب أن تشارك في الوساطة الدبلوماسية لتسوية الصراع. من جانبها، لا تستطيع الصين أن تقاوم حاجة أوروبا الجادة إلى المساعدة الصينية. لكن، هل تقبل أوروبا قيم الصين في "السلام والوئام"؟ وهو على عكس المنطق الأوروبي، فالتجربة الصينية للتاريخ تشجع على التسويات والممارسات التي غالباً ما يتم تجاهلها في أوروبا على أنها "سلام المقبرة" و "السلام الزائف". وهل ستقابل العقيدة الصينية بتعاطف أو ازدراء في أوروبا؟ هل تتوقع أوروبا تسوية سلام في حالة الوساطة الصينية، أم أنها تريد من الصين أن تقف إلى جانبها، وبالتالي تؤدي دوراً في المحصلة الصفرية الأوروبية؟
يجب التفكير في مستقبل أوروبا مع روسيا، لأن نظام الأمن الأوروبي الذي لا يشمل روسيا هو ببساطة إنكار للواقع ولا يمكن أبداً أن يخدم السلام الأوروبي. ومن هذه النقطة، يتبين أن فكرة التقدم وتوقع ما بعد الحداثة هي خداع ذاتي قصير النظر.
أصبحت روسيا وأوروبا الغرب منفصليمع روسيان عن بعضهما البعض في العديد من النواحي: الاجتماعية والثقافية والإيدولوجية.
إذا اختارت أوروبا استمرار المواجهة، فإنها تواجه مستقبلاً قاتماً، والعالم بأسره مهدد أيضاً بالقرار الأوروبي بإعادة العالم إلى ما قبل قرنين من الزمن. السلام المكلف أفضل دائماً من حرب تمهد طريق البطولة لأوهام المنتصرين المهيمنين.
يجب أن تتخذ أوروبا قرارها بنفسها في هذه اللحظة بالذات، وهذه هي مسؤوليتها التاريخية عن السلام في العالم.