"يديعوت أحرونوت" تكشف كذب الرواية الإسرائيلية حول تفجير صور عام 1982

صحيفة "يديعوت احرونوت" تكشف كذب الرواية الرسمية حول أسباب تفجير مقر الحاكم العسكري في صور سنة 1982: عملية استشهادية وليس تسرب غاز.

  • صورة لموقع الانفجار
    صورة لموقع الانفجار في صور جنوب لبنان

بمناسبة مرور 38 عاماً على العملية الاستشهادية التي نفذها الشهيد أحمد قصير عام 1982، ضد مقر الحاكم العسكري لجيش الاحتلال الإسرائيلي في مدينة صور جنوب لبنان، نشرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" في ملحقها الخاص "7 أيام"، والذي نُشر يوم الجمعة الماضي، تقريراً تضمن وثائق ومعلومات جديدة تدحض الرواية الرسمية التي تتبناها المؤسستان السياسية والأمنية الإسرائيلية حتى اليوم، والتي تدعي أن الانفجار نجم عن تسرب للغاز، وتؤكد أن نتيجة عملية  تفجيرية "انتحارية" (استشهادية).  

صحيح أنها ليست المرة الأولى التي تنشر فيها وسائل إعلام في "إسرائيل" تقارير وتقديرات تفيد أن الانفجار ناجم عن عملية، لكن الصحيفة تقدم اليوم ما تقول إنها وثيقة من جهاز الشاباك، وتسلط الضوء على التعتيم الذي مارسته المؤسسة الرسمية على أسباب الانفجار، والضغوط التي مورست على الصحيفة لمنعها من نشرها معلوماتها، وأسلوب الترغيب والترهيب الذي اتبع لهذه الغاية.

واليوم ذكرت الصحيفة أن المسؤول السابق الكبير في الشاباك، تسفي بندوري، دعا السلطات الأمنية الإسرائيلية إلى الاعتراف بأن التفجير لم ينجم عن تسرب الغاز، وإنما نجم عن هجوم بسيارة مفخخة. ونقلت الصحيفة عن بندوري قوله إن التستر على هذا الهجوم، المستمر منذ 38 عاماً، "كان نتيجة حرب غير ضرورية، حرب خيار، إهمال مهني، رافقتها ممارسة تستر بالقوة، وجرح لعدد كبير من الأشخاص. وعلينا الاعتراف بالحقيقة، حتى إن كان ذلك متأخراً".

وفيما يلي ترجمة حرفية لأهم ما ورد في تقرير "يديعوت أحرونوت" في عددها يوم الجمعة الماضي، الذي أعده محلل الشؤون الأمنية في الصحيفة رونين برغمان، تحت عنوان "المعركة الأخيرة على صور":

على مر 38 عاماً يدّعون في الشاباك والجيش الإسرائيلي مراراً وتكراراً أنّ: كارثة صور الأولى، التي أسفرت عن مقتل 76 إسرائيلياً، كانت نتيجة تسرب غاز. لكن هذا الأسبوع تكشف "يديعوت أحرونوت" أن تقريراً داخلياً كتبه نائب رئيس الشاباك الأسبق ووثائق سرّية تُنشر هنا للمرة الأولى تعزّز الادعاء بأن الحديث يدور عن أول عملية انتحارية لحزب الله... حالياً الكثير من الناجين، الأرامل وأيتام الكارثة يمارسون ضغطاً على الشاباك والمؤسسة الأمنية، للكفّ عن حجب الحقائق والتغطية وانتشال من تحت أنقاض المبنى في صور. وما بقي مدفوناً هناك: الحقيقة. 

هذا التقرير السرّي والحسّاس كان مسؤولون رفيعون سابقون في الشاباك يرغبون ألاَّ تروه. منذ سبع سنوات تقريباً تتنقل داخل جهاز الاستخبارات وثيقة سرّية، مكتوبة بيد نائب رئيس الشاباك الأسبق نحمان طال، وأصبحت منذ ذلك الحين قنبلة موقوتة. الورقة المُصنّفة هي دليل إضافي على ما هُمِس به منذ 38 عاماً في أروقة الشاباك بين الغرف والجدران: الجيش الإسرائيلي والشاباك لم يمنعا العملية الأضخم في تاريخ الدولة وتجنبوا التحقيق فيها بعد ذلك. 

في تشرين الثاني/نوفمبر 1982، قرابة الساعة السابعة صباحاً، هزّ انفجار ضخم المبنى الحكومي والقيادات الإسرائيلية في صور في لبنان. تدمر المبنى بالكامل، وانتُشِلت من بين الأنقاض جثث 75 إسرائيلياً. فيما لاقى إسرائيلي آخر كان من بين الجرحى، حتفه فيما بعد. حددت لجنة تحقيق عيّنها رئيس الأركان بسرعة فائقة أن السبب وراء الكارثة كان يعود لتسرّب غاز. أما الإفادات والقرائن التي تدل على أن الحديث يدور عن عملية إرهابية، وفي الواقع أول عملية انتحارية للتنظيم الذي سيعرفه كل العالم بعد أيام باسم حزب الله -  حظيت بتجاهل ساحق. 

حتى عندما تجرأ أحدهم بين الحين والآخر على التشكيك أو طرح الأسئلة، وقف الشاباك أمامه كالمتراس: كارثة صور هي حادثة. عطل. حادث طبيعي. ويستحيل بأي شكل من الأشكال أن تكون عملية إرهابية. "ينبغي الفهم أنه حتى بعد 38 عاماً على ذلك، لدى الشاباك العديد من الأسباب لفعل أي شيء كيلا تُثار القضية"، يقول مسؤول رفيع سابق في التنظيم. "عطل في صهاريج الغاز هو نوع من قوة قاهرة، حدها الأقصى أنه لم يقم بعض المتعهدين وأي رئيس عرفاء أول بوصل الأنبوب كما يجب. لكن إن كانت هذه عملية إرهابية، آنذاك المذنبون هم أولئك الذين لم يحموا المبنى كما يجب، أي الجيش الإسرائيلي، وأولئك الذين كانوا مسؤولين عن إحباط العمليات الإرهابية ولم يحبطوها، بعبارة أخرى، الشاباك". 

طيلة السنوات الأخيرة نشر كاتب هذه الأسطر إفادات وأدلة حول أن كارثة صور كانت عملية إرهابية. هذه المنشورات أشارت مراراَ وتكراراَ إلى سلسلة طويلة من التغطية، التستر وحجب الحقائق. صحيح أن هذه المواد تصدرت العناوين في الصحف، لكن يبدو أنها لم تخترق غلاف الحماية للجيش الإسرائيلي والشاباك. لغاية الآن. 

هذا الأسبوع تكشف "يديعوت أحرنوت" أنه في بداية العقد الماضي، قرر نائب رئيس الشاباك الأسبق، نحمان طال، التحقيق بنفسه بكارثة صور. كان طال آنذاك متقاعداً من الشاباك، وتحقيقه كان في نطاق هيئة التراث في الجهاز. كل أرشيف الشاباك ومسؤولي الجهاز الرفيعين كانوا في متناول يديه. لقد جمع وثيقة تلو أخرى، حقيقة تلو أخرى، حجرًا تلو آخر. وعندها أدرك طال أن أمرًا ما هنا لا ينسجم مع النتيجة القطعية بأن الانفجار كان حادثاً.

بعد عشرات السنوات من تحديد الشاباك والجيش الإسرائيلي بشكل قاطع أن المبنى قد تدمر بسبب انفجار غاز، جاء شخص من الداخل وشكك بالأمر. من وجهة النظر هذه، تقرير طال الذي يُكشف عنه هنا هو بمثابة ثورة، لا أقل من ذلك. 

على أي حال، يبدو أنه حتى هذه اللحظة يحاولون في الشاباك إخفاء تقرير طال. عندما تبيّن لدى مسؤولين رفيعين سابقين في الشاباك أننا نوشك على نشر بعضاً من التقرير ووثائق جديدة، بدأ بعضهم بممارسة الضغوط بغية منع "يديعوت أحرونوت" من نشر المقال الذي تقرؤونه الآن. "ماذا عساكم تريدون من ذلك، إيقاظ الأموات من سباتهم؟ سيتسبب ذلك بالمشاكل للجميع"، قال لنا أحدهم. "إن لم تقوموا بالنشر الآن، حينها أنا أضمن لكم في المستقبل قصصاً قوية جداً"، تعهد آخر. فيما بتَّ الثالث أنه لا يمكن عموماً نشر هذا الكلام من دون مصادقة الشاباك. 

هذا الأسبوع تكشف يديعوت عن مقاطع من تقرير طال، وشهادات ووثائق إضافية، تعزز كثيراً التفسير الذي يقول أن كارثة صور لم تكن حادثة، بل عملية إرهابية. لكنهم أيضاً يعرضون أمراً ما آخر: منظومة طويلة السنوات من التعتيم، حجب الحقائق والتغطية في الجيش الإسرائيلي والشاباك، التي إلى حد ما تستمر لغاية اليوم أيضًا. هذا وأُفيد من الشاباك ردُا على ذلك ما يلي: "الحديث بخصوص هذه القضية قائم وسيبقى بشكل مباشر بين الجهاز والعائلات وليس في الصحيفة".

بعد أن كتب تقريره ومع تدهور وضعه الصحي، قرّر نحمان طال كتابة ما يشبه كتاب مذكراته، حيث تضمن ما يعرفه عن كارثة صور. وزّع الكتاب عام 2016 بشكل محدود جداً على عدد من الزملاء الأساسيين، مع تحذير: المادة التي تملكونها لا تخضع للرقابة. بعض أقسامه ينشر اليوم للمرة الأولى.

رئيس الأركان آنذاك، الجنرال رفائيل إيتان (رفول) تصرّف بسرعة. "باستعجال، فوري. موضوع البحث: انفجار المقر الحكومي في صور، تعيين لجنة تحقيق"، كان هذا عنوان الأمر الذي صدر من مكتبه يوم الكارثة. عيّن رفول اللواء (في الاحتياط) وعضو كنيست سابق مائير زورع، رئيسا للجنة، وكلّفه إنهاء التحقيق خلال ثمانية أيام فحسب. 

اللجنة حددت بشكل قاطع أنّ دمار المبنى ناجم عن دمج عنصرين رئيسيين: هيكل المبنى، الذي لم يعدّ لاستيعاب حمل ثقيل، وخليط الغاز الذي انتشر في فضاء المبنى، انفجر، وهذا ما تسبب باهتزاز أفقي للمبنى المتضعضع،  وأدى الى انهياره. ويحسم زورع قائلاً: "بموجب نتائج المبنى المنهار ومحيطه، وبموجب الاستخبارات التي بحوزتنا، لم نصطدم بحقيقة يمكن أن تشير الى انفجار ناجم عن عمل تخريبي".

هذه النتيجة سلّمت الى الحكومة وأصبحت سبباً رسمياً للكارثة، وهذا ما سُجل لغاية اليوم في صفحات التاريخ. هذا الوضع كان يمكن أن يبقى هكذا للأبد، لولا خزنة موجودة واحدة، انكشفت في سراديب أرشيف قسم التحقيقات في الشرطة العسكرية. 

بعد أن أكّدت لجنة زورع أن تسرّب الغاز تسبّب بالانفجار، أعطى المدّعي العسكري الرئيسي  توجيهات بفتح تحقيق جنائي من قبل قسم التحقيقات في الشرطة العسكرية، بغية تحديد المسؤولين عن الإهمال. ما سيكشفونه في قسم التحقيقات يثير أجهزة الاستخبارات حتى هذا اليوم. 

في أثناء التحقيق عثر محققو قسم التحقيقات على لبنانيَين، من سكان صور، عملا في كراج لا يبعد عن المبنى. مضمون شهادة اللبنانيَين ينُشر هنا لأوّل مرّة. "في صباح الحادث خرج (اللبنانيَان) في سيارة دايهاتسو حمراء في طريقهما ومرّا بجانب المبنى الحكومي، من الجنوب إلى الشمال. عندما وصلا قرب المبنى الحكومي لاحظا مقابلهما سيارة  بيجو 504 بلون فاتح، على ما يبدو أبيض. في السيارة جلس السائق لوحده، يبدو شابا صغيرا، بعمر 28-30". 

ذكر الشاهد اللبناني الذي قاد السيارة للمحققين المذهولين كيف توقف بشكل مفاجئ، لأنه لاحظ أن "سيارة البيجو التي تضيء مصابيحها تنعطف يسارا"، وأن السيارة تجتازه و"تدخل إلى داخل المبنى عميقا إلى الداخل وتستهدف بوابة المدخل التي كانت مفتوحة". بحسب كلامه،" سيارة البيجو بدت له ثقيلة، لأنها عندما انعطفت يسارا كانت منخفضة وقريبة من الأرض".

لم يقتنع كل محققي قسم التحقيقات بحكاية اللبنانيَين. رئيس الطاقم، ليؤن بخار، يعتقد حتى اليوم أنّ اللبنانيَين كذبا. في المقابل، يتسحاق دور، بعد مدة أصبح قاضي إقليم، مقتنع بأنهما كانا صادقَين. وبحسب كلامه، هو أشار إلى ذلك في التقرير الموجز الذي قدّمه لمسؤوليه، حيث أكّد أن المسألة تتعلق بعملية إرهابية. 

في إطار العمل على تقريره السرّي، أجرى نحمان طل مقابلة مع يتسحاق دور، الذي قال له بخصوص اللبنانيَين إنّ" انطباعاتي كانت، إن كان عليّ المراهنة، بأنّ هذين الشخصين قالا الحقيقة الناصعة". هو سلّم طل تصريحا طويلا باسمه، المشمول بالتقرير السرّي، ويوضح لماذا اقتنع بأن المسألة تتعلق بعملية إرهابية. من بين جملة أمور، يذكر هناك أنّ محققي قسم التحقيقات حصلوا على شهادة الطبيب الذي عالج اللبنانيَين، والذي ذكر أنه فورا بعد الحادث أخبراه بصيغة مطابقاً. 

في أعقاب نتائج قسم التحقيقات، وكما يكشف حالياً لأول مرة، أوصى خبراء رفائيل أن تجتمع لجنة زورع مُجدداً، وأن تجري على الفور نقاشاً شاملاً حول احتمال أن كارثة صور كانت نتيجة عملية إرهابية عبر سيارة مُفخّخة. شلومو أهرونيشكي.

كل هذه المعلومات القابلة للانفجار تم إخفائها في خزنة سراديب أرشيف قسم التحقيقات. الخزنة أخفيت وراء خزانة، المفتاح اختفى، ونُسيت من قبل الجميع. 

الجميع تقريباً. بعد سنة على كارثة صور الأولى، حصلت كارثة صور الثانية. هذه المرة لم يكن هناك شكّ: شاحنة مفخخة تحمل نصف طن من المواد المتفجرة انفجرت داخل قيادة الجيش الإسرائيلي. في الإنفجار القوي قتل 60 شخصاً. هناك أيضاً عيّن قسم التحقيقات فريق تحقيق، يترأسه المقدّم يتسحاق (تساحي) كهنا. كهنا، الذي اكتشف آنذاك مدهوشاً بالمواد في الخزنة، أدرك أمرين: الأول، إن كارثة صور الأولى كانت عملية إرهابية، والثاني، أنه في اللحظة التي أُعلن عنها أنها حادث- ماطلوا بالتحذير ما أدّى إلى كارثة صور الثانية. 

"منذ ذلك الحين أتجوّل فيما حجر صور كبير وثقيل على القلب"، قال كهنا قبل وفاته لرونان برغمان في عام 2013. "أدركتُ أن لجنة زورع كانت لجنة سياسية عُيّنت أو قيدت للوصول إلى نتائج مُحدّدة جدا. منذ ذلك الحين لم أستطع زيارة العائلات الثكلى. جعلوني أوقع على تصريحات سرّية. قول الحقيقة كان ممنوعاً، ولم أكن قادراً على الكذب والمواصلة في محاولة إقناعهم بمصداقية حكاية  الغاز". كهنا حاول عدة مرات نشر معلوماته حول كارثة صور، لكن تمّ إبقافه عبر هجمات من قبل الجيش. ذات مرّة قيل له بوضوح إنه سيحاكم في حال تفوه بكلمة عن الموضوع. 

لكنه روى لبرغمان، بأن هناك شيء ما في خزنة أرشيف قسم التحقيقات، وفيها وثائق تحقيق للقسم عن الكارثة الأولى. في 2008 انكشفت الخزنة. 

الوثائق كشفت تفصيلاً مصيرياً إضافياً، تم الكشف عنه هو أيضا للمرة الأولى: يتضح أن التحقيقات التي أجرتها الشرطة العسكرية المحققة للبنانيَين الذين شهدا على السيارة المتفجرة، إنضم إليها على الأقل في حالتين مختلفتين أيضا محققون من الشاباك. عناصر الشرطة العسكرية المحققة كانوا على علاقة مع جهات رفيعة المستوى بالشاباك، وأبلغوهم بتطورات الحادث. ورغم ذلك، فإن كل هذه المعلومات المهمة لم تخرج أبدا من صفوف المنظمة، ولا حتى تقرير رسمي للعائلات.

أثناء كتابة تقريره، توجه طال الى أمان والى الموساد بسؤال حول مدى مصداقية إدّعاءات حزب الله وإيران. وكذلك هو يكتب في تقريره، بأسلوب انتقادي: "إجابة أمان والموساد على مراجعتنا، عن أن ليست بحوزتهم معلومات جديرة بتأييد أو بدحض ادّعاءات حزب الله بشأن مسؤولية الحزب عن انفجار المبنى في صور، لم تساعد في دفع الموضوع قدماً. كان من الممكن توقع أن مع مرور سنوات كثيرة الى هذا الحد، ستكون بحوزة أجهزة الإستخبارات معلومات تزيل حالة اللا-تأكد حيال ادعاء حزب الله".