القصة الخفية منذ 41 عاماً للديون السعودية

كيف تمكن تاجر سندات اسطوري من "الأخوة سالومون" من عقد صفقة "حياة أو موت" والتي وسمت العلاقات الأميركية-السعودية لعدة أجيال؟

سايمون في السعودية
 

كتب أندريا وونغ في الاندبندنت: لم يكن الفشل خياراً مسموحا به. ففي تموز من العام ١٩٧٤، والسماء مغطاة بطبقة من الضباب قبيل الفجر، سافر ويليام سايمون، وزير المالية المعين حديثاً، مع نائبه غاري بارسكي، برحلة طيران الساعة الثامنة صباحاً من قاعدة أندروز العسكرية الجوية. كان الجو متوتراً على متن الطائرة. ففي تلك السنة، كانت أزمة النفط قد ضربت البلاد عندما قطعت بعض الدول العربية في منظمة "أوبك" النفط عن الولايات المتحدة، كردٍ على مساعدتها إسرائيل في حرب تشرين ١٩٧٣، مما أدى إلى رفع أسعار النفط أربعة أضعاف، فارتفعت نسبة التضخم، وهوت الأسواق المالية، ودخل الاقتصاد الأميركي في تراجع مطرد.

وصفت رحلة الأسبوعين لسايمون بالجولة الدبلوماسية الاقتصادية عبر أوروبا والشرق الأوسط، مزدحمة بلقاءات جانبية، ومآدب مسائية. لكن المهمة الحقيقية للرحلة، والتي بقيت محصورة في الدائرة الداخلية للرئيس ريتشارد نيكسون، كمنت في إقامة الأربعة أيام في مدينة جدة الساحلية في المملكة العربية السعودية.

كان الهدف تحييد النفط الخام كسلاح اقتصادي، وإيجاد طريقة لإقناع المملكة المعادية لسد العجز المالي الأميركي المتنامي، من ثروتها النفطية الحديثة التكون. وبحسب بارسكي، قال نيكسون لنا: ممنوع العودة بأيدٍ فارغة. فالفشل، ليس فقط يعرض الوضع المالي الأميركي لخطر، إنما يمكن أن يعطي الاتحاد السوفياتي فرصة أكبر للدخول إلى العالم العربي. و"لم تكن المسألة أن ننجح أم لا"، قالها بارسكي سنة ١٩٧٣، وهو أحد المسؤولين الرسميين القلائل في المفاوضات مع السعودية.

 

كنظرة أولى، بدا سايمون، الذي قدم نفسه كقيصر نيكسون النفطي، غير مناسب لهكذا دبلوماسية رقيقة. وقبل أن يكون قد استغل من قبل نيكسون، فقد أدار، كمواطن من نيوجرسي، لا يتوقف عن التدخين، مكتب سندات الخزينة لدى الأخوة سالومون. وبالنسبة للمهنيين البيروقراطيين، فإن  تاجر السندات في وول ستريت، الفظ، والذي قدم نفسه كجنغز خان- كان انفعالياً، ومزاجياً، مما أفضى به ليكون خارج اللعبة في واشنطن. فقبل أسبوع من وصوله إلى السعودية، انتقد سايمون شاه إيران، الحليف الإقليمي القريب في ذلك الوقت، وأسماه بـ"الأحمق".

 

لكن سايمون، وأكثر من أي شخص آخر، فهم استحقاق ديون حكومة الولايات المتحدة، وكيف يمكن أن يقنع السعوديين بفكرة أن أميركا هي المكان الأكثر أماناً لإيداع بترودولاراتهم. وبفهمها لهذه الحقيقة، أطلقت الإدارة خطة "حياة أو موت" غير مسبوقة، التي يمكن أن تستجيب لكل جانب في العلاقات الأميركية-السعودية، للعقود الأربعة المقبلة (توفي سايمون سنة ٢٠٠٠ عن عمر ٧٢ سنة).

 

والإطار الأساسي كان بسيطاً بشكلٍ مدهش. الولايات المتحدة تشتري النفط من السعودية، وتؤمن حاجات المملكة العسكرية والتجهيزات. وبالمقابل، يستثمر السعوديون بلايين بترودولاراتهم في سندات خزينة، ويقومون بتمويل المصاريف الأميركية.

 

استغرق الأمر عدة اجتماعات متابعة سرية بهدف تسوية كل التفاصيل، كما قال بارسكي. ولكن بعد نهاية أشهر من المفاوضات، بقيت نقطة صغيرة، لكن أساسية، وهي طلب الملك فيصل بن عبد العزيز أن تبقى مشتريات سندات الخزينة سريةٍ بصورة تامة، بحسب برقية دبلوماسية حصلت عليها "بلومبرغ" من قاعدة بيانات من الأرشيف الوطني.

 

وبالاقتصار على بضعة مسؤولين في "الخزانة والاحتياطي الفيدرالي"، بقي الأمر سرياً لأربعة عقود، حتى اليوم. وبالاستجابة لطلب مرسوم حرية الإعلام، قدم من قبل "أخبار بلومبرغ"، أصدرت الخزانة سندات العربية السعودية لأول مرة هذا الشهر، مستندة على أن الإجراء "كان متناسباً مع مبدأ الشفافية، وقانون كشف المعلومات" بحسب المتحدث الرسمي ويتني سميث. ومخزون الـ١١٧ مليار دولار يجعل من المملكة العربية السعودية واحدة من أكبر دائني الولايات المتحدة الأميركية.

 

ولكن وبطرق متعددة، أثارت المعلومات أسئلة أكثر مما أجابت. فمسؤول خزينة سابق تخصص في احتياطيات البنك المركزي طلب عدم ذكر اسمه، قال إن الرقم الرسمي يقلل من قيمة الرقم الرسمي لتوظيفات العربية السعودية المالية في ديون الولايات المتحدة الأميركية، والتي يمكن أن تكون ضعف ذلك وربما أكثر.

 

الرصيد الحالي يمثل عشرين بالمائة من ال٥٨٧ مليار دولار من احتياطها الأجنبي، أقل بكثير من الثلثين اللذين تحتفظ بهما البنوك المركزية بالدولار.

 

أما ما هي قيمة الديون السعودية على الولايات المتحدة، فهو أمر مثير للاهتمام اليوم أكثر من أي وقت مضى.

 

وبينما عمق تهاوي سعر النفط القناعة بأن المملكة السعودية ستحتاج لتسييل سنداتها لرفع رصيدها النقدي، برز قلق أكبر وهو: شبح المملكة وهي تستخدم موقعها الكبير في أكبر سوق دين كسلاح سياسي، يشبه كثيراً ما قامت به بسلاح النفط في السبعينات.

 

في نيسان الماضي، حذرت العربية السعودية من أنها ستبدأ بيع أسهم وأصول أخرى بقيمة ٧٥٠ مليار دولار، في حال مرر الكونغرس الأميركي قانوناً يعرض المملكة للمثول شرعياً أمام المحاكم الأميركية بسبب هجمات ١١ أيلول، وذلك بحسب النيويورك تايمز. ويأتي التهديد بدفع جديد من المرشحين الرئاسيين، ومشرعين من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، يطالبون بكشف ٢٨ صفحة من تقرير سنة ٢٠٠٤ الأميركي الذي يعتقد أنه يتضمن تفاصيل عن احتمالات صلة للسعودية بالهجمات. والقانون الذي رفع إلى مجلس الشيوخ، هو اليوم في مجلس النواب.

 

رفضت وزارة المال السعودية التعليق على احتمالات بيع السندات رداً على ذلك. ولم تجب الوكالة العربية السعودية المالية مباشرة على طلبات تفاصيل عن إجمالي حجم الديون على الحكومة الأميركية.

 

دعونا لا نفترض أنهم يخادعون بتهديدهم بالرد، قال مارك تشاندلر، الرئيس العالمي لاستراتيجية العملات لدى الأخوة براون هاريمان Brown Brothers Harriman. "السعوديون تحت ضغط كبير. ويمكنني القول لن نكون عادلين مع أنفسنا إذا قللنا من إلتزاماتنا إزاء كبار حاملي السندات.

 

فالسعودية التي أمنت العناية الصحية المجانية، ودعم الغازولين، ودفع زيادات روتينية لمواطنيها باعتمادها على ثروتها النفطية، باتت تواجه أزمة مالية قاسية.

 

في السنة الماضية وحدها، أحرقت السلطات المالية ١١١ مليار دولار من احتياطيها لسد أكبر عجز في الميزانية خلال ربع قرن، ولتدفع تكاليف الحرب لمحاربة داعش، ولتطلق حملات دعائية ضد إيران. ورغم أن النفط ثبت على نحو ٥٠ دولاراً للبرميل (بينما كان أقل من ٣٠ دولاراً في وقت أبكر من العام الجاري)، فإنها ما تزال أدنى بكثير من السنوات التي بلغ فيها سعر برميل النفط الخام المائة دولار.

 

وقد أصبح وضع السعودية شديد الصعوبة حتى اضطرت المملكة لبيع جزء من إنتاجها النفطي وهي شركة أرامكو السعودية.

 

علاوة على ذلك، فإن الالتزام بسياسة العقود القديمة من الترابط بين الولايات المتحدة والسعودية، التي خرجت من صفقة الديون التي عقدها سايمون، وربطت أمتين تتشاركان بالقليل من القيم المشتركة، تظهر اليوم علامات تراجع. وقد اتخذت أميركا خطوات مؤقتة باتجاه التقارب مع إيران، سلطت الضوء عليها الصفقة النووية التي قام بها الرئيس باراك أوباما. وطفرة النفط الصخري لدى الولايات المتحدة، أيضا، تجعل أميركا أقل اعتمادا على النفط السعودي.

 

"شراء السندات وما إلى هنالك، كان استراتيجية إعادة تدوير البترودولار في الولايات المتحدة"، كما قال دايفيد أوتاواي، ممثل الشرق الأوسط في مركز وودرو ويلسن الوطني في واشنطن. "ولكن على المستوى السياسي، كانت العلاقة على الدوام علاقة غامضة، ومقيدة".

 

وبالعودة إلى عام ١٩٧٤، فإن تزوير تلك العلاقة (والسرية التي تطلبتها) كانت غير منطقية، بحسب بارسكين الذي يحتل اليوم منصب رئيس مجموعة رأسمال أورورا ( Aurora Capital Group)، وهي شركة أسهم خاصة في لوس أنجلوس. والعديد من حلفاء أميركا، بما فيهم المملكة المتحدة واليابان، كانوا أيضا معتمدين على النفط السعودي، ويتنافسون بهدوء لجعل المملكة تعيد توظيف اموالها في اقتصاداتهم. 

 

كانت كل من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا واليابان تحاول أن تمد يدها إلى الجيوب السعودية، بحسب غوردون براون، مستشار اقتصادي في وزارة الخارجية في السفارة الأميركية في الرياض بين أعوام ١٩٧٦ و١٩٧٨. فبالنسبة للسعوديين، فقد لعبت السياسة دورا كبيرا في إصرارهم على إبقاء كل الاستثمارات المالية غير معروفة.

 

استمر التأزم عشرة أشهر بعد حرب تشرين ١٩٧٣، وفي العالم العربي، انتشرت نزعة كبيرة من العداء تجاه الولايات المتحدة، لدعمها إسرائيل. واستنادا على قنوات دبلوماسية، كان الخوف الأكبر للملك فيصل إدراك أن مال النفط السعودي يمكن أن يصل، مباشرة أو غير مباشرة، إلى أيادي أكبر أعدائها كمساعدات إضافية من الولايات المتحدة.

 

وقد حل المعضلة المسؤولون الماليون بأن أبقوا السعوديين مختبئين "خلف الباب”. وفي أول ترتيب من الترتيبات الخاصة، سمحت الولايات المتحدة للمملكة السعودية أن تتجاوز عملية المزايدة التنافسية العادية في شراء السندات وذلك بخلق "إضافات". تلك المبيعات التي استثنيت من المزادات الرسمية، أخفت أي أثر للحضور السعودي في سوق ديون الحكومة الأميركية. 

 

عندما وصلت إلى السفارة، قيل لي ان هذا عمل مالي"، قال براون. وقد تم تناولها بخصوصية شديدة". وبحلول ١٩٧٧، راكمت العربية السعودية نحو ٢٠٪ من جميع سندات الخزانة الموجودة في الخارج، استنادا إلى كتاب "يد السيطرة الأميركية الخفية: إعادة تدوير البترودولار والأسواق الوطنية لمؤلفه دافيد سبيرو في جامعة كولومبيا (The Hidden Hand of American Hegemony: Petrodollar Recycling and International Markets by Columbia University’s David Spiro).

 

استثناء آخر ابتدع خصيصا من أجل السعودية عندما بدأت وزارة الخزانة بإصدار تقسيطات

 ( breakdowns) شهرية لكل دولة على حدة، لديون الولايات المتحدة. وبدلا من كشف ما تملكه العربية السعودية، فقد صنفتها الخزينة مع ١٤ دولة أخرى، كالكويت، والامارات العربية المتحدة، ونيجيريا، تحت العنوان العام "مصدرو النفط" وهي طريقة استمرت ٤١ عاما. 

 

مذكرة داخلية مؤرخة في تشرين الأول -أوكتوبر- ١٩٧٦، فصلت كيف رفعت الولايات المتحدة عن غير قصد، أكثر بكثير من ٨٠٠ مليون دولار كانت تنوي استعارتها بالمزاد العلني. ومع مرور الوقت، استخدم بنكان مركزيان غير معروفين، الإضافات ( add-ons) لشراء سندات ب٤٠٠ مليون دولار لكل منهما. وبالنهاية، مُنِح بنك من البنوك حصته متأخرا يوما من أجل منع الولايات المتحدة من تجاوز الحدود. 

 

معظم هذه المناورات والسقطات وضعت جانبا، وأبرز المسؤولين الماليين ذهبوا أبعد من ذلك للحفاظ على الوضع القائم، وحماية حلفائهم الشرق أوسطيين بالترافق مع زيادة التدقيق في أكبر دائني أميركا.  

 

ومع مرور السنين، تحولت وزارة الخزانة للاستعمال المتكرر لما يعرف ب"مرسوم المسح الوطني للتجارة والاستثمار" الصادر عام ١٩٧٦ كخط دفاع أول، والمرسوم يحمي الأفراد في البلدان التي يجري فيها التعامل مع سندات الخزينة على نطاق ضيق.

 

وتواصل التعامل بهذه الاستراتيجية حتى بعد أن افتقد "مكتب المحاسبة الحكومي" في تحقيق جرى سنة ١٩٧٩، أية قواعد أحصائية أو شرعية لكل محاولات التعتيم. ولم يكن لهذا المكتب القوة ليفرض على الخزينة أن تسلم البيانات، ولكنه استنتج أن الولايات المتحدة "وضعت التزامات خاصة بالسرية المصرفية للمملكة العربية السعودية" وربما لدول أخرى في "أوبك".

 

سايمون الذي تحول إلى "وول ستريت" في ذلك الوقت، اعترف في شهادة أمام الكونغرس بأن "سياسة التقارير الاقليمية كانت الطريقة الوحيدة التي يمكن للسعودية أن تقبل بها للاستثمار باستخدام نظام "الاضافات" ( add-on).

 

وكان من الواضح أن مسؤولي الخزينة لم يكونوا متجهين للتعاون على الإطلاق، كما قال ستيفن ماك سبادن، وهو مستشار سابق للجنة الفرعية في الكونغرس، التي ضغطت لصالح طلبات "مكتب المحاسبة الحكومي”. “بقيت لسبع عشرة سنة في اللجنة الفرعية ولكنني لم أر أي شيء مثل ذلك".

 

يقول بارسكي اليوم بأن الترتيبات السرية مع السعودية كان يجب أن تفكك منذ سنوات، واستغرب بأن الخزينة احتفظت بها كل هذه المدة. ورغم ذلك لم يكن نادما.

إجراء الصفقة كان إيجابيا لأميركا. بمساعدة سانغوون يوون.