تغيير النظام في إيران لن ينهي البرنامج النووي
إن الاتفاق النووي الحالي مع إيران قد لا يكون مثالياً تماماً كحال أي اتفاق آخر. لكن بدلاً من القضاء على اتفاق غير مثالي والدفع باتجاه تغيير النظام على صانعي السياسة في الولايات المتحدة أن يتعلموا من التاريخ. إن تغيير النظام في إيران عملية مزعزعة للاستقرار ونتائجها غير مؤكدة.
كشف الرئيس الأميركي دونالد ترامب هذا الشهر عن استراتيجيته تجاه إيران والتي طال انتظارها. وتتضمن الاستراتيجية ممارسة المزيد من الضغط على طهران على كل الجبهات خصوصاً من خلال عدم المصادقة على الاتفاق النووي الذي وقعه الرئيس السابق باراك أوباما والقوى الدولية الأخرى مع الجمهورية الإسلامية في 2015.
ركّز ترامب على مسألة لطالما ميّزت خطاب صقور واشنطن بشأن إيران، تحديداً بأن نظاماً أكثر عقلانية في إيران من شأنه التخلي عن أنشطته النووية. قال ترامب في كلمته إن إدارته مصمّمة على "منع الراعي الأول للإرهاب في العالم من الحصول على أسلحة نووية" مضيفاً "في هذا السياق نتضامن على نحو كامل مع الشعب الإيراني الأكثر معاناة بين ضحايا النظام". وقال إن "الشعب الإيراني لطالما طالب باستعادة بلاده تاريخها وثقافتها وحضارتها وتعاونها مع جيرانها".
مثل هذه التعليقات التي أدلى بها ترامب شائعة في أوساط أعضاء الإدارة الأميركية والمشرعين في الولايات المتحدة. قبل أشهر منها أبلغ وزير الخارجية ريكس تيلرسون الكونغرس أن الولايات المتحدة ستدعم عناصر داخل إيران يعارضون ويقاتلون النظام. ما أشار إليه ترامب وتيلرسون وغيرهما مثل السفير الأميركي الأسبق لدى الأمم المتحدة جون بولتون على نحو واضح هو أن الشعب الإيراني يفضل نظاماً سياسياً مختلفاً عن النظام الحالي وأن قيادة إيرانية مختلفة قد تتبنى سياسات مختلفة وتتصرف على نحو آخر.
هذا الموقف لطالما كان الذريعة المستخدمة لتبرير الدعوات إلى تغيير النظام في إيران. بيد أنه يستند إلى تحليلات خاطئة لنظرة الجمهورية الإسلامية إلى العالم وقدراتها من جهة وتكلفة تغيير النظام في إيران على واشنطن من جهة ثانية. في الواقع ظلّ البرنامج النووي الإيراني وأهدافه متسقة طيلة عقود كثيرة بمعزل عن صعود وسقوط حكومات وزعماء. ما يعني أنه ليس بالضرورة أن يقود نظام جديد في إيران نحو تحوّل في سياستها النووية.
سياسة احترازية
في حقبة الخمسينيات أي قبل وقت طويل من إطاحة الثورة الإسلامية بالنظام عام 1979، شرع شاه إيران حليف الولايات المتحدة محمد رضا بهلوي بعملية تحديث ضخمة متعددة الأوجه، وهي المشروع الذي دافع عنه والده بدءاً من العشرينيات. كجزء من هذا الجهد أمل الشاه بتحديث البنية التحتية في البلاد وتوسيع دورها العسكري واستثمار عائدات النفط في مشاريع من شأنها تحويل البلاد على المدى الطويل بما في ذلك تنويع مصادر الطاقة لديها.
في الوقت نفسه أطلق الرئيس الأميركي دوايت آيزنهاور مبادرته "الذرة من أجل السلام" التي كانت تهدف لتزويد الدول الحليفة للولايات المتحدة بالتكنولوجيا النووية للاستخدام السلمي. أصبحت إيران أحد المستفيدين من هذه المبادرة وبدأت برنامجها النووي. بالنسبة للشاه لم تكن القوة النووية مجرد أحد عناصر جهود الحداثة من أجل تنويع مصادر الطاقة بل كانت لها رمزية سياسية. فقد أراد إعادة إيران إلى عظمة الماضي الامبريالي والانضمام إلى نادي محدد من الدول العظمى كان يرمز إلى ذلك.
حين جنّد الشاه أكبر اعتماد عالم الفيزياء النووية الذي درس في سويسرا في السبعينيات من أجل المساعدة في وضع برنامج نووي للبلاد واجه معضلة رئيسية حيث كان عليه اتخاذ قرار رئيسي بشأن نطاق مشروعه قبل إعطاء اعتماد التعليمات. كان لدى الشاه خياران إما مواصلة برنامج نووي سلمي بحت أو اعتماد سياسة احترازية تسمح له بتحويله إلى برنامج مسلّح في حال قرر استكشاف الجوانب العسكرية للتكنولوجيا.
آنذاك كان الشاه يعتقد أن العلاقة الودية بين طهران والولايات المتحدة جنّبت إيران التحديات في المنطقة بحيث لم تكن بحاجة للاندفاع نحو الحصول على القنبلة النووية. لكنه أراد امتلاك القدرة على ذلك في حال تغيّر المشهد الأمني كما كان يتوقع. حينها بدأت إيران بوضع برنامج طاقة نووية بالإضافة إلى الاستعداد لإمكانية التطوير نحو القنبلة النووية. وكانت مهمة اعتماد إبعاد هذه الخطط عن الولايات المتحدة، حليف إيران وأحد مورديها النوويين.
في عام 1978 كان مشروع الشاه الذري جارياً فيما كانت ظروف انفجار الثورة تختمر. الثوار الذين عارضوا الشاه بمن فيهم آية الله روح الله الخميني والذي حلّ مكانه على رأس الدولة، عارضوا البرنامج النووي. معارضة كما يقول الرئيس الإيراني حسن روحاني في مذكراته عن فترة توليه رئاسة المفاوضات النووية بين 2003 و2005، كانت تستند إلى ايديولوجيا ومعتقد بأنه كل ما فعله الشاه كان خطأ أكثر من إظهار تفهم لعيوب وفوائد التكنولوجيا.
بعد الإطاحة بالشاه علّق النظام الجديد برنامج البلاد النووي لكي يعود ويستأنفه بعد توقف قصير في خضم الحرب الإيرانية العراقية المدمرة التي استمرت لسنوات طويلة خلال الثمانينيات. بعد ذلك بفترة قصيرة ذهب النظام الجديد إلى حدّ السعي لإحياء العناصر المختلفة في برنامج الشاه الذري. كما اعتمدت سياسة احترازية سمحت له بالحصول على التكنولوجيا النووية للاستخدام السلمي. في منتصف الثمانينيات أصبحت إيران أحد زبائن عبد القدير خان أب برنامج الأسلحة النووية في باكستان والذي قاد أكبر شبكة غير مشروعة لتهريب التكنولوجيا النووية. مع تفكيك هذه الشبكة في مطلع الألفية الثانية جلبت الاعترافات عن عدم امتثال إيران في أعقاب الكشف عن منشآت نووية سرية طهران إلى طاولة المفاوضات مع الأوروبيين في عام 2003 أي في العام نفسه الذي غزت فيه إدارة جورج بوش الإبن العراق.
في تلك الفترة ووفق الوكالة الدولية للطاقة الذرية والاستخبارات الأميركية بدا أن طهران أوقفت برنامجها التسليحي الذي يهدف لتطوير قنبلة نووية والعودة بدلاً من ذلك إلى الدراسات والجدوى العلمية والحصول على بعض القدرات والكفاءات التقنية. علّق كل هذا في 2009. منذ ذلك الحين لا توجد أي إشارات موثوقة على وجود أنشطة في إيران لتطوير قنبلة نووية. لكنّ طهران واصلت تطوير برنامج تخصيب اليورانيوم وتكنولوجيا المياه الثقيلة الذي كان مثار قلق المجتمع الدولي لجهة إمكانية تحوّلها إلى برنامج مسلّح في حال قررت الجمهورية الإسلامية استئناف برنامجها النووي.
في عام 2015 وبعد أكثر من عقد على محاولة جعل إيران تمتثل سواء بالإكراه أو التوافق أو العقوبات الدولية والمفاوضات الماراتونية توصلت القوى الدولية إلى اتفاق مع طهران من أجل الحدّ من أنشطتها النووية. اليوم يتحجج منتقدو الاتفاق بأنه ليس كافياً وأنه لا يمنح المجتمع الدولي صلاحية الإشراف الكافي على البرنامج.
بعض مسؤولي الإدارة الأميركية وأعضاء الكونغرس مثل مدير "سي آي ايه" مايك بومبيو والسيناتور توم كوتن يذهبون إلى حدّ القول إن السياسة الأميركية يجب أن تقوم على تغيير النظام لأن البرنامج النووي ليس هو الخطر الذي يتهدد الولايات المتحدة إنما وجود هذا النظام. بالنسبة لهم تغيير النظام هو الحلّ الوحيد المستدام للأزمة النووي الإيرانية وليس الاتفاق. بيد أنه مع استمرارية الطموحات الإيرانية لا يوجد أي دليل على أن القيادة الجديدة ستكون لها حسابات مختلفة جوهرياً في هذا الاتجاه.
الحلّ الأنجع
إن الاتفاق النووي الحالي مع إيران قد لا يكون مثالياً تماماً كحال أي اتفاق آخر. لكن بدلاً من القضاء على اتفاق غير مثالي والدفع باتجاه تغيير النظام على أمل تغيير سلوك طهران على نحو جذري، على صانعي السياسة في الولايات المتحدة أن يتعلموا من التاريخ. إن تغيير النظام عملية مزعزعة للاستقرار ونتائجها غير مؤكدة.
على واشنطن التركيز على القدرات النووية التي يقيّدها الاتفاق النووي. من أجل ذلك يتوجب عليها الحفاظ على الاتفاق والبناء عليه للتوصل إلى حلّ متفق عليه بشأن قضية برنامج الصواريخ البالستية والتعامل مع مشهد ما بعد الاتفاق النووي.