"فورين أفيرز": التدمير الذاتي للقوة الأميركية

في وقت ما من العامين الماضيين قضت الهيمنة الأميركية التي دامت لفترة قصيرة وجذابة. نحو ثلاثة عقود تميزت بمحطتين كل منهما شكلت نوعاً من الانهيار. ولدت الهيمنة مع انهيار حائط برلين وكانت بداية النهاية مع غزو العراق ليتواصل الانهيار البطيء منذ ذلك الحين.

فورين افيرز ---- التدمير الذاتي للقوة الاميركي

لكن السؤال عما اذا كان هذا الوضع غير العادي للولايات المتحدة ناتجاً عن أسباب خارجية أم أن واشنطن قامت بتسريع زوالها خلال سلوكها السيء؟ هذا هو السؤال الذي سوف يناقشه المؤرخون في السنوات المقبلة. ولكن في هذه المرحلة ، لدينا ما يكفي من الوقت والمنظور لتقديم بعض الملاحظات الأولية.
كما هو الحال مع معظم الوفيات فقد ساهمت عوامل عدة في موت الهيمنة الأميركية. صحيح أنه كانت هناك قوى هيكلية عميقة في النظام الدولي عملت بلا هوادة ضد اي دولة راكمت الكثير من القوة لكن مع ذلك يصاب المرء في الحالة الأميركية بالذهول لطريقة تعامل واشنطن مع هيمنتها في العالم واستغلال قوتها وفقدان حلفائها وتقوية أعدائها.

وصولاً إلى الآن في ظل إدارة ترامب حيث يبدو أن الولايات المتحدة فقدت الاهتمام بل إيمانها بالأفكار والأهداف التي حفزت حضورها الدولي لمدة ثلاثة أرباع القرن.
منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، أرادت الولايات المتحدة تغيير العالم. في التسعينيات، بدا ذلك ممكنًا أكثر من أي وقت مضى. كانت بلدان العالم تتجه نحو الطريقة الاميركية.

يبدو أن حرب الخليج تمثّل علامة فارقة جديدة للنظام العالمي حيث كرسّتها القوى الكبرى وشرعها القانون الدولي. لكن في ظل كل هذه التطورات الإيجابية فقدت الولايات المتحدة الاهتمام. اراد صانعو السياسة في الولايات المتحدة تغيير العالم في التسعينيات ولكن بثمن بخس.

لم يكن لديهم رأس المال السياسي أو الموارد اللازمة للإقدام على ذلك. كان ذلك أحد الأسباب التي جعلت واشنطن تنصح حلفاءها دائماً بعلاج الصدمات الاقتصادي والديمقراطية الفورية.
القيود التي وضعتها الولايات المتحدة لنفسها من أجل عدم دفع الاثمان لم تجعلها تغير خطابها، ولهذا السبب أشرت في مقالة في "نيويورك تايمز" عام 1998 إلى أن نتيجة السياسة الخارجية الاميركية كانت "الهيمنة الجوفاء" التي استمرت منذ ذلك الحين.

الضربة القاضية

قامت إدارة ترامب بتفكيك السياسة الخارجية للولايات المتحدة على نحو أكبر. ما يحرّك ترامب غرائز على الطريقة الجاكسونية (نسبة للرئيس اندرو جاسكون) فهو غير مهتم إلى حد كبير في العالم إلا بقدر ما يعتقد أن معظم البلدان تغضب الولايات المتحدة.

هو قومي وحمائي وشعبوي مصمم على وضع "أميركا أولاً" لكنه ما فعله اكثر من أي شيء آخر هو الانسحاب من الساحة.

في ظل إدارة ترامب انسحبت الولايات المتحدة من شراكة عبر المحيط الهادئ ومن التعامل مع آسيا بشكل عام.

وها هي تنفصل عن شراكة مع اوروبا دامت لـ70 عاماً.. لقد تعاملت مع أميركا اللاتينية من خلال منظور يقوم إما على إبعاد المهاجرين أو الفوز بأصواتهم في فلوريدا. لقد نجح في جعل الكنديين ينفرون. وقد منح عقد سياسة الشرق الأوسط لإسرائيل والمملكة العربية السعودية. مع استثناءات قليلة متهورة - مثل الرغبة النرجسية في الفوز بجائزة نوبل من خلال محاولة صنع السلام مع كوريا الشمالية - فإن أبرز ما يميز السياسة الخارجية لترامب هو غيابها.
عندما كانت المملكة المتحدة القوة العظمى في عصرها تآكلت هيمنتها بسبب العديد من القوى الهيكلية الكبيرة - صعود ألمانيا والولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. لكنها فقدت أيضًا سيطرتها على إمبراطوريتها من خلال التغطرس والإكراه.

ثمّة تشابه هنا مع الولايات المتحدة. لو كانت تصرفت بشكلٍ أكثر اتساقًا في السعي لتحقيق المصالح والأفكار الأوسع نطاقًا لكانت استمرت في التأثير على مدى عقود (وإن كان ذلك بشكل مختلف).

تبدو قاعدة إدامة الهيمنة الليبرالية بسيطة: كن أكثر ليبرالية وأقل هيمنة. لكن في كثير من الأحيان وبوضوح سعت واشنطن إلى تحقيق مصالحها الذاتية الضيقة ما أدى إلى تنفير حلفائها وتقوية خصومها.

لكن على عكس المملكة المتحدة في نهاية حكمها فإن الولايات المتحدة ليست مفلسة أو مفرطة الإمبريالية.

هي تبقى البلد الأقوى عالمياً وسوف تستمر في ممارسة نفوذ هائل أكثر من أي دولة أخرى. لكنها لن تحدد وتهيمن على النظام الدولي كما فعلت منذ ثلاثة عقود تقريبًا.
ما بقي هو الأفكار الأميركية والسؤال المطروح الآن هو ما إذا كان النظام الدولي الذي رعته - القواعد والأعراف والقيم - سينجو مع تراجع القوة الأميركية أم أن الولايات المتحدة ستراقب أيضاً انهيار امبراطوريتها من الأفكار؟