ترامب يقدم نموذجاً جديداً للتسوية
إن كان تطبيق "صفقة القرن" بجميع مكوّناتها يبدو بعيداً، فإنّ لإعلان الرئيس عن السيادة إمكانية التنفيذ الفوري. ومن هذه الناحية يمكن أن نرى فيه حدثاً مفصلياً يمكنه أن يفرز واقعاً جديداً في المستقبل، وهذا بدون أيّة علاقةٍ بمصير بقية أركان الخطة.
-
ترامب يقدّم نموذجاً جديداً للتسوية
الكثير من المياه تدفقت في نهر بوتوماك منذ أن أطلق وزير الخارجية الأميركية في إدارة الرئيس نيكسون، ويليام روجرز، في 18 كانون الأول/ يناير 1969 الخطوط العريضة للتسوية الإسرائيلية - الأردنية، التي اعتمدت ضمناً على خطوط الرابع من حزيران/ يونيو 1967.
وخلال السنوات الـ 46 التي انقضت، منذ عَرْض الخطة، وحتى دخول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، قدّمت الإدارات الأميركية المختلفة، من كارتر إلى أوباما، أفكاراً وصيغاً وخطوطاً عريضةً لا حصر لها، والتي كان من المقرّر أن تُبنى عليها التسوية الفلسطينية.
وباستثناءٍ وحيد (رسالة بوش الإبن لرئيس الحكومة شارون في 14 نيسان / أبريل 2004، التي وعد فيها بالاعتراف، كجزء من الحل الدائم، بالواقع الديمغرافي الجديد الذي نشأ في المناطق بعد عام 1967) استندت جميع المبادرات الأخرى إلى مبدأ الانسحاب إلى خطوط الـ 4 من حزيران/ يونيو 1967 كأساسٍ للتسوية.
والآن، وبعد 3 سنوات من تنصيب ترامب، اتّضح أنّ هذا النموذج المهيمن قد دُفع إلى هامش الأحداث من قبل رئيسٍ سلك طريقاً جديداً، وغير تقليدي، في محاولته لبث الحياة في العملية السياسية. وفي الواقع، نحن أمام حلقةٍ أخرى، ورئيسية، والتي من المفترض أن تصل وتربط بين مجموعة من التحركات السابقة، التي كانت بدايتها بقرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لـ "إسرائيل" (وفي وقت لاحق الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على "هضبة الجولان" - كما ورد في النص الأساسي)، واستمرت بجهوده لإنشاء غلافٍ اقتصاديّ عربيٍّ داعمٍ، بغطاءٍ أميركي، يتضمن سلةً من الحوافز بقيمة 50 مليار دولار للفلسطينيين.
ويأتي في قلب الخطة الحالية الاعتراف الأميركي بالسيادة الإسرائيلية على جميع المستوطنات وعلى وادي الأردن. هذا إلى جانب اقتراح تبادل الأراضي ورفض حق العودة. وعلاوة على ذلك، في حين أنّ الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية هو أمرٌ فوريّ، فإنّ المسار الذي وضعه الرئيس في الطريق إلى إقامة الدولة الفلسطينية تدريجي، ويُلزم القيادة الفلسطينية بأن تلبّي أولاً مجموعةَ من الشروط المسبقة.
وكرجل أعمالٍ غير مكبَّل، مثل أيّ سياسي محترف، بمجموعة من المسلّمات والنماذج أو المفاهيم الشائعة، يعمل ترامب، مرةً أخرى، من خارج الصندوق. وبالتالي، ومن أجل خلق ديناميةٍ جديدةٍ في الفضاء الإسرائيلي - الفلسطيني، يقوم بإرساء خطته على حزمة من الجَزَر والبدائل الاقتصادية، والتي تهدف إلى تعويض الفلسطينيين عن موافقتهم على الاعتراف بالقيود المفروضة على تطلعاتهم، سواء على المستوى الإقليمي الفوري، أو في ما يتعلق بحقّ العودة، أو في طابع الدولة الفلسطينية المستقبلية.
ويشكّل هذا تعبيراً آخراً عن قدرة البيت الأبيض على الإنفصال بشكلٍ أحاديّ الجانب عن المسلمات الراسخة منذ حرب الأيام الـ 6، والتخلّي بشكلٍ كاملٍ عن خطوط الـ4 من حزيران/ يونيو 1967 كنقطة انطلاقٍ للتسوية. وأكثر من ذلك: على النقيض من نهج سلفه أوباما، الذي رأى في التسوية الإسرائيلية - الفلسطينية شرطاً مسبقاً لتحقيق أهداف الولايات المتحدة الأميركية في جميع أنحاء المنطقة، بدأ البيت الأبيض الحالي في صياغة التسوية، بالذات، على مستوى الشرق الأوسط برمّته، حيث من المقرر أن توفّر الجهات السنيّة المعتدلة فيه الشرعية المبدئية لها، وتجنّد نفسها لبذل جهودٍ لتفعيل أدوات تأثيرها، وحوافزها، على رام الله.
وبالفعل، فإن الحديث لا يدور فقط عن عدم وجود فيتو مسبق من جانب التكتل السنّي على الخطة الجديدة، التي تتناقض مع خطط سابقة للتسوية مثل مبادرة السلام السعودية لعام 2002، بل هناك مؤشرات على استعداد بعض الدول الرئيسية في هذا التكتل للسير معاً في الطريق الذي حدّده السيد الأميركي.
وعلى هذا المستوى، يتشكّل الانطباع أنّ السيد الأميركي يستغّل، إلى حدٍّ كبير، اعتماد هؤلاء اللاعبين، وفي مقدمتهم المملكة العربية السعودية، على دعمه وعلى حسن نواياه في مواجهة التحديات التي يواجهونها (وفي قلبها إيران).
وفي الختام، وحتى وإن كان تطبيق "صفقة القرن" بجميع مكوّناتها يبدو بعيداً، فإنّ لإعلان الرئيس عن السيادة إمكانية التنفيذ الفوري. ومن هذه الناحية يمكن أن نرى فيه حدثاً مفصلياً يمكنه أن يفرز واقعاً جديداً في المستقبل، وهذا بدون أيّ علاقةٍ بمصير بقية أركان الخطة.
ترجمة: مرعي حطيني