التفوق الإستراتيجي لإسرائيل الديمقراطية أو اليهودية؟

إسرائيل الحديثة تعكس نصر اليهودية، وفق رؤيتها الحتمية، على الديمقراطية. ومما يعزز هذه الملاحظة ظهور الإسلام المتطرف في المنطقة، كلاعب رئيسي، ومشاهد الرعب التي ينتجها.

العجز الديمقراطي اليهودي هو السلاح الإستراتيجي لإسرائيل في حربها لهزيمة الفائض الديمغرافي العربي.
ما هي الفائدة من محاولة تتبع الفوارق بين "معسكر اليسار" وبين "معسكر اليمين" في إسرائيل؟ أو الخوض في النوايا الحقيقية لنتنياهو عندما يتحدث عن تأييده لفكرة الدولتين؟ فالكلب ليس مدفوناً هناك.

وهذا الخطاب المقدس، الذي طُحن حتى الرمق الأخير، أصبح فخاً من العسل لكل من الإسرائيليين والفلسطينيين. ولبالغ أسفي فإن هناك البعض في رام الله يعتقدون أن دولتهم ستقوم لا محالة لو أن الأشخاص الصحيحين، في إسرائيل، يجلسون خلف دفة القيادة.

 

إن الخطاب في إسرائيل، المستند في الأساس على نهج يميني إلى جانب التطلع إلى "تسوية إقليمية"، هو ليس بالصدفة. فأعمدته ودعاماته تستند في الأساس إلى ما يحدث بين البحر والنهر، وبين إسرائيل وبين العالم العربي.

ويخيل أن الوضع الإستراتيجي لإسرائيل لم يكن أفضل مما هو عليه اليوم: فهي في المنطقة تتمتع بتفوق هائل من كل الجوانب، ومشروعها القومي يجري تطبيقه بشكل يثير الحسد لدى جيرانها. وهي تواصل الازدهار بينما العالم العربي يتفكك. واتفاقية سايكس بيكو تتلاشى، وبناء الأمة والدولة العربية قد فشل، قبل كل شيء في سوريا وفي العراق. وهناك الكثير من الإسرائيليين الذين يرون في دولتهم "جزيرة من الاستقرار" و "الديمقراطية الفاعلة"، وهو ما ينعش لديهم الإحساس بالنصر الإستراتيجي.

 

لقد كانت المتغيرات في المنطقة في مصلحة إسرائيل وذلك مع تفكك الجيشين القويين في سوريا والعراق، بينما هناك جيوش أخرى قد ضعفت وتآكلت في الحروب الأهلية أو في محاولة إعادة الهدوء إليها داخل حدود الدولة أو خارجها.

وتشكل حماس في غزة، وحزب الله في لبنان، تهديداً عسكرياً إلا أنه ليس تهديداً وجودياً. كما أن قوى الإسلام المتطرف منهكة ومتهالكة تماماً في حروب داخلية وخارجية، وفكرة "الإسلام هو الحل" المستمدة من مدرسة الإخوان المسلمين قد انهارت من تلقاء ذاتها وبمساعدة منتقديها. وإسرائيل، بطيعة الحال، تبدو كهدية من السماء مقارنة بداعش وشبيهاتها.

وفي ظل هذه الظروف أصبحت أقرب إلى الغرب من أي وقت مضى والذي يرى فيها، وربما هو محق في ذلك، سداً منيعاً في وجه "الإسلام العنيف والمدمر".

 

وحتى بعد أن نجح أبو مازن في فك الربط بين القضية الفلسطينية وبين الإرهاب الإسلامي (الخاص بحماس من جهة وبداعش من جهة أخرى) أدت التغييرات الجيوسياسية في المنطقة إلى دفع القضية الفلسطينية إلى هامش جدول الأعمال الإقليمي والعالمي.

 وقد تيتّم الفلسطينيون وفقدوا آباءهم العرب، كما أن التدخلات الإقليمية في الصراعات داخل الدول أفرزت ميزان قوى مصاب بالشلل بالنسبة لهم، حتى وإن كان لا يزال هناك من يدفع لهم ضريبة كلامية، وبسخاء بالغ، من على كل المنابر العربية المحتملة.

 

يدرك الفلسطينيون جيداً أنهم فشلوا في إنهاء أطول احتلال في التاريخ، والذي يقف على أبواب الاحتفال بيوبيله الذهبي. والوسائل السياسية التي حاولوا استخدامها (التخلي التاريخي عن الميثاق الوطني الفلسطيني في عام 1988بالإضافة إلى جولات المفاوضات على مدى السنوات العشرين التي تلت ذلك) والعنف الذي انتهجوه (الكفاح المسلح والمقاومة الشعبية) لم تجدِ نفعاً. وحتى أنهم لم يستطيعوا تقويض مشروع المستوطنات المدنية في المناطق (المحتلة) ولا حتى وقفه.

ورغم أنهم قد اقتربوا من تحقيق تطلعاتهم الوطنية من خلال اتفاقيات أوسلو - العودة إلى جزء من الوطن وإقامة حكم ذاتي محدود – إلا أنهم فشلوا في ممارسة حقهم في تقرير المصير.

 

وفي وضعها الإستراتيجي الفائض تستطيع إسرائيل، وبدون أية صعوبة، فرض سيادتها على المنطقة الممتدة بين البحر والنهر، إلا أن الثمن سيكون إدخال ملايين الفلسطينيين تحت السيادة الإسرائيلية، وذلك بنسبة حوالي40% من سكان الدولة، والصهيونية غير مستعدة لذلك. وبكلمات أخرى فإن المشروع الصهيوني الناجح في كل الجوانب الأخرى قد فشل، منذ نصره المدوي في عام 1948، في دفع الشعب الفلسطيني وحقوقه إلى ما وراء نهر الأردن وإلى خارج حدود النبوءة الصهيونية.

 

والنخب في إسرائيل واعية لهذه التطورات الإستراتيجية، بخاصة في مواجهة الفلسطينيين، وهي تحاول استغلال نافذة الفرص لمصلحتها.

وخلال السنوات الأخيرة حسنت إسرائيل من مكانتها في المنطقة: فهي قد انسحبت بشكل أحادي الجانب من جنوب لبنان ومن غزة، وتُظهر حكوماتها، بين الفينة والأخرى، الاستعداد، ولو كلامياً، لإدخال تعديلات على الحدود في حال تقسيم البلاد.

لكن الحديث عن إدارة الصراع وليس عن حله، أو عن "تسوية إقليمية" من فوق رؤوس الفلسطينيين، يعكس بوضوح التفوق الإستراتيجي لإسرائيل. كما أن موجة القومجية اليهودية، والخطاب اليميني العنصري المستشري ضد الفلسطينيين، والديمقراطية وحقوق المواطن، هو جزء من الإحساس بنصر المشروع الصهيوني في المنطقة الممتدة بين البحر والنهر.

 

إن إسرائيل الحديثة تعكس نصر اليهودية، وفق رؤيتها الحتمية، على الديمقراطية. ومما يعزز هذه الملاحظة ظهور الإسلام المتطرف في المنطقة، كلاعب رئيسي، ومشاهد الرعب التي ينتجها. والخوف، وبشكل رئيسي التخويف، اللذان يصيغان هوية وسلوك الإسرائيليين العاديين، إلى جانب التحريض ونزع الشرعية عن "الآخر" الفلسطيني، والعربي والمسلم، تقوي القومية اليهودية إلى درجة العنف الكلامي والعملي، الذي يُذَكّر بنشوة القوة التي تلت حرب 1967.

إن النخب في إسرائيل، سواء تلك التي في اليمين أو تلك التي يطلق عليها لسبب ما اسم اليسار، تُعِدّ نفسها لما هو قادم. فإدخال التعديلات على القوانين القائمة، أو التي يجري الإعداد لها، يأتي من أجل تأهيل الدولة للمحافظة على التفوق اليهودي في حال حدوث سيناريو تتحمل فيه إسرائيل المسؤولية الكاملة عن خمسة ملايين فلسطيني بين البحر والنهر.

وحتى أن الكرماء من بين أبناء هذه النخب يتغنون بإحساس النصر وبالتفوق الإستراتيجي اليهودي أمام الفلسطينيين والعرب.

والسياسة الإسرائيلية اليوم - بكل تلاوينها وأحزابها، وتقاسم القوة فيها، ونماذج التصويت الخاصة بها، وتحالفاتها وخصوماتها، والخطاب الخاص بها وأفكارها - كلها نتاج الشعور بأنها الفريق المنتصر.

 

إن العجز الديمقراطي اليهودي هو السلاح الإستراتيجي لإسرائيل في حربها لهزيمة الفائض الديمغرافي العربي، ولشديد المفارقة فإن الفلسطينيين فقط هم الذين يستطيعون تخليص إسرائيل من هذه العملية ومن تداعياتها. 

ترجمة: مرعي حطيني