الولايات المتحدة الأميركية والدول الإسلامية: تاريخ دامٍ

حكم سوهارتو إندونيسيا حتى نهاية التسعينيات. والمذابح، والحماية من تداعياتها، التي حظي بها منفذوها شكلت سبباً هاماً في خلق ثقافة الإرهاب في أوساط الجيش الإندونيسي. وقد وجد ذلك تعبيراً عنه، من بين أمور كثيرة، بتصفية حوالي ثلث سكان تيمور الشرقية بعد الغزو الإندونيسي لها عام 1975(حصل ذلك بتأييد حاسم من الولايات المتحدة الأميركية) وبقي الكثير من أفراد الجماعات المسلحة أبطالاً في الثقافة الإندونيسية.

استمر العون الأميركي عبر تقديم الدعم العسكري الحيوي وإعداد قوائم بـأسماء آلاف الزعماء الشيوعيين التي جرى تسليمها للجيش من بهدف تصفيتهم

نُشرت مؤخراً وثائق جديدة حول تورط الولايات المتحدة الأميركية في المذابح التي طالت حوالي نصف مليون شخص في إندونيسيا في الفترة الممتدة بين تشرين الأول / أكتوبر 1965 وآذار / مارس 1966، وكذلك في اعتقال وتعذيب مئات الآلاف من الأشخاص الآخرين، وفي الانقلاب العسكري الذي أدى إلى الإطاحة بالرئيس سوكارنو وصعود الجنرال سوهارتو إلى سدة الحكم.

ورغم أن تأييد الولايات المتحدة الأميركية (وكذلك بريطانيا وأستراليا) قد قُدِّم على أنه جاء رداً على محاولة الانقلاب العسكري التي قام بها الحزب الشيوعي الإندونيسي (PKI) في الثلاثين من أيلول / سبتمبر 1965، فقد كان هذا التأييد معروفاً منذ فترة طويلة. ففي الأسبوع الأول من المذابح بعث السفير الأميركي في إندونيسيا برسالة أوصى فيها أن تقوم الولايات المتحدة الأميركية بالتوضيح، بشكل سري، لكبار المسؤولين في الجيش "الرغبة في تقديم العون حيث نستطيع". وحدد السفير الدعم الهام الفوري على أنه يتمثل في الكشف عن "قصة فساد وخيانة ووحشية" الحزب الشيوعي (أي الدعاية الكاذبة من أساسها التي قدمها الجيش الإندونيسي). وتمت الموافقة على توصيته هذه من قبل وزارة الخارجية الأمريكية.

وبعد حوالي أسبوع من ذلك أصدر وزير الخارجية الأميركية دين راسك تعليماته إلى السفارة في إندونيسيا بأن توضح للجيش أن الولايات المتحدة تؤيد نشاطاته ضد الحزب الشيوعي. وفي 20 تشرين الأول/ أكتوبر أشار السفير إلى أن الجيش "يبذل جهداً كبيراً للقضاء على الـ PKI وأنا [...] أكن التقدير للتصميم وللنظام اللذين يتبعهما في تنفيذ هذه المهمة الحيوية". وفي شهر كانون الأول / ديسمبر أوصى السفير بتمويل الميليشيات المسلحة (المدنية) التي ساندت الجيش في تنفيذ المذابح. واستمر العون الأميركي عبر تقديم الدعم العسكري الحيوي وإعداد قوائم بـأسماء آلاف الزعماء الشيوعيين التي جرى تسليمها للجيش من بهدف تصفيتهم. وكذلك عبر التأكيد المتكرر للجيش بأن الولايات المتحدة الأمريكية تؤيد نشاطاته.

إلا أن الوثائق الجديدة تكشف عن المعلومات المفصلة التي كانت تمتلكها الولايات المتحدة الأمريكية حول ما يحدث على الأرض. ومن ذلك، تنقل وثيقة مؤرخة في الرابع والعشرين من شهر تشرين الثاني / نوفمبر عن السفارة الأمريكية في إندونيسيا قولها "إننا نواصل تلقي التقارير بأن الشيوعيين يُذبحون [...] في الكثير في المناطق في شرق جاوة" . وهي قد أكدت بعد أسبوع من ذلك إصرار الجنرالات الإندونيسيين الاستمرار في حملتهم لقمع الحزب الشيوعي والتي وصلت في هذه المرحلة إلى "الإعدامات الجماعية".

وفي 6 كانون الأول / ديسمبر تلقت السفارة الأميركية تقريراً يقول إن شيوخ المساجد في إندونيسيا يأمرون أتباعهم بقتل كل الذين انضموا إلى الحزب الشيوعي. وبعد أربعة أيام من ذلك أرسلت السفارة تقريراً بأن الميليشيات المدنية التي قدمت العون للجيش في المذابح تقوم أيضاً بـ "تصفية حسابات" شخصية مع الكثيرين ممن لا ينتمون إلى الحزب الشيوعي. وفي 21 كانون الأول / ديسمبر قدرت السفارة أن حوالي 100 ألف عضو من الحزب الشيوعي قد قتلوا.

وكان أحد أهم التعبيرات المثيرة للاهتمام في موقف الولايات المتحدة الأميركية يتمثل في المقالات المنشورة في الصحف. وربما يكون الأشهر من بينها المقال الذي كتبه الصحافي جيمس رستون في صحيفة "نيويورك تايمز" في حزيران / يونيو 1966 تحت عنوان "واشنطن: شعاع من النور في آسيا"، والذي كُتب بعد لقاء رستون مع كبار المسؤولين في الإدارة الأمريكية. وأوضح رستون أنه في مقابل الإخفاقات في فيتنام هناك تطورات تبعث على الأمل في آسيا وفي مقدمتها "الانتقال العاصف في إندونيسيا من السياسة الموالية للصين تحت حكم سوكارنو إلى سياسية مناهضة للشيوعية، وحازمة، بقيادة الجنرال سوهارتو". وأضاف رستون إن الولايات المتحدة الأميركية كانت حذرة بألا تنسب لنفسها ما يجري في الدولة السادسة من حيث عدد السكان في العالم، وواحدة من أغناها، "إلا أن ذلك لا يعني أنه لم تكن للولايات المتحدة الأمريكية يد في هذا التغيير". إنه من المشكوك فيه إذا ما كان بوسع هذا الانقلاب أن يصمد لولا الدعم السري الأمريكي، وفق ما أكده الكاتب. وعليه فإن الـ "نيويورك تايمز" كانت شريكاً نشطاً في احتفال المذابح في إندونيسيا، وهو ما يبيّن سبب وصف الصحيفة لموقف الولايات المتحدة الأميركية، بعد الكشف عن الوثائق، بأنه "موقف المتفرج" بدلاً من الشراكة النشطة فيها.

وقد حكم سوهارتو إندونيسيا حتى نهاية التسعينيات. والمذابح، والحماية من تداعياتها، التي حظي بها منفذوها شكلت سبباً هاماً في خلق ثقافة الإرهاب في أوساط الجيش الإندونيسي. وقد وجد ذلك تعبيراً عنه، من بين أمور كثيرة، بتصفية حوالي ثلث سكان تيمور الشرقية بعد الغزو الإندونيسي لها عام 1975(حصل ذلك بتأييد حاسم من الولايات المتحدة الأميركية) وبقي الكثير من أفراد الجماعات المسلحة أبطالاً في الثقافة الإندونيسية. كما أن جنرالات سابقين (في الجيش الإندونيسي) الذين يخشون اليوم من تقديمهم للمحاكمة على تلك المذابح يتعاونون مع جماعات تعمل بإيحاء من الأيديولوجيا المتطرفة المستوردة من المملكة العربية السعودية على إحداث تغيير متطرف في أكبر ديمقراطية إسلامية في العالم.

ولم يأتِ الدعم الأمريكي للمذابح، وللانقلاب العسكري، من الخوف من انضمام إندونيسيا إلى الكتلة الشيوعية وحسب، بل يعود إلى أمر لا يقل أهمية عن ذلك وهو، على ما يبدو، معارضة سوكارنو لـ "تحرير" الاقتصاد الإندونيسي بما يتماشى مع مطالب صندوق النقد الدولي. وقد مكّن صعود سوكارنو إلى سدة الحكم من الدخول الواسع للشركات الغربية العملاقة إلى إندونيسيا واستغلال ثرواتها.

كذلك الحال فإنه قد جرى، في الكثير من المناطق الأخرى، استخدام خطاب الحرب الباردة بشكل جزئي على الأقل، كمبرر وكغطاء لمخاوف الولايات المتحدة الأمريكية من أن يؤدي ذلك إلى تطور الاقتصاد الإندونيسي بشكل مستقل لمصلحة الشعب الإندونيسي وليس لمصلحة الغرب. وبطبيعة الحال فإن واضعي السياسة الأمريكية لم يستخدموا هذه الصياغات. وربما كانوا يؤمنون بصدق أن إدارة عقلانية للاقتصاد الإندونيسي وفتحه أمام المستثمرين الأجانب، على خلاف "القومجية" الإقتصادية التي كان يتبعها سوكارنو، ستحقق الخير ليس للغرب فقط.

وبهذا المفهوم فإن قصة دعم الولايات المتحدة الأمريكية، للمذابح في إندونيسيا ولنظام الحكم العسكري القمعي الذي حكم بعد ذلك، تدل أيضاً على الطابع الأشمل لعلاقات الولايات المتحدة الأمريكية مع دول أخرى في المنطقة العربية - الإسلامية. وكان تقرير مجلس الأمن القومي الصادر في شباط / فبراير 1958 قد قال، على سبيل المثال، إن الثروات النفطية في الشرق الأوسط ضرورية جداً للولايات المتحدة الأمريكية، لكن المشكلة هي أن "غالبية العرب يرون أن الولايات المتحدة تظهر بوصفها معادية لتحقيق التطلعات القومية العربية. وهم يعتقدون أن الولايات المتحدة تريد حماية مصالحها في نفط الشرق الأوسط وذلك عن طريق دعم الوضع الراهن ورفض التقدم السياسي والاقتصادي".

ويواصل واضعو التقرير القول، بالفعل "إن مصالحنا الثقافية والاقتصادية في المنطقة دفعت [...] لعلاقات وثيقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وبين جهات في العالم العربي تتمثل مصلحتها الرئيسية في الحفاظ على علاقات مع الغرب وعلى الوضع الراهن في دولها [...] وهي العلاقات التي ساهمت في خلق الاعتقاد الواسع في المنطقة بأن الولايات المتحدة الأمريكية معنية بالإبقاء على العالم العربي مشتتاً، وملتزمة بالعمل مع الجهات "الرجعية" لهذا الهدف".

وفي شهر تموز/يوليو من العام نفسه اشتكى الرئيس ايزنهاور أمام نائب الرئيسي نيكسون من أن الولايات المتحدة حاولت منذ عام 1945 تحقيق الوصول إلى منابع النفط الحيوية في الشرق الأوسط بالطرق السليمة (وهو قد نسي على ما يبدو الانقلاب العسكري ضد مصدَّق في إيران عام 1953) إلا أن جمال عبد الناصر يريد السيطرة على هذه المنابع والحصول على القوة من أجل تدمير العالم العربي. وأضاف ايزنهاور إن المشكلة هي "وجود حملة من الكراهية ضدنا، ليس من قِبَل هذه الحكومات بل من قِبَل المواطنين أنفسهم. فهم يقفون إلى جانب جمال عبد الناصر". ورد نيكسون بالقول إن الرأي العام العالمي لن يتحمل فكرة أن "دول الشرق الأوسط هي مجرد بيادق في تنافس الدول العظمى على ثرواتها". ولذلك يجب صياغة هذا الأمر بمصطلحات التدخل الأمريكي ضد "التآمر" من قبل "القوى الخارجية".

يبدو أن الولايات المتحدة الأميركية لم تنجح عبر هذا الخطاب في إقناع مواطني الدول العربية والإسلامية. وقد ردت الغالبية العظمى من المسلمين على تساؤل الرئيس بوش، بعد أحداث الحادي عشر من أيلول / سبتمبر، "لماذا يكرهوننا؟" بأن المشكلة تكمن في السياسة الخارجية الأمريكية وإندونيسيا هي نموذج متوحش جداً لهذه المشكلة المستمرة.

 

ترجمة: مرعي حطيني