معارك شرقيّ الفرات: المقدّمات وواقع الميدان

لن تسمح واشنطن بأنْ تخرج الأمور عن السيطرة في مناطق شرقيّ الفرات، والمؤكّد أنْها ستتدخّل وتلجم الجميع عند نقطة معينة ومحدّدة من الصراع.

  • واشنطن في مناطق شرقيّ الفرات.
    واشنطن في مناطق شرقيّ الفرات.

تتسارع الأحداث في مناطق الريف الشرقي لمحافظة دير الزور، حيث تسيطر "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) منذ العام 2019 تحت الرعاية العسكرية والسياسية الأميركية، وحيث تنشط الذراع العربية العشائرية لـ"قسد" (مجلس دير الزور العسكري) منذ ذلك الحين. وتتصاعد الاشتباكات بين شريكيّ الأمس على مدار الساعة.

الأمر الذي حوّل قرى المنطقة وبلداتها كلها إلى ساحة حرب حقيقيّة مرشّحة للاشتعال أكثر، والامتداد إلى مناطق ومساحات جديدة في الشرق والشمال، خصوصاً بعد الدعوات العشائرية إلى الالتحام والنهوض في وجه "قسد" وطردها من المنطقة، وبعد توقّف الراعي الأميركي عند الدعوات إلى الهدوء، وعدم تحريك طائراته لمساندة فريقٍ ضدّ الآخر، كما جرت العادة في معارك "قسد" مع الفصائل التي كانت تنتشر في المنطقة قبل العام 2019. 

منذ بداية هذا العام، بدأت الخلافات تطفو على السطح بين "قسد" ومجلس دير الزور العسكريّ الذي تشكّل في نهاية العام 2016، والذي يتزعّمه المدعو أحمد الخبيل، الملقّب بأبي خولة، الذي ينحدر من فخذ "البكيّر" التابع لعشيرة "العكيدات" المنتشرة في سوريا والعراق، وغالباً ما كان شخص الخبيل نفسه مادة الخلاف الرئيسية، إذ جرى اتّهامه، وبعض المقرّبين منه، مِن جانب العديد من الناشطين والسكان المحليين برعاية مصالحه الشخصية فقط، وتبادل تلك المصالح مع "قسد"، وشقّ صفوف العشائر والقبائل هناك، وارتكاب انتهاكات جسيمة في المناطق التي يسيطر عليها فصيله.

 فيما اتُّهمَت الإدارة الكردية من جهة أخرى، باضطهاد أهل المنطقة وسوقهم إلى التجنيد، وإهمال ريف دير الزور وعموم المناطق العربية في الشرق، وعدم بذل أي جهد ملحوظ لتطوير الخدمات الأساسية التي يحتاجها السكان هناك، على عكس ما يجري في المناطق الكردية، لتتحوّل الخلافات لاحقاً وتصبح بين الخبيل و"قسد" بشكل مباشر، خصوصاً بعد أن لمست القيادة الكردية ازدياد قوة نفوذ الخبيل في المنطقة، وخروجه عن طاعة مجلس القيادة العام، وتصرّفه كزعيمٍ أوحد في الريف الشرقي للمحافظة، الأمر الذي دفع بقيادة "قسد" إلى القيام بعدة محاولات لتحجيمه وضبطه، من دون جدوى. 

وإذ جهد الأميركيون غير مرّة في احتواء الخلافات التي بدأت تتطوّر بين الطرفين، وتطويقها وعدم السماح بتدحرجها نحو الاقتتال، حدث تغيير جذريّ في العلاقة بين الشريكين في النصف الثاني من شهر آب / أغسطس الفائت، حين اعترضت قوة من "قسد" مجموعة من عناصر المجلس العائدين من نوبة حراسة في ريف الحسكة، وتطوّر الأمر إلى حدّ حدوث اشتباك بالأسلحة الخفيفة، سرعان ما استجابت له قوات من الطرفين، ليبدأ الاشتباك بالأسلحة المتوسطة أيضاً. 

وفيما حاول الطرفان التقليل من خطورة الحدث، عبر بيانات صدرت عن مسؤولين في "قسد" تحدثت عن خلافات عرضية جرى تطويقها وانتهت، وتصريحات من الخبيل نفسه، عدّ فيها أنّه وفصيله جزءاً أساسيّاً من "قسد"، وأنّ ثمّة خلافات في وجهات النظر لا أكثر، وأنّ القيادة العامة لـ"قسد" قادرة على حلّها، بيد أنّ الأحداث تطورت بطريقة دراماتيكية بعد استدعاء الخبيل لاجتماع مع القيادة العامة في نقطة "استراحة الوزير" في ريف الحسكة خلال الأيام الأخيرة من الشهر المنصرم، وتوقيفه هناك بأمرٍ من القائد العام لـ "قسد"، مظلوم عبدي، بحسب ما أشارت مصادر تتبع لمجلس دير الزور العسكريّ. 

وما إن بلغت أنباء اعتقال الخبيل الريف الشرقي لدير الزور، حتى أعلن شقيق الخبيل النفير العام بين قوات مجلس دير الزور العسكري، والتي يبلغ تعدادها حسب الإحصاءات المحلية الأخيرة، أكثر من 15 ألف مقاتل، مطالباً بالإفراج عن شقيقه فوراً وإلّا سيبدأ المجلس معارك لن تنتهي إلّا بطرد "قسد" وأجهزتها الأمنية والمدنية من عموم قرى المنطقة وبلداتها.

وهو ما تمّ الشروع فيه بالفعل، وسط نداءات للعشائر العربية بالتوحّد لطرد "قسد"، وقد لاقت هذه الدعوات استجابة لا بأس بها بين أهالي المنطقة، ليس حبّاً بالخبيل، بل بسبب حنق الأهالي على "قسد" وقراراتها المتعلقة بالتجنيد الإجباريّ وبفرض مناهج تعليمية صادرة عن "الإدارة الكردية"، وإهمالها لتلك المناطق. بينما لم تُعلّق قيادة الإدارة الذاتية على اعتقال الخبيل، بل أعلنت في 27 آب / أغسطس الفائت، عن عملية عسكرية تستهدف تنظيم "داعش" الإرهابي في مناطق سيطرة المجلس العسكري لدير الزور، وقد تزامن هذا الإعلان مع اعتقال الخبيل، ومع حشد "قسد" لقواتها في مواجهة قوات المجلس.

اللافت هنا أوّلاً، هو الصمت الأميركي عن اعتقال الخبيل من جهة، وعن نفير قوات مجلس دير الزور العسكري وشروعها في الهجوم من جهة أخرى، وهو أمر بالغ الأهمية لجهة دلالته على الخطط الأميركية الجديدة لسوريا انطلاقاً من المنطقة الشرقية والبادية، والتي تظهّرت بعد رفض "قسد" المشاركة في عملية عسكرية تستهدف الجيش العربي السوري وحلفاءه في الشرق وعموم المنطقة المحاذية للحدود السورية – العراقية.

ومع إعلان بدء الاشتباكات على أكثر من محور بين الطرفين، بدأ العديد من الكوادر العربية الذين يتبعون لعشائر دير الزور والحسكة والرقة، بإعلان انشقاقهم عن قوات "قسد"، والانضمام إلى ما أصبح يُسمّى "قوات العشائر"، والالتحاق بجبهات القتال التي انتشرت من منطقة الباعوز في ريف منطقة البوكمال في دير الزور، إلى وسط محافظة الحسكة، ومن أبرز تلك الجبهات: قرى أبو حمام، والجرذي، والشحيل، والعزبة، والبصيرة، وماشخ، وتل ضمان، والصور، والربيضة، والمويلح، والحصين، والكسرة، والكبر، والدحلة. 

وعلى المقلب الشمالي، واستجابة لنداءات العشائر الشرقية، شنّ بعض الفصائل العشائرية ضمن ما يسمى بـ"الجيش الوطني" الذي شكّلته تركيا في العام 2019، هجوماً على مواقع "قسد" في منطقة منبج وريفها في الريف الحلبي، وقد أسفرت الاشتباكات هناك عن سيطرة تلك القوات على قرى المحسلني، والمحمودية، وتلّة السيرياتل، وعرب حسن، وهي نقاط ومواقع كانت تُشكّل خط الدفاع الأول لـ"قسد" في ريف حلب الشرقيّ. 

وقد استطاعت "قوات العشائر" السيطرة على أغلب القرى المذكورة أعلاه، بينما استعادت "قسد" زمام المبادرة هذا الأحد، وتمكّنت من استعادة بعض القرى ذات الموقع الاستراتيجي، وأهمها، العزبة، والبصيرة، والصبحة.

وفيما نقلت تقارير إعلامية عن مصادر أميركية أنّ نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي، إيثان غولدريتش، وقائد عمليات "العزم الصامد" الجنرال جويل فويل، قد بحثا مع قائد قوات سوريا الديمقراطية، ووفد من عشائر المنطقة الشرقية، الوضع المستجد في ريفي دير الزور والحسكة، وأنّ اتفاقاً قد جرى بين الأطراف لمعالجة شكاوى سكان ريف دير الزور و"مخاطر التدخّل الخارجي، وضرورة تجنّب سقوط قتلى وجرحى في صفوف المدنيين، ووقف العنف والتصعيد في أقرب وقت ممكن".

 كما أكّد المسؤولان الأميركيان، بحسب المصادر، متانة وأهمية "الشراكة الأميركية مع قوات سوريا الديمقراطية، في جهود دحر قوات تنظيم داعش الإرهابي"، وسرت بعد هذا اللقاء أنباء عن التوصل إلى وقف لإطلاق النار بين الطرفين برعاية أميركية.

بيد أنّ مصادر أهلية وعشائرية في موقع الحدث، أكّدت استمرار الاشتباكات وعدم صحة الأنباء المتعلٌّقة بالتوصل إلى اتفاق بين العشائر و"قسد"، وقد جاء بيان شيخ مشايخ قبيلة "العكيدات"، أحمد الهفل، ليكشف عن حقيقة الأمر، إذ عدّ أنّ أي وفد لا يملك تصريحاً وتفويضاً واضحاً منه شخصيّاً أو من يمثّله، هو وفد لا يمثّل تلك العشائر مطلقاً، وأنّ أيّ بيانات أو قرارات تصدر عن اجتماعات كهذه، ليست مُلزمة لأحد من أبناء العشائر الذين يقاتلون على الجبهات. 

وقد حرص الهفل في الوقت عينه على تأكيد حرصه على التواصل مع "قوات التحالف" والسعي معها للتوصل إلى اتفاق يُرضي العشائر العربية في المنطقة، ويمنع إراقة المزيد من الدماء. وبُعيد إصدار الهفل بيانه هذا، الذي جرى تداوله على نطاق واسع، أصدر عبد العزيز حمدان الخالدي، شيخ عشيرة بني خالد، بياناً مرئيّاً أعلن فيه النفير العام لأبناء عشيرته وباقي القبائل والعشائر، للنهوض والقتال ضد قوات "قسد".

وإذ امتدت جبهات القتال بسرعة كبيرة وخلال أيام قليلة، من ريف دير الزور إلى أرياف الحسكة والرقة وحلب، في ظلّ عدم بروز نيّة أميركية جدّية للتدخل ووقف الاقتتال بالقوة، فمنَ المنتظر أن تتطوّر الأوضاع نحو الأسوأ في الأيام القليلة القادمة، مع ترجيح قيام "قسد" باستعادة المبادرة وإعادة السيطرة على عدد من البلدات والقرى ذات الأهمية الاستراتيجية لجهة الموقع، في ريف الحسكة خصوصاً، لكن من الصعوبة بمكان أن تعود "قسد" إلى العديد من القرى والمناطق التي خسرتها في ريف دير الزور الشرقي، لأنّ "الثأر" مع العشائر بات كبيراً جدّاً في تلك المناطق ذات الأغلبية العربية المطلقة، ولأنّ لواشنطن، وهذا هو المهم، خططاً أخرى لتلك المناطق وأهلها، كما لـ "قسد"، 

لن تسمح واشنطن بأنْ تخرج الأمور عن السيطرة في مناطق شرقيّ الفرات، والمؤكّد أنْها ستتدخّل وتلجم الجميع عند نقطة معينة ومحدّدة من الصراع، وسيكون هذا الأمر بمنزلة درس "العصا" الأميركيّ القاسي لـ "قسد" التي رفضت الدخول في معركة لصالح واشنطن في اتّجاه البادية والحدود العراقية، كما سيكون أشبه بـ "الجزرة" لقوات العشائر التي أعلن العديد من المجموعات المنبثقة منها، استعداده للدخول في معارك واشنطن تلك، وهنا يكمن الهدف الأميركيّ الأخير الذي سيتكشّف أكثر فأكثر بعد انقشاع الغبار عن نتائج المذبحة بين "خِراف" الراعي الأميركيّ.