حركة النهضة بين الإرادة والمُراد
هل وصلت درجة الخوف من اللوبي السعودي الإماراتي النافذ بتونس، استجابة حركة النهضة لرغباته الخبيثة والنزول عندها، وهي التي لا تعبّر عن الإسلام والمدنية في شيء؟ بل إنها استجابة لرغبات أميركا والصهيونية العالمية، التي عادت إيران منذ انتصار ثورتها وقيام نظامها، ولا تزال على ذلك المنوال تشتد فيه كل يوم، وتدعو عملاءها إلى شدّ إزرها عليه، أملاً في زحزحتها عن مبادئها الإسلامية المعلنة.
عندما كنا منتسبين لحركة الاتجاه الإسلامي - ونحن ثلّة من الشباب المتوقّد حماسة لأجل الإسلام- كانت الساحة الوطنية خالية من أي عمل إسلامي سياسي، ولم يكن فيها سابقاً سوى الحركات اليسارية والقومية، وبما أن بداية نشأة تأسيسها، كانت تستوجب فكراً إسلامياً شمولياً، يستجيب لمتطلبات العصر، وإشكالات مجتمعاته، في الاعتقاد بأن الدين لا شأن له بسياسة ولا اقتصاد، وحتى جوانب من المسائل الاجتماعية لا يرى له فيها موقف معتبر - كما يعتقده اللائكيون ومعهم بعض أدعياء الإسلام - سببه تغييب مُتعمّد للإسلام عصور طويلة، جعلت منه ديناً قاصراً عن الاستجابة لأغلب متطلّبات الحياة البشرية، والحال أن الإسلام جاء لأجل إصلاح ما أفسده الناس منها جميعها.
لقد كانت بداية الحركة الإسلامية محتشمة، وتكاد تنحصر في التبليغ المسجدي، بإقامة الدروس والمحاضرات، ولم تكن لها فعالية في الجامعة التونسية ولا وجود معتبر، إلا بعدما انفتحت قياداتها على الفكر الإسلامي الشيعي، وقرأوا مع طلائعهم المثقّفة، مؤلفات شيعية متنوّعة، في مقدّمتها كتابات الشهيدين محمّد باقر الصدر، ومرتضى مطهري، التي مكّنتهم بعد استيعاب أفكارهما في مجالات الاقتصاد، والرد على المذهبين الاقتصاديين الرأسمالي الديمقراطي، والاشتراكي الشيوعي، والتغلّب على مُنتسبيه في مناظرات طالبية، شهدتها المجاميع الطالبية، مكّنت الاسلاميين من اكتساح الساحة الطلابية، وترجيح كفّة الإسلاميين فيها..
جميع من عاصَر تلك الفترة الحساسة، من ظهور الطلائع الإسلامية، المؤمنة بحتمية قيام النظام الإسلامي، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، يدرك فضل الفكر الشيعي على الحركة، في تمكّنه وسيطرته شبه الكلية على الساحة الطالبية.
في الفترة التي تلت انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وقيام نظامها، كانت كل المؤشّرات توحي، بأن الحركة قد اختارت السير على نهج الثورة الإسلامية، وكان اندفاع عدد من قياداتها يؤشّر إلى ذلك، من خلال تعابير وكتابات، أعطت للقرّاء ذلك اللانطباع، فعلى سبيل المثال، كتب أحدهم في مجلة المعرفة، مقالاً بعنوان: (الرسول ينتخب إيران للقيادة)
لكنه ولأسباب مختلفة، بعدت مسافة الانتماء الاختياري، ليتحوّل بسرعة إلى حالٍ من الغربة، لتوجه قيادة الحركة، ويبدو أن النفس التيمي الوهّابي قد سجّل حضوره فاصطبغت ثقافة الجماعة بنزعة مُعاداة الشيعة وبدأت مطبوعات الباكستاني إحسان إلهي ظهير الدعائية ضد الشيعة تظهر وتوزّع بين أفرادهم ...
يمكن اعتبار حركة الاتجاه الإسلامي، الأمّ الإسلامية التي تفرّعت منها تيارات عقائدية وفكرية أواخر السبعينات وبداية الثمانينات، كجماعة اليسار الإسلامي في شخص مفكّرها الدكتور حميدة النيفر في العاصمة، والشيعة في شخص داعيتها الشيخ مبارك بعداش في قابس، وحزب التحرير في شخص داعيته محمّد سعيد في قابس.
لكن عقلية الهيمنة واحتكار الساحة، والخوف من تزايد انسلاخ المنتسبين على حركة الاتجاه الإسلامي، وأنانية عدم تقاسُم الوجود على الساحة، والاعتقاد بأحقية الاحتكار بعامل السبق، خصوصاً بعد تنازلها عن إسمها التأسيسي إلى حركة النهضة ، استجابة لطلب النظام في تغيير الإسم، عندما أستدرجت من طرفه، إلى تقديم طلب تأشيرة حزب سياسي، وكانت الغاية خبيثة في جس نبض شعبيتها في الانتخابات البرلمانية ووقوف النظام على حقيقة حجمها، ونسب مناصريها التقريبية ومدى تاثيرهم على محيطهم، وشكّلت نتائج الانتخابات صدمة للنظام البورقيبي، جعله يبادر لتزويرها أوّلاً، وينقلب على نفسه في اعتبارها حزباً سياسياً، له الحق في ممارسة نشاطه العلني في البلاد، بعد قبول ملفه، ومنعرجاً أمنياً خطيراً، سلكه النظام في تعامله مع قيادات ومنتسبي حركة النهضة، بشنّه حملة اعتقالات ومحاكمات صوّرية، كانت تهدف تقزيمها، وخلق حالة من الخوف الشعبي من الانتساب إليها.
قبل ذلك كان هناك استياء من خروج عدد من أعضاء ومنتسبي الحركة من العمل في صلبها إلى فضاءات أخرى، وكان للشيعة نصيب منها، أغاظ الشيخ راشد وجماعته معتبراً إياه طعناً في الظهر، ودعاه إلى تصريح مسجّل ردّاً على سؤال من أحد أعضائه، تعلّق بظهور الشيعة في تونس، فيه تهديد بالتصدّي للمدّ الشيعي في تونس.
وزاد الشيخ المحامي عبد الفتاح مورو على ذلك بالقول، إنّ الحركة - وهو أحد أركان تمثيلها - نبّهت النظام البورقيبي إلى خطورة الشيعة، كاشفاً من مضمون كلامه علاقة ما بالنظام، لا يعلم طبيعتها ودرجة تعاملها معه سواه، أو من ارتبط بنشاطاته على ذلك الملف.
من هنا يتبيّن لنا مدى الشّحن الذي تعبّأت به قلوب كبار قادة حركة النهضة، والذي بقيت آثاره إلى الآن، تظهر من حين لآخر بأشكال مختلفة، من التحريض السياسي والأمني ضد الشيعة، وتكفيرهم بالاستعانة بالجناح الوهّابي في الحركة، ومعاداة الجمهورية الإسلامية في إيران بشكل متخفّ وآخر معلن، كالادّعاء بأنها تقتل السنّة في سوريا - بينما هي تقدّم خدمات جليلة سيذكرها التاريخ في محاربة الإرهاب التكفيري- وتحميلها مسؤولية الإشراف ورعاية المدّ الشيعي في تونس والبلاد العربية، رغم خلوّ يدها من مُستمسكات ذلك الادّعاء، وتعرّيه من الحقيقة، وتفنّده بالقول، إنّ المدّ الشيعي ليس سوى اجتهادات أشخاص، بعد سلسة بحوث جادّة، أخذت بأعناقهم من خلالها، نصوص معتبرة - من صحاح ومدوّنات أهل السنّة أنفسهم - فرضت نفسها عليهم باتباع التشيّع لأهل بيت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، في حركة شخصية لا علاقة لإيران بها، واتهام فيه مغالطة كبرى، يستوي في ميزانه الدعائي، باتهام النظام البورقيبي بأن حركة النهضة خمينيون.
واليوم يبدو أن السلطة وحب الرئاسة - مهما كانت الوجهة والنتائج - قد حملت الجناح المتطرّف والاقصائي في حركة النهضة، إلى عقد اتفاق تفاهم مبدئي مع السعوديين من أجل تحقيق هدفين، الأول حماية أنفسهم من العدو الأخطر الإمارات العربية، وما تخطّطه ضدّهم على الساحة التونسية، والثاني مُجاراة النظام السعودي في حملته الأفريقية، التي صرّح بها وليّ عهده محمّد بن سلمان، بالتصدّي للفكر الإسلامي الشيعي ورمزه الأوّل إيران، ويعتقد السعوديون أنهم بأموال البترول والحج، بإمكانهم أن ينجحوا في وقف المدّ الشيعي، ولو بقتل المدنيين الشيعة في مناسباتهم وتجمّعاتهم بدمٍ بارد، كما وقع ذلك في (زاريا) في نيجيريا ..
اتفاقية تبدو صعبة التنفيذ في تونس لسببن، الأول قانوني وتشريعي حيث يضمن الدستور التونسي الباب الأول من مبادئه الأساسية العامة: الفصل السادس (الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، حامية للمقدّسات.. تلتزم الدولة بنشر قِيَم الاعتدال والتسامُح، وبحماية المُقدّسات، ومنع النيل منها، كما تلتزم بمنع دعوات التكفير، والتحريض على الكراهية والعنف، وبالتصدّي لها).
كما جاء في الباب الثاني من الحقوق والحريات: الفصل 21 (المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات، وهم سواء أمام القانون من غير تمييز. تضمن الدولة للمواطنين والمواطنات، الحقوق والحريات الفردية والعامّة، وتهيّئ لهم أسباب العيش الكريم.) وهي حقوق مكفولة لكل تونسي، بمُقتضى الدستور الجديد للبلاد، بقطع النظر عن معتقده وفكره وعليه يصعب فعل شيء بهذا الصدد يُكبّل حرية أي منهم الفكرية أو العقائدية.
والثاني أخلاقي ودبلوماسي، لا يُجيز قطع علاقات مع دولة، لم تتسبّب لتونس في ضرر، ولم تكن حشرت نفسها في الشأن الداخلي للبلاد، ومع انعدام الأخلاق والالتزام بالمواثيق الدبلوماسية، قد تصطنع مسرحية لا لون لها ولا طعم، وقد تفوح رائحتها السعودية، استجابة لرغبتها في الإساءة إلى اإيران وتشويه صورتها، ودفع حُسن نوياها بالسوء والادّعاء الباطل، كما فعلت ذلك من قبل دول عربية كالمغرب والسودان
هذا رأي الجناح الوهّابي في حركة النهضة، وما قد يسقط في شراك تنفيذه بشكلٍ أو بآخر، لكن هل ينزل عنده بقية أعضائها، خصوصاً أولئك الذين نهلوا من الفكر الشيعي السياسي والاقتصادي، فيفتحوا نار العداء والحقد على إيران، ويرضوا بأن ينخرطوا في منظومة أعدائها عديمي الضمير والإنسانية.
وهل وصلت درجة الخوف من اللوبي السعودي الإماراتي النافذ بتونس، استجابة حركة النهضة لرغباته الخبيثة والنزول عندها، وهي التي لا تعبّر عن الإسلام والمدنية في شيء؟ بل إنها استجابة لرغبات أميركا والصهيونية العالمية، التي عادت إيران منذ انتصار ثورتها وقيام نظامها، ولا تزال على ذلك المنوال تشتد فيه كل يوم، وتدعو عملاءها إلى شدّ إزرها عليه، أملاً في زحزحتها عن مبادئها الإسلامية المعلنة.
وأخيراً، هل يجب علينا تذكير الشيخ راشد الغنوشي، بمبادئه التي ضمنها فكره الإسلامي السياسي، في حق الاختلاف وواجب وحدة الصف؟ ومنها بينها قوله: (الحرية هي مبدأ أساسي ومتأصّل في الإسلام، إذ لا إكراه في الدين، ولا تقدّم لبلداننا، ما لم تحصل شعوبنا على الحرية .. وعلينا تعلم إدارة الاختلاف وقبول الآخر) وما سيترتّب عليه من مُراعاة دستور البلاد الجديد، واحترام الأقليات فيه، والنظر إلى ما يعرض على حركته من مقترحات بعين التقوى، والابتعاد عن السمسرة السياسية الخاسرة، ومراكنات المصالح، التي قد ترى حركته نفسها متورّطة ومنخرطة فيها بأحد الدوافع المذكورة سابقاً، وتعود بعدها بخفّي حنين، فهل تسقط هذا السلوك العدائي المتعارض تماماً مع أدبيات الفكر النهضوي، النخبة الخيّرة في الحركة، هذا ما سنرى امكان تحقّقه من عدمه لاحقاً.