الاتحاد الأوروبي وفرصة تخفيف العقوبات
الدافع الثاني لتخفيف العقوبات يتمثل في تحويل التهديدات إلى فرصة اختبارية لمدى تصلّب الولايات المتحدة في الاستمرار بسياساتها القديمة.
عانت الدول الأوروبية من تداعيات الحرب العالمية الثانية التي أثّرت فيها بشدة، فخرجت منها مثخنة الجراح، وخصوصاً ألمانيا، التي قُسّـمت بين القوتين العظميين الجديدتين، روسيا بهيكلها السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية.
ورغم الفارق بين التجربتين، كان من الواضح أن الولايات المتحدة هي الرابح الأكبر من هذه الحرب التي دخلتها في آخر عام منها، بعد ظهور الانكسار الألماني في الجبهة الشرقية مع السوفيات.
استطاعت الولايات المتحدة السيطرة على المسار السياسي والاقتصادي والعسكري لكل الدول الغربية، بعد أن ضخَّت الأموال لإعادة إعمار القارة العجوز ضمن إطار "مشروع مارشال"، ورسّخت القواعد العسكرية بحجة حمايتها من المد الشيوعي، وعملت في ما بعد على التغلغل في البنية الاقتصادية الغربية باستخدام الشركات العابرة للقارات، ما أدى إلى استحواذها على نسب متفاوتة من الشركات الأوروبية الكبرى، وجعلها تتحكَّم بسياساتها، بحجة امتلاكها أكثر من 10% من مكونات التصنيع ذات المنشأ الأميركي، ما ألزمها بسياسات العقوبات الأميركية على من تعتبرهم أعداء استفرادها باستمرار هيمنتها على المقدّرات الاقتصادية العالمية.
ألقت التحولات الدولية خلال العقدين الماضيين بظلالها على الاتحاد الأوروبي، غير المنسجم بمواقفه الفعلية تجاه السياسات الأميركية، وأظهرت أن التهديدات جراء النهوض الصيني والروسي ستترك آثاراً كبيرة في مستقبل هذا الاتحاد، وخصوصاً ألمانيا وبريطانيا وفرنسا.
أدركت الدول الثلاث التي تهيمن على القرار الأوروبي خطورة الواقع الأوروبي، ما دفعها إلى الذهاب بعيداً في الانخراط ضمن المشروع الأميركي -الذي لا يمكنها الاعتراض عليه - لإعادة هيكلة العالم، من خلال قلب الواقع السياسي في العالم الإسلامي، بإطلاق موجة من الاحتجاجات المُبرمجَة، ابتداء من شمال أفريقيا، والتي كان من المفترض أن تمتد إلى بقية العالم الإسلامي الذي يدخل في نسيج الدولتين الروسية والصينية.
ولكن الفشل في إسقاط الدولة السورية بعد التدخل السياسي الروسي- الصيني في مجلس الأمن، والدعم العسكري الإيراني- الروسي اللامحدود، قلب المعادلات بشكل جزئي، وأعاد التوازن إلى مناطق الصراع المتداخلة، ليرسم من جديد منحنيات بيانية تصاعدية لكل من الصين وروسيا، وتزايد التحدي للسياسات الغربية في كل من إيران وتركيا، وإن كانا من مبدأين مختلفين.
تجلى ذلك بشكل واضح على لسان الرئيس الفرنسي ماكرون في اجتماعه مع دبلوماسيين فرنسيين بتاريخ 27 آب/أغسطس 2019 في مدينة بياريتز، والذي اعترف فيه بأننا "نعيش نهاية الهيمنة الغربية على العالم" التي امتدت على مدى قرنين من الزمن، و"من الخطأ إبعاد روسيا عن أوروبا"، وتحدث عن "ضرورة فك الارتباط بينها وبين الصين".
ومع بداية انتشار جائحة العدوى بفيروس كوفيد 19 في الصين، بدا الموقف الغربي متمحوراً حول إمكانية انهيارها، أو بالحد الأدنى، فإن ما حصل سيجعلها منشغلة بنفسها إلى أمد بعيد، ولكن هذه التنبؤات انقلبت رأساً على عقب، بعد أن استطاعت بكين السيطرة على تفشي الجائحة، مقابل انتشارها في كل دول العالم، وخصوصاً إيران وإيطاليا وفرنسا وألمانيا وإسبانيا وبريطانيا، ثم انفجار الجائحة في نيويورك بشكل أساسي، وانتقالها إلى العديد من الولايات، ما كشف عن عجز غير قابل للتصور في الدول الغربية بشكل عام، التي من المفترض أن تكون أنظمتها الصحية النموذج الأمثل للنظم الصحية العالمية. وقد ترافق ذلك مع تدهور اقتصادي كبير وصل إلى درجة الكساد الكبير المشابه لما حصل في العام 1929.
أهم ما كشفته الجائحة العالمية هو صورة العالم الجديد القادم، وأن هناك تغيرات متسارعة على مستوى القوى العالمية صعوداً أو هبوطاً، ولا بد من تغيير السياسات استباقاً للتطورات.
من هنا، كان لا بد من التحرك عبر الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيرش، لتخفيف العقوبات عن الدول للمساعدة في السيطرة على الجائحة، وقد سبقت ذلك لتفعيل اختباري للتبادل التجاري وفق آلية "آنستكس" مع إيران، ومن ثم مهّد الاتحاد الأوروبي بأنه يدرس تخفيف العقوبات عن كل من سوريا واليمن وليبيا.
ولَم تكن هذه المحاولات الاختبارية ناشئة عن بعد إنساني، بل بسبب دافعين أساسيين، الأول يتعلق بالتهديدات العالمية من تأثير العقوبات، فطبيعة الجائحة تقتضي تعاوناً دولياً عالي المستوى لا ينبغي استثناء أية دولة منه، وخصوصاً الدول التي تتعرض للعقوبات، ويعاني نظامها الصحي ضعفاً شديداً، ولا قدرة لها على مواجهة انفجار الوضع الوبائي فيها، ما يشكل خطراً على دول الاتحاد الأوروبي التي تعاني أصلاً من عجز نظامها الصحي عن مواجهة الفاشِيَة، ما سيشكل بدوره المزيد من الأعباء الاقتصادية عليها.
وكان واضحاً أن مطلب تخفيف العقوبات يتعلق بالإطار الطبي فقط، ولا يمتد ليلامس ما يتعلق بالعقوبات الاقتصادية والغذائية.
أما الدافع الثاني لتخفيف العقوبات، فيتمثل في تحويل التهديدات إلى فرصة اختبارية لمدى تصلّب الولايات المتحدة في الاستمرار بسياساتها القديمة، واستمرارها كقطب وحيد في العالم، وتعطي مجموعة من الرسائل، وخصوصاً لروسيا والصين، بأنها تقرأ جيداً تحولات المشهد الدولي والدور المتصاعد لهما، وأن الدول الأوروبية يمكنها أن تستحوذ على دورٍ دوليٍ موازنٍ بين قطبي العالم الجديد، المنتظر ولادته بعد إسدال الستارة على الدول المنهزمة بفعل كائن صغير عابر للحدود الدولية.
رغم مرور بضعة أيام على محاولة تخفيف العقوبات، من الواضح أن الأمر ما زال صعباً عليها، مع ما يحمل ذلك من دلالات سياسية لا تخفى على القارئ السياسي، فهل سنشهد هذه الدلالات في الأفق القريب؟