أحفاد النقابي حشّاد إلى جانب سوريا

ربما يختصّ التونسيون يوماً كغيرهم من المُقاومين في المنطقة العربية والإسلامية ومن أحرار العالم، ربما يختصّون بباب توانسة قبل وبعد انتزاع مفاتيح باب المغاربة وإعادة معالم التاريخ إلى ما كانت عليه على درب زوال الكيان الإسرائيلي من الوجود.

للشهيد فرحات حشّاد عقيدة استراتيجية تتمحور حول التحرّر الوطني العربي والشامل
عندما انفجرت انتفاضة القدس وصمدت مُراكِمة عدّة عمليات نوعية هزّت كيان الاحتلال وتعمّقت وحقّقت نقلة نوعية في انتفاضة المسجد الاقصى ومحيطه وعدّة مناطق أخرى،  هزّت الإقليم والعالم أيضاً ولازالت مستمرّة، التقت في أثناء ذلك عدّة عوامل أخرى أضيفت إلى معركة الأقصى الأخيرة المتعلّقة بتغيير الوضع القائم هناك. عندئذ لاح لنا حشّاد الشهيد كما كان دوماً في أفق معركة تحرير فلسطين،  وعبقت به أرض تونس واستلمحت روحه في أرض فلسطين المُقدّسة.

تظاهر تونسيون أمام جامع الزيتونة المعمور انتصاراً للقدس ودعماً للمرابطين. ثم أتت زيارة وفد الاتحاد العام التونسي للشغل دمشق التي أوقدت مجدّداً قناديل طائر الجمر الحشّادي المُخضّب أبداً من أجل فلسطين. أخذتنا الذاكرة الحيّة إلى كومندوس حشّاد وإلى تسييره ورفاقه في الاتحاد العام التونسي للشغل قوافل المُتطوّعين لمقاومة احتلال العدو الصهيوني في فلسطين المحتلة حتى استشهاده اغتيالاً على يد عصابة اليد الحمراء التابعة للمخابرات الفرنسية.

كان ذلك على الأقل ورغم شحّ المعلومات الدقيقة المتعلّقة بالحركة الوطنية سواء في قسم أرشيفاتها الذي دوّنه تونسيون أو القسم الذي تركه الاستعمار الفرنسي، ما بين سنة 1948 وحتى سنة 1952 حيث استشهد الزعيم الوطني التاريخي للتونسيين. كان ذلك بالدعم المالي والمعنوي وبقواقل المتطوّعين وبالدفاع عن فلسطين في صفوف الحركة النقابية محلياً ودولياً وبكل الطُرق، ما جعل الحركة الصهيونية العالمية وأدواتها في تونس وما جعل الاستعمار الفرنسي يُعجّل باغتياله لما مثله من قيادة وتنظيم المقاومة المسلّحة لتحرير تونس من الاستعمار وفرض الاستقلال، ومن زخم شعبي عمالي غير مسبوق ومن تأثير مغاربي وأممي  عظيم يشهد عليه يوم اغتياله الذي امتدت فيه التظاهرات والمواجهات من تونس إلى كامل المنطقة المغاربية والعربية والأوروبية والآسيوية والأميركية فعمّت جل العواصم الكبرى.

منذ تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل سنة 1946 وقبل تولّيه أول سكريتارية أو أمانة عامة سنة 1949، كان إبن صيّاد السمك الفقير، لا يمشي على أرض ولا يعبر بحراً ولا يُحلّق في سماء إلا وتشقّ نفسه فلسطين المُستقرّة في أعماقه. وكان القائد الفعلي في ذروة الرمزية الوطنية المقاوِمة والتأييد الشعبي منقطع النظير ينحت من قلبه الهوية الوطنية العربية القومية المقاوِمة، ويُعمّقها بإسلام الزيتونة وإسلام ثورة البراق وثورة 48 ، وخصوصاً بالطبع بعد صاعقة تقسيم فلسطين سنة 1947 واندلاع المواجهة مع الاحتلال . قبل ذلك أيضاً ومنذ الثلاثينات دخل التونسيون في مواجهة أيادي الصهيونية في تونس ونظّموا المُقاطعة الشاملة لليهود العاملين لمصلحة الصهيونية، وجمعوا التبرّعات من صوَر المقاومين الفلسطينيين التي تأتي من أرض المعركة. وبعد ذلك انطلقت عمليات تحشيد وتجنيد وتنظيم وتأطير المتطوّعين للجهاد في فلسطين من حِرَفيين وفلاّحين ومُحاربين قُدامى وشباب عاطلين عن طريق تحدّي المخاطر التي تحمّلوها حتى الاستشهاد ، من طريق طرابلس الليبية ومن طريق القاهرة هم وأخوة رفاق لهم أتوا أيضاً من الجزائر والمغرب للانطلاق من أرض حشّاد.

للشهيد فرحات حشّاد عقيدة استراتيجية تتمحور حول التحرّر الوطني العربي والشامل، مروراً بما كان يعمل عليه من تجهيز لمُقدّرات تحرير شمال أفريقيا وامتداداً لكل الشعوب تحرّراً وطنياً وانعتاقاً اجتماعياً من كل روافد الفكر الثوري والفكر الاشتراكي. هذا وظلّت فلسطين غاية الغايات في عقيدة حشّاد حيث ساهم بقوة في تثبيت وتعميم رؤية المشاركة الفعلية بالرجال لقتال العدو الصهيوني والاستشهاد في فلسطين. وبالفعل وصل العشرات وشاركوا فعلاً واستشهدوا في بيت لحم وجنوب القدس وفي محيط مستوطنة راحات راحيل سنة 1948، وعبر المئات فعلاً إلى الأراضي المُقدّسة وقاتلوا في صفوف كتائب سوريّة تكوّنوا فيها كضبّاط على الأراضي السورية وضمن كتائب لبنانية ومصرية. ومنهم من عاد ومنهم من قُتل في الطريق، ومنهم من صد بالآلاف في تونس وخارجها عن الوصول وتأدية قسطهم للسماء. الثابت إن عقيدتهم كانت مُثبّتة على بوصلة فلسطين وعزمهم كان شديداً وعددهم كتونسيين كان أكبر من كل متطوّعي المغرب العربي وتدريبهم وتسليحهم كان في أكثر من عاصمة عربية.

لا شك أننا اليوم أمام نفس المشهد الإستراتيجي وروح حشّاد تُخيّم دائماً في نفس الأفق .