"فورين بوليسي": الاستعداد لأميركا أقل غطرسة
قراءة متأنية لكتابين لمستشارين يقدّمان المشورة لكامالا هاريس، تكشف عن رؤية لنهج أكثر تواضعاً قد تنتهجه الأخيرة في السياسة الخارجية في حال فازت بالرئاسة.
مجلة "فورين بوليسي" الأميركية تنشر مقالاً للكاتب مايكل هيرش، يتحدث فيه عن الخطوط العريضة لنظرة عالمية جديدة تعترف فيها واشنطن بصراحة بتجاوزاتها السابقة وتخفض طموحاتها بشكل كبير، كتبها مستشاران لكامالا هاريس، ما قد يمهّد لأميركا أقل غطرسة في حال فازت الأخيرة بالرئاسة.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية بتصرف:
على مدى السنوات الثلاث ونصف السنة الماضية، رددت نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس بإخلاص صدى رئيسها الرئيس الأميركي جو بايدن، من خلال استحضار النظرة العالمية المهيمنة نفسها التي تبنّاها كل رئيس أميركي منذ الحرب العالمية الثانية، ولكن قد يتم خفض مكانة الولايات المتحدة إلى وضع أكثر تواضعاً إذا تم انتخاب هاريس رئيسة في تشرين الثاني/نوفمبر، وذلك بناءً على تفكير مستشاريها الرئيسيين.
في عملهما المكتوب، رسم مستشار الأمن القومي لهاريس، فيليب جوردون، ونائبة مستشار الأمن القومي، ريبيكا ليسنر، الخطوط العريضة لنظرة عالمية جديدة تعترف فيها واشنطن بصراحة بتجاوزاتها السابقة وتخفض طموحاتها بشكل كبير، أو كما قالت ليسنر في كتابها "عالم مفتوح: كيف يمكن لأميركا الفوز في مسابقة النظام في القرن الحادي والعشرين؟"، الذي ألّفته عام 2020 بالاشتراك مع مسؤول آخر في إدارة بايدن: "يجب على الولايات المتحدة أن تتخلّى عن التفوق الاستراتيجي والنظام الدولي الليبرالي الذي عفا عليه الزمن بشكل متزايد بعد الحرب الباردة".
وكتبت ليزنر والمؤلفة المشاركة ميرا راب هوبر، التي تشغل حالياً منصب مدير مجلس الأمن القومي لشرق آسيا وأوقيانوسيا في عهد بايدن، أنه بدلاً من السعي إلى البقاء كقوة مهيمنة لا جدال فيها، يتعين على الولايات المتحدة أن تقلّص بشكل جدي دورها العالمي، وأنّ الوقت حان لكي تتخلى واشنطن عن هدفها في تحويل العالم إلى الصور التي ترسمها، وهو النهج السياسي الأساسي للولايات المتحدة الذي يعود إلى عهد وودرو ويلسون وفرانكلين روزفلت وهاري ترومان.
وبدلاً من ذلك، يتعين عليها أن تتقلص إلى دور أضيق بكثير، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الحفاظ على نظام عالمي مفتوح يمكن للولايات المتحدة أن تزدهر فيه.
وكتبت ليسنر وراب هوبر: "مع تراجع لحظة الأحادية القطبية، يجب أيضاً أن تتضاءل أي أوهام حول قدرة الولايات المتحدة على صياغة النظام بشكل أحادي وعالمي وفقاً لتفضيلاتها الليبرالية الخاصة، ويجب الإصرار على دور القيادة الدولية للولايات المتحدة، ولكن بعيداً عن الاعتماد على التفوق".
إنّ هذا النهج الجديد يعني التخلي عن الحملات الأيديولوجية أو استراتيجيات الاحتواء، وكل ذلك يصبّ في المصلحة العملية المتمثلة في إبقاء التجارة مفتوحة، وتعزيز التعاون في القضايا الحرجة، مثل تغيّر المناخ والأوبئة المستقبلية وتنظيم الذكاء الاصطناعي.
وبعبارة بسيطة، قال ليسنر وراب هوبر إنّ سياسات الاحتواء والهيمنة يجب أن يحل محلّها هدف أكثر تواضعاً بكثير يتمثّل في ضمان "الموارد العالمية المشتركة المتاحة". وقد كتبا أنّ الولايات المتحدة لديها مهمة حاسمة واحدة متبقية باعتبارها القوة العظمى "التي لا غنى عنها"، هي أنّها "الدولة الوحيدة القادرة على ضمان نظام مفتوح".
وعلى الرغم من اختلاف استنتاجاتهما، فإن كتابي جوردون وليزنر ينسجمان معاً في الحاجة إلى نوع من النهج الأكثر تواضعاً، على غرار ما اقترحته ليزنر وراب هوبر.
في الواقع، لا يوجد في كتاباتهما أي شك في أنّ جوردون وليزنر؛ المستشارين الرئيسيين للسياسة الخارجية للمرأة التي قد تصبح قريباً رئيسة الولايات المتحدة المقبلة، يعملان الآن على تدوين الدافع المناهض للتدخل الذي أصبح راسخاً في كلا الحزبين السياسيين.
إنّ المشكلة الأساسية الأخرى التي يشير إليها ليزنر وراب هوبر هي أنّ الولايات المتحدة ربما لم تعد قادرة على إدارة النظام الدولي الذي خلقته بالكامل.
ومن الواضح أننا نتحرك أيضاً نحو نوع من عصر جديد مناهض للتدخل، إذ سيكون الوضع الافتراضي لواشنطن، بغض النظر عمن يشغل البيت الأبيض، هو البقاء بعيداً عن الصراعات العالمية أينما وكيفما أمكن.
إذا فازت هاريس، من المرجح أن يكون جوردون وليزنر لاعبين رئيسيين. من المؤكد أنّ جوردون أكثر تقليدية وسيتردد في العبث كثيراً بدور الولايات المتحدة في الأمن العالمي، لكن من الجدير بالذكر أنّ ليسنر أدت دوراً مهماً في صياغة استراتيجية الأمن القومي لبايدن. ومع ذلك، اختارت الانضمام إلى طاقم نائب الرئيس عام 2022 للتأثير في السياسة للجيل القادم.
وعندما سُئِل أحد مساعدي نائب الرئيس عما إذا كانت هاريس تتبنى آراء جوردون وليزنر، قال إنّ هاريس "تتلقى المشورة من مجموعة من الأشخاص ذوي الآراء المتنوعة، وتعكس كتاباتهم السابقة آراءهم الشخصية. وأي شخص يتطلع إلى فهم نظرة نائب الرئيس للعالم لا بد من أن ينظر إلى ما قالته وفعلته على المسرح العالمي".
أما رئيس هاريس الحالي، فربما يكون إرث بايدن الأكثر ديمومة، والذي ستواصله هاريس كرئيسة بالتأكيد، هو أنّه سعى إلى تنفيذ نوع من السياسة الخارجية في منتصف الطريق التي تربط بين عصر شرطي العالم وعصر ضبط النفس الجديد هذا. كما حاول بايدن إيجاد حل وسط قابل للتطبيق بين الإجماع القديم على العولمة والإجماع الناشئ بين الأحزاب لمصلحة الحمائية والسياسة الصناعية.
ولكن في الوقت نفسه، منذ العملية الروسية لأوكرانيا والحرب على غزّة، عاد بايدن في كثير من الأحيان إلى استحضار وجهة النظر القديمة لما بعد الحرب العالمية الثانية بشأن دور الولايات المتحدة، واصفاً الولايات المتحدة بـ"ترسانة الديمقراطية" (عبارة روزفلت)، ومعلناً أنّ "القيادة الأميركية هي التي تبقي العالم متحداً".
ونظراً إلى الأزمات المستمرة في مختلف أنحاء العالم، وخصوصاً في أوروبا والشرق الأوسط، وربما شرق آسيا، إذا تصاعدت قضية تايوان، فمن المشكوك فيه إلى حد كبير ما إذا كانت الولايات المتحدة قادرة على التكيف مع التراجع، في حين لا توجد أي قوة كبرى أخرى تقترب من نفوذ واشنطن العالمي. وإذا كان بوسعها أن تفعل ذلك، فإنّ الحفاظ على الانفتاح العالمي قد يكون هدفاً جديراً بالاهتمام، وربما قابلاً للتحقيق.