"Counterpunch": الولايات الأميركية منقسمة

نحن الأميركيين نُحدّق بشكل جماعي في الهاوية والانهيار المتسارع للولايات المتحدة نحو التفكّك والانقسام، وسوف ينتهي أمرها كما الإمبراطورِيّات في التاريخ.

  • دونالد ترامب
    دونالد ترامب

موقع "Counterpunch" ينشر مقالاً للكاتب توماس دريك، وهو أحد كبار المسؤولين التنفيذيين السابقين في وكالة الأمن القومي الأميركي، يتحدّث فيه عن انحدار الديمقراطية في أميركا، خصوصاً في ظل رئاسة دونالد ترامب، والتفكّك المحتمل للولايات الأميركية.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية بتصرّف:

إنّ التغييرات التي أثارتها أو برّرت سياسات الأمن القومي الأميركي، والتي ترسّخت في المجتمع مُنذ وصولي إلى الوكالة المذكورة كمسؤُولٍ تنفيذيّ كبير في عام 2001، حيث كان واضحاً الضرر المتنامي على الديمقراطية فظيعاً إلى حدّ بعيد. ومن المرجّح أن تُحدّد الانتخابات الرئاسية التي ستجرى بعد أسابيع قليلة، ما إذا كان هذا الضرر سيبلغ مُستوى تدمير أسس التجربة الديمقراطية للولايّات المتّحدة.

يجب الاعتراف أيضاً بأنّ سياق الأحداث في الأشهر الأخيرة الماضية، كان محبطاً للغاية، ومن السهل جداً تحويله إلى سُخرية. ومن منظور شخصي أقدّم رأياً تأمّلياً حول رهانات الحكم في الولايات المتّحدة، في ظلّ السياسات السامّة وفيضان خطاب القسوة. وعند النظر إلى ما تبقّى من أميركا، علينا اتّخاذ خطوات مُتزايدة في التركيز الآن على ما يهمّ حقّاً في الحياة، وهو إنسانيّتنا الأساسية والاهتمام الفعلي برفاهية كلّ إخواننا من البشر، لا أن نُسلّم أمرنا إلى أولئك الذين لا يحترمون حياة الآخرين، ويرغبون ببساطة في السيطرة على الناس من خلال إساءة استخدام السلطة بجميع أشكالها، من قبل الأفراد الفاسدين وعبر المؤسّسات والشركات التي لا تأخذ بمصالح ناخبيها بعين الاعتبار.

تشهدُ الولايات المتّحدة على موسم جديد من الانتخابات الرئاسية، التي تضع الكثير من المسائل على المحكّ، في وقت فيه يُروّج مُرشّحٌ رئيسي بجلاء للسلطة الاستبدادية، بينما لا يتمسّكُ المرشّح المنافس إلّا بالحدّ الأدنى من التقاليد والقيم الديمقراطية. ولقد كان واضحاً أمام المسار القضائيّ والجمهور الإجراءات الخاصّة للرئيس السابق والمرشّح الحالي دونالد ترامب، الذي قاد مُؤامرة إجرامية لتخريب نتائج الانتخابات الرئاسية في عام 2020. بتعبير آخر، وباستعارة عبارة من فيلم "بضعة رجال جيدين"، أمر ترامب بإحباط إرادة الشعب الأميركي، لأجل البقاء في السلطة على نحو غير مشروع وبوسائل عُنفيّة، وعن طريق الخداع العميق الواسع النطاق والاحتيال، حرّض على حشد غوغائي في مبنى الكابيتول في مُحاولة مُجرمةٍ لِسرقة الفوز الانتخابي بالقوّة والترهيب. وبضراوة انتهك ترامب عمداً القسم الفريد والخاصّ الذي أدّاه كرئيس "للحفاظ على الدستور وحمايته والدفاع عنه"، لا كرئيس لمؤامرة إجرامية ضدّ الأمّة.

إنّ حملة ترامب الانتخابية الانتقامية الآن لاستعادة السلطة، هي نداء صفارة الإنذار لقضية خاسرة، يرغب ترامب وحلفاؤه في تحويلها إلى فُرصة كي تكون أميركا مركز الفاشية الجديدة، بما يُؤمن إطلاق العنان للمذابح والفوضى في جميع أنحاء الأرض وسحق ما تبقّى من الجمهورية الدستورية الأميركية.

يتمتّع المستبدّون عادةً بجرأة الكذب بعيون فُولاذيّةٍ، ويتطلّعون إلى تحويل الحكومة التي من المفترض أن تكون خادمة للشعب، إلى سلطة مُجرّدَةٍ من الأخلاق تكذب وتنكر لتحريف الواقع وتشويهها، لأنّها بحاجة مرضية لتدمير العقلانية عن طريق الدعاية الشعبوية والتحريف المليء بالدراما والخزعبلات، وغالباً ما تُصبح الحقيقة مُجرّد ضحية أخرى عندما يكون فقدان السلطة مطروحاً.

مع ذلك قضية تمرّد ترامب ومهاجمة الكابيتول، تتعلّقُ حقّاً ببقاء الدستور وسيادة القانون وأن لا أحد فوق القانون. والحالة نفسها هي أيضاً مثال صارخ على كيفية إفساد المؤسّساتِ العامّة والمسؤولين واختراقهم. إذا كان شخص ما فوق القانون، فذلك لأن القانون قد أُعيد تأويله أو تغييره أو ببساطة وضعوه جانباً وتجاهلوه.

كما تُروّج وسائل التواصل الاجتماعي لبيئة سامة من المعلومات المضلّلة والمجازات التي غالباً ما تطرد الحقيقة بينما تُجزّئ الواقع، وتحلّ محلّه الدعاية التي تُجمّد البوصلة الأخلاقية والمدنية، وبالتّالي تُدمّر الديمقراطية تحت شعار إنقاذها.

هناك الكثير من الفساد المطبّعِ على المستوى المؤسّساتي في الولايات المتّحدة، والذي يُحوّل السلطة نحو ممارسة الأعمال التجارية والتربّح والكسب والسيطرة والنفوذ، بما يُحوّل الديمقراطية وسيادة القانون إلى حُكم الخارجين عن القانون.

للأسف، يمكن مقارنة الأوضاع الأميركية بالحدث التاريخي في ألمانيا في العام 1933، حين عدّلت القوانين ومنح المستشار الألماني أدولف هتلر فُرصة إنفاذ قوانينه الخاصّة من دون أيّ ضوابط أو سلطة رقابة. كان تمرير قانون التمكين هذا بمثابة الانتقال الرسمي من ألمانيا كجمهورية ديمقراطية إلى استبدادية شُمولية، وبعد 6 أشهر قصيرة تحوّلَت إلى دولة الحزب الواحد يحكمُها الحزب النازيّ وحدهُ.

 في الصيف الماضي، عدّلت المحكمة العليا فعلياً دستور الولايات المتّحدة، مفاده أنّه لا يوجد قانون جنائي يطبّق على رئيس البلاد، لأنّ أعماله تفترض أنّه قام بها من موقعه المسؤول الأوّل الرسمي للبلاد. بِمعنى آخر منح الرئيس ترخيصاً دستوريّاً لإساءة استخدام السلطة تحت حماية الحصانة المطلقة لأفعاله كونها رسمية، ممّا يُؤدّي بالضرورة إلى إفساد الحكم تماماً، حيث يصبح الرئيس مُحَصّناً مهما ارتكب من جرائم.

قتل الديمقراطية ينتشر كحمض سامّ داخل الجسم السياسي للولايات المتّحدة أمام أعين الشعب الذي يقفُ كشاهد على الأحداث، ويتجاهل دوره كآخر شبكة أمان لحماية الديمقراطية الأميركية. وقد كتب القاضي كيتانغي براون جاكسون مُعارضاً لرأي الأغلبية في المحكمة العليا بشأن حصانة الرؤساء: "من اليوم سيكون رؤساء الولايات المتّحدة أحراراً في ممارسة سلطات القائد الأعلى للقوات المسلحة، وسلطات الشؤون الخارجية، وجميع سلطات إنفاذ القانون الواسعة المنصوص عليها في المادّة الثانية كيفما يشاءون بما في ذلك الوسائل التي يعدّها الكونغرس إجرامية، والتي لها عواقب وخيمة مُحتملة على حقوق وَحُرّيات الأميركيين، بحجّة أنّ إعطاء الرؤساء هذه الحصانة الواسعة من الملاحقة الجنائية بتبرير أنّهم يستخدمون السلطات الرسمية لمناصبهم للقيام بذلك".

ومع ذلك، كيف يمكن أن يكون قانونياً أن يرتكب الشخص جريمة وهو أقسم على حماية الدستور وصونه حين تولى المسؤولية. شخص أقسم على دعم القانون وهو يقفز فوقه مع ضمان الإفلات من العقاب تحت عباءة الحصانة، عوضاً عن التمسّك بروح القوانين بإخلاص، لا التخلّي عنها والتخلص منها وخرقها.

 من الصعب مناقشة المشهد الأدائي لكذّاب مرضي استبدادي مثل دونالد ترامب، إلّا بمواجهته بقوّة الحقيقة ومن موقع النزاهة العالي ضدّ خطابه الذي يدور حول عبادة الشخصية التي استحوذت على الكثير من المشهد الإعلامي وعلى عقول الكثير من الأميركيين على مدى ما يقرب من عقد من الزمان وهو لا يستحقّ.

الأجراس تقرع لأميركا. أجراس الإنذار تدقّ بصوت أعلى وروح أميركا تزداد تمزّقاً، وهي تتأرجح على حافّة الهاوية، ويضرب بها المثل بتوجّهها نحو مزبلة التاريخ، كما يزعم ترامب أنّه يتقدّمُ الآن كمنقذ كاريزمي، بينما يؤدّي في الواقع دور الأميركي القبيح والممثّل السياسي على خشبة مسرحيّة مخادعة، مُستفيداً من ماضيه التلفزيوني الشهير، لإطلاق الأكاذيب الضخمة المتدفّقة والمتراكمة ما يُسبّب عسر الهضم السياسي بشكل عامّ والانحدار الوطني للولايات المتّحدة كأمّة.

هل يستطيع هذا الجيل الآن أن يصعد ويقود سفينة الدولة الأميركية إلى مستقبل مُتجدّدٍ، ومُواجهة المخاطر الوجوديّة التي تلوح في الأفق في حال عودة ترامب إلى البيت الأبيض، ما من شأنه أن يدفع بأميركا إلى ذئاب الواقع السياسي المرير كي تتغذّى على ما تبقّى من الديمقراطية؟ فنحن نُحدّق بشكل جماعي في الهاوية والانهيار المتسارع لأميركا نحو التفكّك والانقسام، وسوف ينتهي أمرها كما الإمبراطورِيّات في هوامش التاريخ لا في صلبه.

مصير أميركا الآن على المحكّ إلى حدّ كبير، ولا يحقّ لها الحصول على بطاقة استثناء مجانية للخروج من أحكام التاريخ. فخطر الترامبية الواضح على الديمقراطية الأميركية، تحميه الديمقراطية نفسها، وهذا يفرض جُهداً إضافياً على جيل الشباب الذين لا يمتلكون على الأرجح الوقت الكافي والمساحة الوافية لمواجهة هذا كلّه، لكن عليهم أن لا يستسلموا ويمضوا في مُحاولة إنقاذ أميركا من الانقسام والضياع. فالولايات المتّحدة بحاجة إلى استعادة الحريات الفردية والمجتمعية الثمينة، وأن لا يسمح للفاشية التسلل للغدر بالحرّية، والانتخابات الرئاسية القريبة تُشكّل فرصة للأميركيين بعدم التصويت لأولئك الذين يدعمون بخجل القليل المتبقّي من الديمقراطية وبقايا الجمهورية، أو التصويت لأولئك الذين سيأخذون القليل من الديمقراطية، وينتزعون الكثير من قيم الجمهورية.

في رسالة الوداع التي كتبها جورج واشنطن في عام 1796، والتي هي أيضاً وثيقة الصلة باليوم حيث حذّر الشعب الأميركي من أنّ ثمن الاستقلال والحرّية وكذلك السلام في الداخل والخارج تعتمد جميعها على الوحدة بين الولايات في ظلّ سيادة القانون والدستور. 

كما حذّر من المخاطر الحقيقية لأي تحالفات دائمة بين الولايات المتّحدة والدول الأجنبية وخاصّة التشابكات الأجنبية. وحثّ الشعب على تجنّب العلاقات الودّية طويلة الأمد أو المنافسات المستمرّة مع أيّ دولة، بحجّة أنّ تشابك الارتباطات والتحالفات لنْ يُؤدّي إِلّا إلى تعقيد الحكم، ويمكن أن يجرّ إلى حروب غير مُبرّرٍة. ويظهر الشرق الأوسط مثالاً حياً كي نؤدّي فيه وصايا جورج واشنطن للبحث عن السلام وإحلاله من خلال الدبلوماسية.

لا يمكن لمؤسّسات ورافعات الحكم الديمقراطي أن تدافع عن نفسها وحدها. الأمر متروك لنا نحن الشعب.

نقله إلى العربية: حسين قطايا